امرأة كثيرة الاشتباك مع القدر

 

تتركه يتكئ على كلماته الصماء المخبوءة، وتداوم على الابتسام بحذر مبالغ فيه كي تترك له الجرعة اللازمة للاستمرار. كان يقول لها أشياء يقشعر لها البدن، يكررها أمامها بتفاصيل طازجة وجديدة. حدثها عن رجل غريب يقف بينهما. رآها تكتب إليه الرسائل وهي غارقة في منتصف حزنها الغامق. رجل تخرجه كل ليلة من جرح في جسدها وتغرسه طولا وعرضا على سريرهما. قال لها إنها تكلمه بشيء قريب من الهمس، فتلتمع وتصعق وتتعرق.. فمن هو هذا الرجل الذي يشعر نحوه بحنق سخيف؟
لسبب غير مفهوم لم يطرح عليها هذا السؤال. لربما ساعدها ذلك على اقتحام تلك الغابة الصنوبرية المعتمة التي رآها تغرس أشجارها كل ليلة. بحث في رأسه، فلم يتحقق من وجود فأس، وهو لا يريد أن يكون قاطع أشجار.. ما يريده هو أن يسوى الأمر بسلام، وأن يعود ذلك الرجل الغريب إلى مكانه الطبيعي، داخل رواية ما من هذه الروايات التي تملأ غرفة النوم.. «ما الذي يملكه هذا الرجل ولا أتوفر عليه أنا؟»، خاطب نفسه وفسح لها مكانا لتعبر إلى الشرفة..
أ: أعلى برج في الحصن:

الشيء الوحيد الذي كان يحتاجه هو أن تفتح الصندوق، وأن تتوقف عن تفخيخ محتوياته بالاحتمالات. لم تكن بحاجة إلى إرشادات لتنهي ذلك النزوع الهمجي الذي يلح عليها لقتله. فكر أن الصندوق تفوح منه روائح البارود والدماء والطرائد، وكان سيحزن كثيرا لو أنه لم يحارب من أجلها ببسالة، وتركها تذهب لتصطاد رجلا يعدها بتلميع قدرها بعرقه، ليعيد إرسالها في آخر المطاف امرأةً محطمة وكثيرة الاشتباك مع ما لم تستطع أن تكونه. هي لا تفهم، مثلا، أن علاقته معها ليست طاولة قمار، وأنه ليس مهتما، كما تتخيل، بالنساء اللواتي يعانين سرا من نقص الحب. لا تفهم أنها حصنه العالي الذي بناه في وضح النهار، وأن لحظة مكر واحدة منها بوسعها أن تجعله يرتمي من أعلى برج في الحصن. كان حبها له متأججا لا ينتهي، فلماذا تذبحه بتلك الكلمات الجارحة الهاجعة في أعماقها؟ ولماذا تغلق عليها الباب لتختلي بتلك الكتب التي تتزاحم فيها مخاوفه؟ لطالما حدثته وهو ينزع جواربها من رجلها عن كاتب غامض يسمى يوسف السباعي. ولما يسألها عن عمره، كانت تضحك بصوت عال لتحتجزه في سكتة قلبية مؤجلة. تقول له إنه الرجل الذي جعلها تطل على مياه عميقة عندما كانت فتاة متقلبة المزاج، وأنه هو الذي علمها أن تغمض عينيها وتقفز من دون تردد تحت مطر دسمبر الغزير. اخبرته أيضا أنه الرجل الوحيد الذي يمكن أن تشعر معه أنها امرأة غير متروكة للصدفة، لتمشي معه بخطى متناغمة على شاطئ مهجور. شد جسده البارد كأنه انتزع نفسه من تابوت، وأشار إلى الأوراق المكدسة تحت السرير. هل كان ذلك سببا كافيا لتحجز تذكرة ذهاب نحو مهاوي النهايات.

