الناقد سعيد يقطين يقارب: النص الترابطي، الإنسانيات الرقمية، الإبدالات المعرفية الجديدة

متابعات : في «محاورات» دار الشعر بمراكش

اختارت دار الشعر بمراكش، ضمن برمجتها الشعرية والثقافية للموسم الجديد، يوم الجمعة 25 فبراير، أن تنظم تظاهرة شعرية ونقدية ومعرفية جديدة ضمن فقرة ندوات وسمتها ب»محاورات»، افتتحها الأكاديمي والناقد سعيد يقطين .
الأكاديمي والناقد سعيد يقطين افتتح تظاهرة «محاورات»، عبر استقصاء لموضوع «النص التفاعلي الشعر ورهانات الرقمنة»، كإحدى القضايا المركزية اليوم في خطابنا النقدي. ولعل اختيار الدار لأحد إشراقات مشهدنا النقدي المغربي والعربي، نابع من التراكم الذي حققه الناقد سعيد يقطين، ضمن مساره البحثي في رصد علاقة الأدب بالثورة التكنولوجية وما خلفته من أثر على بنية وهوية الأدب نفسه.
في محاولة تجاوز قصورنا في استيعاب هذه التطورات الرقمية المتواصلة، فإن المزاوجة التي يقترحها الناقد سعيد يقطين ما بين الإلقاء الشعري والتشكيل البصري، في لحظة مزاوجة خلاقة، تمكن هذه الوسائط المتفاعلة من اختزال حقب شعرية بأكملها (النص الرقمي المركب).
هذه اللحظة المعرفية استقصت، ضمن ثلاث محطات أساسية، مناقشة وتحديد بعض المفاهيم المرتبطة بموضوع الندوة: النص التفاعلي، النص الترابطي، النص الالكتروني، النص الشبكي، … وعلاقة الأدب والرقمنة، النص الشعري والرقمنة. متواليات من المفاهيم والمصطلحات، سعى الباحث، سعيد يقطين، الى تحديد خلفياتها النظرية ومرجعياتها وتحديد تداولها. المحطة الثانية، في هذه التظاهرة العلمية، سعت الى مقاربة هذه العلاقة بين النص الشعري والرقمنة، والانتقال الى مستويات الأدبية والرقمية وتحديد خاصياتهما، وكيفية تحققها، الى جانب مستويات التلقي من خلال التفاعل الذي يحدث. المحطة الثالثة، وهي مستويات التركيب من خلال مايطرحه موضوع الشعر ورهانات الرقمنة، على مستقبل النص الشعري وتداوله، وعلى انتقاله الى بنيات وخصائص النص التفاعلي.

محاورات سعيد يقطين: لحظة معرفية لإخصاب الأسئلة النقدية

استهل الناقد سعيد يقطين مداخلته بالتأكيد، أن فقرة «محاورات» لدار الشعر بمراكش تأتي في سياق أمسى الحوار والسجال والنقاش ضروريا بعد الجائحة، كي يتسنى للإنسانية تجاوز هذه اللحظات العصيبة، مؤكدا أن المحور الأول، المتعلق بالتحديد المفاهيمي، مهم جدا بحكم سيادة فوضى وتسيب، لا حد لهما. وللجواب على هذا التحديد، انطلق الناقد يقطين من ما حققته المدرسة البنيوية، وربطها بالمفهوم الذي أعطته للنص، والتحول الذي طرأ عليه مع ظهور الثورة الرقمية والوسيط الجديد، إذ بدون هذا الربط لا يرى إمكانية لاستيعاب هذا التحول وظهور النص الجديد الذي أنتج في نطاق وسيط جديد هو الوسيط الرقمي والذي طرح سؤالا معرفيا في كيفية التعامل معه.
لا يعتبر الناقد يقطين البنيوية منهجا ولاعلما، بل إبدالا معرفيا استطاعت أن تنهي سيطرة العلوم الاجتماعية والفلسفة. لقد اتخذت الدراسات البنيوية، في مجالات الأدب، اللسانيات مجالا لها، والشكلانيون الروس قاموا بدراسة الأدب دراسة علمية من الداخل. وفهم النص الأدبي، من الداخل، هو أساس الإبدال المعرفي الجديد. إن أول رواية رقمية ظهرت سنة 1985، مستفيدة من البرمجيات الجديدة والثورة المعرفية التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية، في ظل استعمال التقنيات لدراسة الوثائق. وهنا ظهر النص المترابط (نيلسون اقترحه 1965)، وتعامل مع الوثائق بطريقة منسابة، فأي نص، كيفما كان نوعه، يعتبر عقدة ولكي يحصل على عدد لا متناه من العقد يقيم روابط بينها، ما إن تنقر على الرابط ستتحول الى روابط أخرى.

