عن المركز الثقافي للكتاب ببيروت\الدار البيضاء، صدر للباحث الأستاذ إدريس الكراوي، والأمين العام للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، كتاب جديد هامّ بعنوان «التنمية، نهاية نموذج؟. وبهذا الإصدار الجديد يبرهن إدريس الكراوي على حضوره العلمي النشيط في مجال تطوير بحث اقتصادي مفتوح على أبعاده الاجتماعية والبشرية والبيئيّة، كما يبرهن على تتبّعه الدؤوب لمختلف النماذج الاقتصادية والتنموية والثقافية التي تبلورها المؤسسات والمنظمات الدولية والوطنية.
استنادا إلى هذا الرّصيد العلمي، يقدّم الأستاذ إدريس الكراوي، في كتابه الجديد، تشخيصا لأهمّ الظواهر التي تميّز نموذج التنمية لمجتمعات واقتصاديات القرن الحادي والعشرين، متسائلا عن مختلف التحوّلات النوعيّة الكبرى التي تعرفها مجتمعات واقتصاديات القرن الحادي والعشرين، وذلك على الأصعدة المؤسساتية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية. ومن ثمّ جاء عنوان الكتاب بصيغة تساؤل غير مباشر يكاد يكون سؤالاً إنكاريّا، لأنّ الأمر يتعلق بوضع افتراضات والسّعي إلى تقديم إجابات بصددها. ينقسم هذا الكتابُ إلى أربعة فصول متكاملة تتعلق بأربع قضايا كبرى هي التحدّيات التنموية المستقبليّة (الفصل الأوّل) ورهانات الإنصاف الاجتماعي (الفصل الثاني) ودور التكوين والقيم والحكامة الترابية في التنمية (الفصل الثالث) ورصد المظاهر الإقليمية والدّولية للتنمية (الفصل الرابع).
إنّ الاختلال الموجود اليوم، في نظر إدريس الكرواي، يتّضح أكثر على مستوى التوازن الداخلي للنظام الاقتصادي، حيث «نشهد احتدام تناقض ثلاثيّ يتجلّى في ثلاثة ظواهر مترابطة: المضاربة المالية ضدّ الإنتاج، السوق ضدّ الدّولة، والفرد ضدّ الجماعة».
على مستوى الاندماج الاجتماعي، يلاحظ الكاتب أنّ النظامَ الحالي يؤدّي إلى تفاقم ظاهرة الإقصاء على مستوى التشغيل وإلى تطوير أجيال جديدة من الفقر والفقراء. ذلك أنّ الثورة ما بعد الصناعيّة قد أدّت وتؤدّي بكيفيّة تدريجيّة إلى ظهور أشكال جديدة من تنظيم الأنشطة الاقتصاديّة تركّز أكثر على التكنولوجيا عوض اليد العاملة، مما ينبئُ بانتهاء عصر التشغيل الكامل بالتزامن مع ظهور أشكال جديدة لتعبئة الشّغل. لذلك، فإنّ بات من اللازم طرح مسألة الشغل في مجتمعاتنا من منظور جديد، وإعداد شبابنا لتقبّل هذا الواقع الجديد، والاستعداد للمستقبل الصعب الذي ستتراجع فيه قدرة النموذج الاقتصادي الحالي على التوفيق بين النموّ والتشغيل التامّ لمختلف الشرائح المجتمعيّة.
ويرتبط المستوى الثاني من هذه الوضعيّة باستفحال الأزمة، عالميّا، على مستوى أربعة جوانب من المسألة الاجتماعيّة: الجانب الأوّل متعلّق بأزمة الأنظمة الوطنية للحماية الاجتماعية بسبب العجز المتزايد عن تمويل أنظمة التغطية الصحية والتقاعد وتعويض الأشخاص في وضعيات بطالة، وتحمل التكفّل بالأشخاص في أوضاع صعبة كالأطفال المتخلى عنهم والأمّهات العازبات ربّات أسر والأشخاص في وضعية إعاقة. أما الجانب الثاني، فهو المتعلق بالتفكّك المتنامي للبنيات التقليديّة للتضامن الاجتماعي بسبب زعزعة استقرار العلاقات الأسريّة والجماعيّة نتيجة هيمنة منطق السوق. الجانب الثالث يخصّ الندرة المتزايدة للموارد العموميّة المخصّصة للقطاعات الاجتماعية مقابل طلب اجتماعي متنامٍ يشكّل ضغطا على قطاعات اجتماعية أساسيّة كالصّحّة والتعليم والسكن والشغل والتغذية. وأخيراً فإنّ الجانب الرابع يهمّ الاختلالات المالية الدّورية على المستوى الدولي، وما ينتج عنها من توسيع لدائرة الفقر وتعميق التفاوُتات الاجتماعية، واضطراب وضعيّة الطبقات الوسطى، يقابله إغراق الطبقات الميسورة في الاستهلاك المفرط الذي يتحوّل أحياناً إلى ميْل جارف إلى الاستهلاك كهدفٍ في حدّ ذاته قد يصل أحيانا إلى درجة العبث الاستهلاكي.
