لم يكن القرار الملكي بإسناد عملية إعادة تكوين القطيع الوطني إلى لجان تحت إشراف السلطات المحلية مجرد توجيه إداري عابر، بل هو تعبير صريح عن فقدان الثقة في المنظومة السابقة التي قادت هذه العملية، حيث الفشل لم يكن محض صدفة، بل نتيجة لسياسات حكومية مرتجلة عنوانها سوء التدبير، وغياب العدالة، وهيمنة منطق الريع والاحتكار.
خلال المجلس الوزاري الأخير، اختار جلالة الملك محمد السادس أن يضع القطار على سكته الصحيحة، موجها بأن تدار عملية الدعم بكل مهنية ووفقا لمعايير الموضوعية، تحت أعين اللجان التي تراقبها السلطات الترابية. خطوة تحمل في طياتها ما يؤكد سحب البساط من تحت أقدام وزارة الفلاحة، التي كانت في قلب العاصفة منذ عدة أشهر، بعدما تحولت عملية الدعم إلى موسم غنيمة لفئة محدودة من السماسرة والوسطاء، ممن قُدر عددهم بـ18 شخصا فقط، ومع ذلك تمكنوا من التهام نحو 13 مليار درهم، بدعوى دعم رؤوس الأغنام عشية عيد الأضحى.
وحسب مهنيين اتصلت بهم جريدة «الاتحاد الاشتراكي» فإن فعالية هذا النموذج الجديد تحتم وجود تنسيق محكم بين وزارة الداخلية ومصالح وزارة الفلاحة، خاصة المديريات الجهوية، من أجل بناء قاعدة بيانات موحدة للفلاحين ومربي الماشية، تحدد الأولويات بناء على الحجم، والموقع الجغرافي، وطبيعة النشاط. كما يقتضي نجاح إعادة تكوين القطيع، مواكبة الفلاحين بآليات التتبع والمراقبة، وتقييم الأثر خلال المواسم الفلاحية القادمة.
اليوم، ونحن على عتبة تنزيل الأوامر الملكية، يطرح المهنيون السؤال بإلحاح: كيف ستفعل هذه التوجيهات؟ كيف ستشرف اللجان الجديدة على التوزيع؟ ومن سيحدد لائحة المستفيدين؟ وهل ستمنح الأولوية حقا لصغار المربين الذين دمرت قطعانهم خلال سنوات الجفاف وتبعات الجائحة؟ ثم، ما الذي يضمن ألا يتكرر العبث، وإن تغيرت القبعة من وزارة الفلاحة إلى وزارة الداخلية؟
هشام الجوابري، الكاتب الجهوي لتجار اللحوم بالجملة بالدار البيضاءـ دعا في هذا الإطار إلى ضرورة إشراك المهنيين في القرارات التي ستتخذها الحكومة لتنزيل التوجيهات الملكية السامية، مؤكدا أن المهنيين لا يطالبون سوى بالمواكبة الشاملة خطوة بخطوة، لتكثير القطيع، معتبرا أن هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق بدون إعادة النظر كليا في سياسة دعم الأعلاف التي أثبتت محدوديتها لأن الدعم المالي وحده لا يجدي، إذ تبقى كلفة الأعلاف المحدد الحاسم في توسع القطيع، خاصة في ظل اختلالات هيكلية تعانيها السوق.
وحسب رأي مجلس المنافسة، يسيطر عدد محدود من الشركات على إنتاج الأعلاف المركبة، في ظل اعتماد شبه كلي على استيراد المواد الأولية، حيث تفوق نسبة التبعية للذرة والصوجا المستوردة 90%، ما يعرض السوق لتقلبات الأسعار الدولية، ويرفع تكاليف الإنتاج بشكل مزمن.
وفي هذا السياق، أوصى مجلس المنافسة بتشجيع الإنتاج المحلي للمواد الأولية، مثل الحبوب والبذور القروية، لتقليص الاعتماد على الاستيراد، ودعم الفلاحين وتوفير حوافز للاستثمار في هذا المجال. كما دعا إلى تعزيز آليات مراقبة الجودة والسلامة على مستوى جميع مراحل الإنتاج، واعتماد الشركات على تقنيات جديدة لتحسين إنتاج الأعلاف وجودتها.
هذا الوضع يستدعي إصلاحا موازيا على مستوى سلسلة الأعلاف، من خلال تحفيز الإنتاج المحلي للحبوب والبذور الزيتية، وتوفير الحوافز للفلاحين، وتعزيز مراقبة الجودة، والحد من الممارسات الاحتكارية. فبدون خفض كلفة العلف، لا يمكن الحديث عن تكوين فعلي ومستدام للقطيع الوطني.
وبالاستناد إلى أرقام وزارة الفلاحة، فقد تراجع القطيع الوطني بنسبة 38% مقارنة بسنة 2016، حيث انخفض عدد رؤوس الأغنام من حوالي 20 مليون رأس إلى ما بين 13 و14 مليون رأس، بينما تراجعت أعداد الأبقار بأكثر من 700 ألف رأس منذ 2020، ما يجعل هدف استعادة الحجم الطبيعي للقطيع يتطلب تعبئة موارد إضافية، تفوق 3 ملايير درهم سنويا لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات، وفق تقديرات مهنيين. هذه الأموال التي سيكلفها تكوين القطيع تدخل هي الأخرى ككلفة جديدة تنضاف إلى 13 مليار درهم التي خسرتها الدولة جراء التدبير الفاشل لهذا الملف.