من النص الإلكتروني إلى المترابط إلى التفاعلي

وهكذا انتقل النص من بنية الى عقد، عوض أن يكون بنية منغلقة (رواية لها بداية ولها نهاية)، وهذه الصورة، التي قدمت للنص المترابط، هي نقطة انطلاق كتاب الناقد سعيد يقطين، «من النص الى النص المترابط»، حيث اعتبر أن النص ليس بنية متكاملة وخطية، بل هو عبارة عن شذرات.
إن ما يسمه الناقد يقطين بالمترابط، هو نص يركز على هذه الخاصية، لذلك يدعو الى ضرورة إعادة النظر في كتاباتنا العربية القديمة (لسان العرب مثلا)، لأن إعادة البحث في هذا التراث العربي، وفق هذه الرؤية، ستفتح لنا أفقا لكتابة عربية جديدة، علما أننا الى اليوم، توقفنا عند محاولات لم تمكننا من إنتاج نص مترابط.
في اللحظة الثانية، من هذه المحاورات المعرفية، انتقل الناقد سعيد يقطين الى تحديد سمات الثورة الرقمية، والتي أطرها في أنها شكلت مرحلة كبيرة في تاريخ البشرية، لا تختلف عن المراحل الكبرى في التاريخ (اكتشاف الأبجدية، النار، الطباعة..). الإبدال الجديد، بالنسبة للناقد يقطين، يتحدد في انتقالنا من المعلومة الى المعرفة، وإنتاجها يتحقق بصناعة البرمجيات، والتي تتيح إمكانيات للإنتاج والتلقي، وإلا سنظل نتساجل بعيدا عن العصر الحالي.

