توجه الناقد المغربي محمد الداهي، في فورة النشاط السردولوجي المغربي واستئثار الرواية بثماره الناضجة، إلى الانشغال النظري والمعرفي بالسيرة الذاتية كنوع سردي وتخييلي في آن، في وقت كان يُنظر فيه إلى هذا النوع بازدراء واستخفاف. وقد أثمر جهده الأكاديمي دراسات رائدة في هذا المجال: “شعرية السيرة الذهنية: محاولة تأصيل” (2000) و”الحقيقة الملتبسة: قراءة في أشكال الكتابة عن الذات” (2007) و”السارد وتوأم الروح: من التمثيل إلى الاصطناع” (2021) و”متعة الإخفاق. المشروع التخيُّلي لعبد الله العروي” (2022).
يبرز الناقد في هذا الحوار أهمية الأدب الشخصي، رغم وجود معايير متقادمة ملتصقة به، داعيا إلى الانفتاح على معايير جديدة لأجل إعادة الاعتبار إلى المحكيات الذاتية، وتوسيع شعرية الذاكرة، والاهتمام بالأجناس التذكارية ضمن هذا الأدب؛ بل إلى استحداث هيئة عربية تسهر على العناية به لأهميته وملاءمته وجدواه، مثلما تحرص على إنشاء متاحف للذاكرة الحية.
ما الذي قادك إلى الاهتمام بفنّ السيرة الذاتية؟
استأثرتْ السيرة الذاتية باهتمامي منذ فترة إعداد الأطروحة لنيل دكتوراه الدولة في بداية التسعينات من الألفية الثانية؛ إذ أعرتُ الاهتمام إلى المؤشرات التلفظيَّة بالاحتكام إلى دراسات إميل بنفنست (خاصة الدراستين “الجهاز الشكلي للتلفظ” و”الذاتية في اللغة”) التي أحدثت ثورة هادئة في مجال اللسانيات مُرْهِصةً بالإبدال ما بعد البنيوي. وسبق لباحث آخر من قبلُ، هو ميخائيل باختين، أن اهتم بالظاهرة العبر لغوية والتلفظية التي تخص نقل الخطاب بطرائق متعددة، وتمثيل كلام الآخر أدبيا وفنيا؛ ما يجعل السارد يستثمر – في خطابه – أصواتا أخرى بطريقة صريحة أو ضمنية. عندما قرأتُ وقتئذ “أوراق” لعبد الله العروي عاينتُ ـ علاوة على أقنعة السارد – تجليات الذاتية وآثارها في صور وهيئات مختلفة. من يتكلم في السرد؟ لا يتكلم شخص واحد، بل أشخاص كُثْرٌ يتناوبون في ما بينهم على أداء مهمة التلفظ من زوايا ومنظورات مختلفة. فضلا عن ذلك نعاين “الثنائية الصوتية” في خطاب أو كلام متلفظ واحد مؤديا صوتين مختلفين في الآن نفسه. حفزني هذا المُؤلَّفُ -بحكم أقنعته وجنسه الأدبي- على الاهتمام بالسيرة الذاتية، وجمع متونها؛ وهو ما أسفر عن صدور كتابي “شعرية السيرة الذهنية محاولة تأصيل” 2000، الذي ترك صدى طيبا في الأوساط الأدبية والنقدية، ووصل إلى المرحلة النهائية لجائزة المغرب للكتاب، إلى جانب الكتاب المتوج “في الرواية العربية: التكون والاشتغال” لأحمد اليبوري.