يركّز الكاتب، في المستوى الثالث، على حكامة المجتمع والاقتصاد، والذي يتّسم بعدم تمكّنه من الحدّ من ظواهر الرّيع والامتيازات والرشوة والمُضاربات، وهي ممارسات تنسف من الأساسِ قواعد المنافسة النزيهة، ومبدأ تكافؤ الفرص بين المُقاولات وبين المواطنين، الأمر الذي أدّى إلى سيادة سلطة المال وانعدام الثقة في المؤسسات وبروز أشكال غير مسبوقة من العُنف الاجتماعي والاحتجاجات والتمرّد التي قدْ تصل أحيانا إلى حدّ الثورة، مثلما حدَثَ في العديد من المناطق في العالم في أواخر العشْريّة الأولى من القرن الحالي.
أمام هذه الظّواهر، اتّجهت جهود الفاعلين السياسيّين والاقتصاديين والاجتماعيين، والمؤسسات الدوليّة والإقليميّة، نحو ابتكار أجيالٍ جديدة من نماذج النموّ والتنمية، تهدف أساساً إلى التوفيق بين النجاعة الاقتصاديّة والإنصاف الاجتماعيّ والتّوزيع المُنصف للثروة والاستدامة، إلى جانب إشاعة قيم العدالة والحرّيّة والكرامة.
ويفصّل إدريس الكراوي ملامح ومكوّنات هذه الأجيال الجديدة التي تتمحور حوْلَ أربعة توجّهات متكاملة: التوجّه الأوّل يكمن في المستوى المؤسّساتي، ويقوم على تقْوِية أسس وقواعد الديمقراطية التمثيليّة والتشاركيّة، باعتبارها النموذج الأمْثل للتدبير المُستقبلي للمجتمع، ولكوْنها هي الضمانة الحقيقيّة لحكامة مسؤولة تجمع في كلّ منسجم بين المُشاركة ونجاعة السياسات العموميّة وربط المسؤوليّة بالمحاسبة. أما التوجّه الثاني فهو إعادة الاعتبار، على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، لدوْر المقاولة وإعادة تحديد وظائف الدّولة، والتأكيد على أهميّة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني باعتباره إطاراً لترشيد عوامل الإنتاج والاستعمال الأمثل للثروات المنتَجة، ولتوزيع أكثر إنصافا لهذه الثروات بين الفئات الاجتماعيّة والمجالات الترابية والجنسيْن والفئات العمْريّة. وعلى المستوى البيئي، كتوجّه ثالثٍ، ينبغي مراعاة الأبعاد المرتبطة بالتّغيّرات المناخيّة، من خلال وضْع أنماط إنتاج وتنظيم اجتماعي مبنيّة على قواعد تنمية مستدامة تستحضر مصالح الأجيال القادمة، وتضمن استدامة الأنساق البيئيّة الطبيعيّة والتنوّع البيولوجي وحماية التراث الحيواني والنباتي والمُحافظة عليْه.
أما التوجّه الرابع، المتعلّق بمستوى طبيعة النموّ ونمطه، فإنه يركّز أساسا على الرأسمال غير المادّي، ولا سيّما الرأسمال البشري، وعلى الثقافة والقيم وتدبير الحقل الديني، نظرا لأهمّيّته الأساسيّة ودوره في بناءِ نماذج تنموية منسجمة مع الخصوصيّات التاريخيّة والحضارية للأمم، وكلّ هذا بهدف التوفيق بين درجة النمو ونوعيته، ومُستوى التنمية وطبيعتها.
من بين أبرز الخُلاصات المفصليّة التي انتهى إليها الأستاذ إدريس الكرواي أنّ المنظومة الدّوليّة باتتْ أكثر من وقتٍ مضى في حاجة ماسّة إلى التّأسيس لنموذج جديد للتنمية بعد ملامح إخفاق النموذج التنموي الحالي، على اعتبارِ أنّ النّماذج التنمويّة الناجعة هيَ النماذج التي تستطيع «أن توفّر مُستقبلا لاقتصاديّاتها ومجتمعاتها شروط التحقيق المتوازي لخلق الثروة وإنعاش الشّغل، والتّدبير المسؤول والمُستدام لمواردها الطبيعيّة، والتّوزيع العادل لثمار النموّ بين كافّة فئاتها الاجتماعيّة ومجالاتها التّرابيّة». لذلك يؤكّد الكراوي على أنّه إذا كانَ هذا التوجّه ضروريّا لضمان توفّر شروط الثقة الأمْن والاستقرار داخلها، فإنّه يشكّل السبيل الأنجع لاحتواءِ انعكاسات القطيعتيْن اللتيْن سيعرفهما النظامُ الاقتصادي العالَمي خلالَ العقود المقبلة من هذا القرْن:
القطيعة الأولى تتجلّى في وجود أوضاعٍ ديمغرافيّة ستفرز على الخصوص في أفق سنة 2050 قواتٍ ديمغرافيّة جديدة، من أهمّ مظاهرها انخفاض نسب ازدياد بلدان الشمال (بالقياس إلى الهند والصين وأفريقيا) وارتفاع الفئات المسنّة، واحتدام طلبها على اليد العاملة الشابّة والمؤهلة، في حين ستشهد بلدان الجنوب انفجارا ديمغرافيا يفضي إلى ضغطٍ متنامٍ على الحاجيات الأساسيّة في مختلف المجالات أبرزها التعليم والصحة والسكن، وإلى نزوح شباب بلدانها إلى الهجرة خارج أوطانها بحثا عن فرص لائقة للاندماج المهني والعيْش الكريم. كلّ ذلك في ظلّ تنادُرٍ مطّرد للموارد الضروريّة لتمويل النموّ والتّضامن.