الإنسانيات الرقمية، الشعر الرقمي، والوعي الرقمي

ينوه الناقد سعيد يقطين إلى أن الوسيط الرقمي الجديد استطاع أن يخلق إنتاجا وإشكالا جديدا للتلقي، لكن السؤال هو كيف يمكننا أن نحقق الدرجة الملائمة من التفاعل بوسيط جديد علينا، كيف يمكننا أن ننقل النص الشعري من مجال تلقيه العادي ومن الورقي الى المجال الرقمي، هذا الوسيط الجديد/الأداة والذي يتميز بأنه وسيط مفتوح للبشرية جمعاء. إن سؤال الشعر ورهانات الرقمنة، والانتقال من فضاء الورقي الى الرقمي، يضيف، واقع لم نخض فيه لا تربويا ولا فلسفيا ولا اجتماعيا ولا نفسيا.. فهذا الإبدال الرقمي الجديد، والواقع الجديد أوجد علوما إنسانية جديدة. لقد ظهر اختصاص جديد، هو الإنسانيات الرقمية، لا نعرف عنه شيئا، وهو ما يفرض علينا محاربة الأمية الرقمية، ومعرفة جديدة بالإنسانيات الرقمية الجديدة، كي نصل الى إنتاج نص شعري رقمي وخلق فضاءات لتلقيه.
مفهوم النص المترابط دفع الناقد سعيد يقطين الى إعادة النظر في النص القديم، فأي معرفة جديدة تيسر علينا تجاوز وفهم معرفة سابقة، فعندما كان الحديث عن السرقات الأدبية، ظهر مفهوم التناص فتغيرت رؤيتنا وأمسى الحديث عن التفاعل مع النصوص، وهو ما يعطي بعدا آخرا للتواصل.. بل وحتى الحركات التي نستعملها، يمكن أن تخلق بيننا تفاعلا، لأنها وليدة فعل إنساني يقوم به الدماغ. وعند العودة للشعر العربي في صيرورته، والذي انتقل بموجبها من المرحلة الشفاهية الى الكتابة الى الطباعة، توقف الباحث عند اللحظات والتحولات التي مست النص الشعري، من العصر الجاهلي الى العباسي الى عصر النهضة..
مع مرحلة الكتابة، يتساءل الناقد يقطين هل تحولت القصيدة العربية أم بقيت ذات بعد شفاهي؟ على اعتبار أن الكتابة تخلق نمطا جديدا، بل وعرفت تحولات كبرى على مستوى الموضوعات واتصالها بالعصر، بالتالي فقدت البديهة التي كانت عند الشاعر وتحولت الى الصنعة ثم بعد ذلك الى التصنع (هنا يتفق الناقد يقطين مع توصيف سابق أشار إليه شوقي ضيف).
ضمن سيرورة التحولات التي مست بنية النص الشعري، ونمط الكتابة الشعرية، من قصيدة التفعيلة الى قصيدة النثر، طرح سؤال كيف نكتب القصيدة العربية؟ ثم كيف كنا نكتب القصيدة العربية القديمة؟ لقد سبق للناقد أن طرح ضمن كتابه الثاني عنوانا فرعيا، لم ينتبه له أحد حينها، وسمه ب»نحو كتابة عربية جديدة».
إن التجربة الشعرية المغربية، انتبهت مبكرا، للبعد البصري مع مدرسة الثقافة الجديدة (بلبداوي..)، في علاقة الشعر والتشكيل والفن البصري. لكن، رغم هذا الوعي المبكر، ظلت ثقافتنا، يشير الناقد يقطين شفوية حتى مع الانتقال الى الكتابة، إذ لايزال المنحى الشفوي متحكما. لذلك يثير مسألة، تشكل مقوما أساسيا في الكتابة وجاءت مع الطباعة، وهي علامات الترقيم، والتي لم نتعود على توظيفها عكس التجربة الغربية، إذ لا يمكن قراءة نص إبداعي دون علامات التنصيص.
من هنا، يطرح الناقد يقطين أفقا استشرافيا، كيف نكتب القصيدة العمودية كتابة جديدة تراعي علامات الترقيم وتلاعب البياضات؟ وعلى عكس النص القرآني، والذي خدمه العرب أكثر من أي نص آخر، بفعل علوم القراءة والتجويد ومخارج الأصوات، تظل الكتابة مقيدة في فضاءات الصفحة، وأمسى الشاعر اليوم يلعب على البياض في الديوان.
إن لحظة الإبدال الجديد( الرقميات)، تدفعنا الى استنبات أسئلة جديدة: ما الذي يريده الشاعر عندما ينشر نصه في هذا الوسيط الرقمي؟ هل لخلق فضاء جديد للتداول الشعري؟ هناك ضرورة لتجديد أسئلة الشاعر تمكنه أن يوازي بين الفضاء الورقي والرقمي.. لقد أعطت الثورة الرقمية مساحة كبيرة لتجاوز إكراهات المرحلة الشفاهية والطباعية، وهي قادرة اليوم أن تستجمع مختلف هذه الوسائط. لذلك يؤكد الناقد سعيد يقطين، أن الكتاب لن ينتهي ولا يمكن لأي وسيط أن يحل محل وسيط آخر، مضيفا أننا نعيش مرحلة تاريخية كبرى، على الأقل في التاريخ العربي الحديث. عكس مرحلتي (عصر النهضة وهزيمة 67)، لحظتان لم نستفد منهما في تغيير أسئلتنا للعثور على أجوبة جديدة.. لنستغل المرحلة الرقمية، ونبدأ من الصفر ونخلق أسئلة جديدة.

الانتقال من امتلاك الوعي الرقمي الى تفجير الخيال الرقمي..

المجتمع الذي لا يهتم بأدبه لا يمكن أن يخلق التفاعل بين مكونات هذا المجتمع، لأننا حسب الناقد يقطين، نعيش مرحلة تداخل الاختصاصات لكن ضرورة أن يكون الاختصاص أولا، مشيرا الى أن هناك حوافز جديدة لخلق العمل الجماعي، ويعتبر الناقد يقطين أن نموذج ورشات دار الشعر بمراكش للكتابة الشعرية (للأطفال واليافعين والشباب)، نموذج خلاق لهذا الحافز. خصص الناقد يقطين مداخلته، في اللحظة الأخيرة من لحظة محاورات، لاستقصاء محاور الثقافة الشعبية والمرقم، ومحور الإنسانيات الرقمية والتي طالب الناقد أن تكون حاضرة في الفضاء الأكاديمي المغربي، وسلطة الأدب والناشر والناقد، والعالم الرقمي وتجربة أمازون «العربية»، والثقافة الرقمية ، والتربية الرقمية ، ونظريات التلقي وجمالياتها، الديوان الالكتروني والشعر المسموع، رقمنة دواوين الشعر المغربي وتسجيلات قراءاتهم (مرحلة الستينيات..)، ملاءمة الخطاب الشفاهي والوسيط الرقمي، الانتقال من امتلاك الوعي الرقمي الى تفجير الخيال الرقمي..


بتاريخ : 05/03/2022