لاحظتُ أن السيرة الذاتية مبعدة من اهتمام “المؤسسة الأدبية العربية” كما هو حاصل في بلدان غربية بدعوى أنها خطاب الحقيقة، ولانحسار أدبيَّتها، ولعنايتها بأمور شخصية وذاتية (لمن تحكي مزاميرك يا داود). يعود الفضل إلى صفوة من النقاد المغاربة الذين كان لهم الفضل في الاهتمام مبكرا بالأدب الشخصي، خاصة بالسيرة الذاتية؛ وفي مقدمتهم عمر حلي الذي صدر له كتاب موسوم بـ”البوح والكتابة دراسة في السيرة الذاتية في الأدب العربي” وعبد القادر الشاوي الذي صدر له كتاب معنون بـ”الكتابة والوجود السيرة الذاتية في المغرب”. ونضيف إليهما محمد برادة الذي خصص جزءا من دراساته للنصوص السيرذاتية أو للنصوص التي يلتبس فيها الوقائعي والتخييلي (صدرت في ما بعد تحت عنوان “الذات والسرد الروائي”) وشارك ـ برفقة عمران المالح ومحمد عزالدين التازي وقمري البشري وعبد الرحيم جيران ومحمد السويرتي – في ندوة “الرواية المغربية بين السيرة الذاتية واستيحاء الواقع” التي نظمتها جمعية قدماء تلاميذ ثانوية الإمام الأصيلي أيام 8 و9 و10 شتنبر 1983. وفر رواد الرعيل الأول من النقاد أو مجايلي، المادة الأولى التي اعتمدتُها واستأنستُ بها لتوسيع مجال البحث في الأدب الشخصي، أو الخاص رؤيةً ومنهجاً. فكل ما صدر لي لحد الآن، يروم البحث في آثار المتلفظ ومواقعه والتباساته من منظور سيميائيات الذاتية (Sémiotique de la subjectivité) التي يعود الفضل في ابتكارها ونحتها إلى هرمان باريت في مؤلفه «الأهواء دراسة في تخطيب الذاتية»(1986).
كان لي السبق في تحليل طبقة من النصوص ذات الصلة بالسيرة الذاتية الفكرية، ثم بدأت أهتم شيئا فشيئا بأنواع الأدب الشخصي وبالقضايا المرتبطة به. ما أثارني-في هذه الفترة من عمري- هو اهتمام النقاد العرب بالرواية أو بالسيرة الذاتية؛ في حين لم يهتموا بالأنواع الكثيرة والملتبسة التي توجد في المنطقة البينية؛ أي ما يفصل بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل. اكتفوا بتحليل السيرة الذاتية الكلاسيكية، واهتموا مؤخرا بالتخييل الذاتي، في حين لم يكترثوا بما ينيف على ثلاثين نوعا. أهي مُهجَّنة أم مختلطة أم ذات خلقة غريبة؟ كل سؤال يحيل إلى مقاربة محددة من المقاربات التي سبق لي أن أبرزتها وفصلتها في كتابي “السارد وتوأم الروح: من التمثيل إلى الاصطناع”. يبقى الورش مفتوحا لحفز الطلبة على الاهتمام بالأنواع أو الأجناس الأدبية على الحدود سعيا إلى استيعاب هويتها وطبيعتها وقضاياها.
هل يمكن القول إن العرب القدامى عرفوا فن السيرة الذاتية؟ أم أنّ الأمر لم يكن سوى تراجم ذاتية تنعدم فيها شروط هذا الجنس الأدبي؟
بالرجوع إلى كتابيْ فيليب لوجون “الميثاق السيرذاتي” و”أنا أيضا” يتضح أن العرب القدامى كانوا واعين بنمط كتابي قادر على استيعاب مشاريعهم الذاتية. وهذا ما نلمسه في ثنايا عيِّنة من السير أو التراجم القديمة. أقصد بالتحديد: ‘المنقذ من الضلال’ لأبي حامد الغزالي، و”حي بن يقظان” لابن طفيل، “والتوابع والزوابع” لابن شهيد، و”التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا” لعبد الرحمن ابن خلدون، و”كتاب الاعتبار”لأسامة بن منقد وغيرها. يبرم عنوان «التعريف» ميثاقا سيرذاتيا مع القارئ، بالإحالة في الآن نفسه إلى نوعية الكتاب واسم صاحبه، وتقلب العنوان في صيغ مختلفة قبل أن يستقر ابن خلدون على العنوان الذي يراه مناسبا لمشروعه السيرذاتي، وكان العنوان الأصلي دالا كذلك: «التعريف بابن خلدون مؤلف هذا الكتاب». اعتنى العرب بمفهوم الترجمة والتراجم والطبقات لسرد أخبار أشخاص معينين (أنبياء، صحابة، شعراء، صلحاء، متصوفة) أو ذكر آثارهم وأعمالهم. ظل المصطلح شائعا إلى النصف الأخير من الألفية الثانية (“الترجمة الشخصية” لشوقي ضيف (1953) “التراجم والسير” لجنة من الأدباء (1955) “الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث” ليحيى إبراهيم عبد الدايم (1974) “فن التراجم والسير الذاتية” لأندريه موروا، ترجمة أحمد درويش، (1999) إلخ)؛ قبل أن يحل المفهوم المتداول محله اليوم، وهو السيرة أو السيرة الذاتية بفضل التفاعل إيجابا مع الثقافة الغربية.