أمّا القطيعة الثانية، فتتجلّى في الاستحالة الموضوعية للدولة مستقبلا إنتاج خدمات وسلع استهلاكيّة وتجهيزية قادرة على تلبية الحاجيات المتنامية لساكنة ما فتئت تطوّر أنماط استهلاكها، كمّيا ونوعيا. وهو الأمر الذي يستوجب، في نظر الأستاذ الكراوي، تنويع مصادر إنتاج وتوسيع قاعدته الاجتماعية عبر خلق مناخ ملائم لتطوير المبادرة المقاولاتيّة الخاصّة، وللإنعاش الإرادي للاقتصاد الاجتماعي والتضامني، إضافة إلى تحديد وظائف جديدة للتدخلات العمومية في المجال الاقتصادي. هاتان القطيعتان تجعلان خلق الثروة وتوزيعها التوزيع العادل في قلب بناء هذا الجيل الجديد من نماذج النموّ والتنمية، وتجعلان الرأسمال غير المادي رافعة مستقبليّة في عمليّة البناء هذه. ويبيّن الكاتب أنّ النموذج الأوّل هو نموذج عماده الرأسمال غير المادي، لأنّ النماذج التنموية الجديدة لم تعد تكتفي بالوقوف عند الرأسمال المادي فقط، بل تجعل من قدرة البلاد على تطوير الرأسمال غير المادي واستثماره بكيفيّة أنجع هدفا أساسيا. وتتجلى هذه الثروة المستدامة غير المادية في أربعة مكوّنات هي: تواجد رأسمال بشري متطور وذي جودة عالية يرتكز على منظومة محكمة وملائمة للتربية والتكوين المهني والبحث العلمي. وثانيا، تطوير رأسمال مؤسساتي يقوم على مبادئ الحكامة الديمقراطية والتشاركة. وثالثا، وجود رأسمال اجتماعي هو اللحمة الواقية للرابط الاجتماعي والتماسك الوطني. أما المكوّن الرابع فهو توفّر رأسمال ثقافي يستمدّ مقوّماته من التاريخ والجغرافيا والتراث والحضارة. هذه المكونات غير المادية مجتمعة هي الكفيلة بإحداث دينامية للتنمية ذات جاذبية في مجال خلق الثروة وإحداث فرص الشغل. أمّا النموذج الثاني فهو نموذج مبنيّ على الاستدامة في مجال المحافظة على الموارد الطبيعية والتنوع البيولوجي واعتماد اقتصاد أخضر، بينما يقوم النموذج الثالث على تطوير علاقات جديدة مع آليات الشّغل، من خلال تطوير القدرة على الرّفع من الإنتاجية الاقتصادية وتخفيض كلفتها مع ضمان استدامتها.
لقد باتَ من الضروريّ، يخلص إدريس الكراوي، على مجتمعات واقتصاديات القرن الحادي والعشرين توفير الشروط اللازمة لإحداث تغيير جذريّ للنموذج الاقتصادي والاجتماعي السائد داخلها، «إنْ هي أرادت مواكبة الأجندة الجديدة للمجتمع الدولي، كما تسنّها أهداف التنمية المُستدامة لمنظومة الأمم المتحدة لسنة 2030، وأرضيّة الحماية الاجتماعيّة الشاملة لمنظمة العمل الدولية، والمشروع الواعد للجنة حقوق الإنسان للأمم المتحدة (…) وكذا روح مضمون خطّتي الطريق الطموحتيْن اللتين تمخّضتا عن مؤتمريْ باريس ومراكش حول التغيّرات المناخيّة». إنّ مختلف هذه الخيارات الضروريّة تتطلب نمطا مسؤولا وتشاركيا وتضامنيا لحكامة الاقتصاد والمجتمع، وترجمة الوعي الجماعي بحتميّتها إلى سياسات عموميّة توفّر القواعد الصلبة لإعداد الأجيال المقبلة من التخطيط الاستراتيجي المواكبة لهذه الثورة النسقيّة الما بعد صناعية التي تعلن نهاية نموذج للتنمية وتؤسّس لميلاد نموذج جديد.