انشغل العرب القدامى بنوع من السيرة الذاتية، وهو السيرة الذاتية الفكرية التي سبق لي أن رسمتُ معالهما وحددت نموذجها البنائي في كتابي “شعرية السيرة الذهنية”. وكرسوا في الاتجاه نفسه مفهوم السيرة (Biographie) الذي كان يُعنى به التراجم الطويلة والمستقلة (“سيرة الرسول” لابن هشام برواية ابن إسحاق، و”سيرة عمر بن عبد العزيز” لابن الجوزي، “سيرة ابن طولون” للبلوي، و”سيرة صلاح الدين الأيوبي” لابن شداد) وساد لديهم أيضا تقليد الكُنتيَّة (حديث الشيوخ عن أنفسهم واعتدادهم بمنجزاتهم وأفعالهم: كنتُ وكنتُ) الذي فصله أحمد بن علي آل مريع عسيري في مجلة «الخطاب» (العدد 13، 2013) كما راج تقليد الفهرس في المغرب، وهو عبارة عن كتاب يذكر فيه المؤلف مختلف المعلومات المتعلقة بحياته الدراسية، ويتتبع فيه أسانيد شيوخه في كل العلوم والكتب التي يرويها عنهم بتسلسل متصل بقصد توثيق أصوله العلمية قبل منح الإجازة. ما فتئ تقليد السيرة الذاتية الفكرية سائدا إلى اليوم مستوعبا تجارب جديدة لكل من إدوارد سعيد “خارج المكان” وسعيد بنكراد “وتحملني وظنوني سيرة التكوين” وبنسالم حميش “الذات بين الوجود والإيجاد” ومعجب الزهراني “سيرة الوقت: حياة فرد – حكاية جيل”. وفي هذا الصدد، كثيرا ما أعود إلى مقدمة «سبعون» لميخائيل نعيمة لأنه قدم لقرائه ومحبيه توضيحا منهجيا للتمييز بين حياته الخاصة وحياته العامة، وبيّن لهم الفائدة التي يمكن لهم أن يجنوها من سيرته الذاتية الفكرية، في حين أنه لن تنفعهم حياته الخاصة في أي شيء يذكر.
اهتممت بدراسة متون قديمة وحديثة تتعلق بأنواع السيرة الذاتية، إلا أن متن عبد الله العروي يستأثر عندك باهتمام أكبر، وقد اتضح في كتابك الجديد “متعة الإخفاق” (2022). ما هي الموجهات والأطر الكبرى التي تكمن وراء ذلك؟
يشغل عبد الله العروي جزءا من اهتماماتي النقدية منذ الإجازة في اللغة العربية وآدابها (1985) إلى الآن. خصصت لمنجزه التخييلي دراسات ومؤلفات، وأجريت حوارا معه “عبد الله العروي: من التاريخ إلى الحب” (1996) لمواكبة تجربته المتنوعة بحكم درايته بصناعة الرواية، وإلمامه بقمم الإبداع الروائي العالمي، واتخاذه السرد وسيلة لإسماع الأصوات المغمورة أو المخفية في طويته، والصدع بحقائق مغيبة في مؤلفاته النظرية. تتناسل في أعماله الروائية (الغربة، واليتيم، والفريق، والآفة) ومحكياته الذاتية (أوراق، خواطر الصباح “في ثلاثة أجزاء” المغرب والحسن الثاني، استبانة، بين الفلسفة والتاريخ، من ديوان السياسة) توائم روح عبد الله العروي التي لا تحل محل صورته الظاهرة حسب، بل تتصنَّعُها وتلغيها مُعبرةً عن استيهامات وخواطر وحقائق دفينة ومستورة، ومُقْتحمةً “مناطق الحساسية” بنوع من التمويه والتنكر والمداراة. لا يمكن في نظري فهم تصورات عبد الله العروي من الإخفاق الجماعي، والتأخر التاريخي، وضوابط التاريخانيَّة، والتركة الكولونيالية بالاكتفاء بمؤلفاته النظرية فقط، بل لا بد من اعتماد مؤلفاته التخييلية أيضا. وهذا لا يعني أن عبد الله العروي الروائي هو نسخة طبق الأصل من عبد الله العروي التاريخاني. لقد اضطر إلى كتابة الرواية منذ فترة الاستقلال لقدرة بنياتها على استيعاب الأصوات المختلفة على قدم المساواة، وتمثيل الواقع بطرائق فنية، والنفاذ إلى نفسية الشخصيات وتعرُّف أهوائها وتطلعاتها. كان يتمنى أن يكون روائيا، لكن ظروفا تاريخية طارئة غيرت وجهته إلى التاريخانية، ومع ذلك ظل وفيا لحبه الأول. كرس عوالمه التخييلية لاستيعاب الإخفاقين الشخصي (ما جعله يرتد من العمل الجماعي إلى الانطواء على الذات) والجماعي (تعثر أداء «الجماعات الوسيطة» وانقسامها، ووجود مفارقة بين المفاهيم والواقع) والتطلع إلى الانتصار عليهما والاستمتاع بهما بالسرد. ما فتئت الإخفاقات تتردد وهو ما يجعل الإنسان العربي يعيش المآسي نفسها. ويبقى الأمل في السرد لإعادة تشكيل الهوية السردية العربية، واقتراح أشكال حياة جديدة، وإتاحة هامش من الحرية للأصوات المعارضة والمخالفة قصد التعبير عن آرائها ومواقفها، وفهم نفسية الإنسان العربي وعقده (مخلفات الصدمات التاريخية).
لقد خصصتُ جزءا من اهتماماتي النقدية للأعمال التخييلية لعبد الله العروي، أسوة بمؤلفين عرب ينتمون إلى أقطار مختلفة. وهذا ما تشهد عليه مؤلفاتي التي أحرص فيها على الجانب التطبيقي للتدليل على صحة فرضيات معنية.
لماذا تقلّ ـ في نظرك- متون التخييل الذاتي في أدبنا العربي المعاصر؟
لا أظن أن تمثيلية التخييل الذاتي قليلة في الأدب العربي، والدليل أنه سبق لي أن درست عينات منها في كتبي: “الحقيقة الملتبسة: قراءة في أشكال الكتابة عن الذات” و”السارد وتوأم الروح: من التمثيل إلى الاصطناع” و”متعة الإخفاق: المشروع التخييلي لعبد الله العروي”. وسبق لي في دراستين باللغة الفرنسية (الأولى نشرت في الكتاب الجماعي «تخوم التخييل الذاتي» الذي أشرف عليه أرنو كنون وإزابيل غريل 2016، والثاني نشر في مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية في فاس، العدد19، 2013) أن وسعت المتن لأبين للمخاطب الآخر أن العرب لا يقلون نبوغا عن أندادهم الغربيين، وأنهم انخرطوا في التخييل الذاتي قبل أن يتوطد اصطلاحا بقرن من الزمن تقريبا. وعندما شاركت في ندوة «التخييل الذاتي» بسورزي لاصال 2012 في الشمال الغربي لفرنسا، عاينت أن النقاش يصب في إطار إثبات الشرعية العرقية للتخييل الذاتي بدعوى أن مكتشفه سيرج دبروفسكي هو يهودي الأصل، وهو ما فندته بالإتيان بأمثلة من الأدب العربي (وأخص بالذكر “الساق على الساق في ما هو الفارياق” لأحمد فارس الشدياق، و”إبراهيم الكاتب” لإبراهيم المازني) وبإبراز أن المفاهيم والأجناس ذات صبغة كونية؛ وهي بذلك شبيهة بالعملة التي يتداولها الناس في ما بينهم لقيمتها وجدارتها أيا كان أصلها وجنسها. ظلت كثير من الكتب مصنفة خطأ إلى أن وضع فيليب لوجون جدولا يستوعب كل الحالات السيرذاتية أو التي تلتبس بها؛ ومن ضمنه الخانة التي تعذر عليه ملؤها بمثال مناسب إلى أن صدر كتاب (Fils) لسيرج دبروفسكي، نظرا للطبيعة الجناسية للعنوان فهو يحتمل المقابلين الآتيين باللغة العربية (الابن/ الخيوط) الذي يعد أول محاولة جريئة وصريحة في الانتماء إلى التخييل الذاتي (ما أثبته المؤلف على ظهر الغلاف 1977) والتعريف به من خلال المراسلات التي تبادلها المؤلف مع فيليب لوجون، والمحاضرات التي ألقاها في محافل وندوات مختلفة. أنا أميل إلى “التعريف الحصري” للتخيل الذاتي، وتوجد كثير من الأعمال العربية التي تضرب على منواله (تفويض المؤلف شخصية خيالية تحمل اسمه لاسترجاع حياته الشخصية). في حين هناك من يميل إلى “التعريف الموسَّع أو العام” الذي يستوعب مقادير من الواقعي والتخييلي، ويمزج بين المطابقة والاختلاق؛ وهذا ما يصعب مأمورية تجنيسه، وحصر سماته من جهة، ويؤدي إلى التباسه بأنواع قريبة منه كالرواية السيرذاتية والسيرة الذاتية الروائية والسيرة الذاتية التخييلية. ما صعَّب فهم التخييل الذاتي في العالم العربي هو الإفراط في التنظير، دون الرجوع إلى المصادر، ودون الاعتماد على الوسائط ذات الثقة والمصداقية العلميتين، خاصة المؤلف القيم باللغة الفرنسية “التخييلات الذاتية العربية» لدرويش هيلالي بكر (2019)، وقد اعتمد مشكورا على مقالاتي باللغة الفرنسية حول منزلة التخييل في الأدب العربي.
رغم الاهتمام المتزايد بكتابات الذات في الوسطين الثقافي والإعلامي، إلا أن أقسام اللغة العربية في الجامعة المغربية لم تنفتح كما ينبغي على هذه الكتابات؛ هل يمكن القول إن للأمر علاقة بالتابوهات السوسيوثقافية التي ما زالت تتحكم في نظرتنا للذات والعالم، وبتردّي أوضاع درس الأدب والعلوم الإنسانية عموما؟
يحفل الأدب العربي بأنواع كثيرة من الأدب الشخصي. كلفتني مؤخرا “أكاديمية المملكة المغربية” بإعداد دراسة عن السيرة الذاتية في المغرب منذ عام 1960 إلى 2020، فواجهتني مصاعب بسبب كثرة متغيراتها وعددها وأنواعها. شهدت الكتابة عن الذات في المغرب انفجارا لانتباه المغاربة – بمختلف شرائحهم ومستوياتهم- إلى أهمية المحكيات الذاتية للتعبير عن تجاربهم ومشاريعهم الشخصية المختلفة، والإدلاء بآرائهم وشهاداتهم من وقائع وأحداث سابقة. ما يؤسف له أن عدد المختصين بالأدب الشخصي يعد على رؤوس الأصابع، وأن المؤسسة الأدبية لا تعير له الاهتمام المستحق، على الرغم من إصرار الصحافيين على محاورة شخصيات اعتبارية، أو استثنائية لفهم ما وقع بصفتهم فاعلين أو شهودا. ما فتئت معايير متقادمة ملتصقة بالأدب الشخصي (ضعف الأدبية، المغالاة في الذاتية، انحسار التخييل)، وهذا ما يتطلب الانفتاح على معايير جديدة لإعادة الاعتبار إلى المحكيات الذاتية، وتوسيع شعرية الذاكرة، والاهتمام بالأجناس التذكارية ضمن الأدب الشخصي. فعلاوة على أنها تسعفنا على فهم التجارب الشخصية في تناسق مع مجريات التاريخ العام، وملء ثقوب الذاكرة الجماعية، وإضاءة فترات تاريخية داجية، فهي تعد جزءا من التراث اللامادي الذي ينبغي الحرص جمعه وصيانته والحفاظ عليه.