ب: قذيفة في عقل رجل:

فكر أنها كلما دبرت مكيدة، ترى نفسها تُحْمَلُ على الأكتاف، وتتركه قتيلا على أرضية الملعب في أقل من نصف حياة. المرأة التي كانت تبرق له عيناها كل صباح، أصبحت تقضم كل الألوان التي يضعها أمامها. المرأة المفعمة بالدوائر تحولت إلى أنصال تنكأ جرحه العميق. تدعي أنه طوَّقها بالأصفار، وأنه يريد أن يجعل منها صورة معلقة على الجدار، وتناست أنها تفيض بالتقاطعات المفجعة. فمن يا ترُى يمسك النهار بيديه، ويشحذ أمانيه على مياه الثاني الحالكة؟ لماذا تصر على قلب الأدوار؟
هي ليست لحظة بعيدة تلك التي رآها تمزق الصورة، وتشعلها بالكبريت والبصاق. لم يقل شيئا. اكتفى بادخار غضبه وأغلق الباب. وحين رأته غطت رأسها بعباءة سوداء، وشرعت في النحيب مهددة بإغراق نفسها في المستقع المطل على الباحة الخلفية لأحقاده. هل كان رجلا دون أحقاد؟
تعوَّد أن يسحب ذلك الرجل من يده ويجره إلى الخارج. لماذا يصر هذا الرجل الورقي على تحريض طيوره الجارحة لتشق صدره وتأكل من كبده؟ يشعر بأنه يحقد عليه، وعليها، وعلى تلك التفاصيل التي حلت مكانها وجعلته يتذكر كل دقيقة أنه فقد امرأته، وأن قذيفة ما انفجرت في عقلها وحوّلتها إلى كائن يهيم في حرارة نقيضه.
امرأة تخترع الخيبات على مقاس الفصل، وتصر على الضرب على أوتاره بعنف كي تجعله يمضي إلى حال سبيله. لا تريد رجلا في البيت. تريد شاعرا يستطيع أن يوفر لها تذاكر السفر إلى الفرح، وليس رجلا يتركها وحيدة وباردة مع طفلين، وحين يعود يعبر أمامها بقسوة عن أفكاره، والصورة الأثيرة في ذهنه أن يملك امرأة جميلة تتفرج لساعات من نافذة البيت على المبنى المهجور في الجهة المقابلة لأحلامها.
كانت دائما تقف آمنة أمامه مزغللة النظرات. ترمي ببطء سينمائي جزءا من خصلات شعرها أمام وجهها فيما تتدلى قلادة من عقيق على نحرها، كأنها تطلب منه أن يجعل منها امرأة منزوعة الحياء.. والآن، ها هي تهاجمه بسفره شبه الدائم، وبذلك القدر الهائل من الانطفاء كلما اقترب منها وحاول تقبيلها..

ج: الأمكنة التي لم
يرها بشر

كثيرا ما أفزعته بصراخها العالي. يحدث ذلك أحيانا عند الفجر أو قبله بدقائق، وأحيانا حين تسدل ستائر البيت في الظهيرة وتنام. تقف وتصرخ جاحظة العينين. يتدلى منها نهد، فتشده بعنف وتعوي. تأخذ بخناقه وتمزق ظهره بمخالب دوري وقع في الشرك. تقول له إن رجالا داكنين يملؤون رأسها بأمكنة لا تسمى، وأنهم يدورون حولها وهم يأكلون اللحم الأسمر المملح، ويشربون أكواب الشاي بالزنجبيل. إنهم سادة المكان، وهم الذين يساعدونها على ركوب ألواح الأرض المتحركة، فتسافر طولا وعرضا، وعمقا وارتفاعا نحو تلك الأمكنة التي لم يسبق أن رآها بشر.. كانت تفوح منها رائحة امرأة تعاني من الخوف، وكان يدرك أنها بحاجة ماسة إلى شعور جديد بالثقة، وإلا تعرضت حياتهما للدمار. هل الكتب هي التي أفسدتها أم أنها امرأة مختلة تختاج إلى مكابح قوية؟ حين يراها على تلك الحال، لم يكن بوسعه أن يتظاهر بوجوده في مكان آخر. يسمح لها بالتردد كالمعتاد على المكتبات، ويرافقها إلى المسارح وقاعات السينما، ويأخذها أحيانا إلى ملهى ليلي لترقص كالمخطوفة. حين يكون معها، لا ينظر إلى ساعته. يكتفي بتركها تشق طريقها نحو نفسها. وحين يعودان، تسبقه على بعد مسافة لتنام. لم يكن ذلك كافيا. ظلت تحدق في عينيه بوقاحة تامة، وتستفز رجولته ليخلي سبيلها. تكرر على مسامعه تلك الجملة الخراب: « هل يرضيك أن تقضي عمرك كاملا مع امرأة لا تحبك، ولن تحبك على الإطلاق؟». حين يسمعها تقول ذلك، يتدفق سرب من النمل على كتفيه، ويتسلل من ثقب كبير في صدره وينزل إلى ركبتيه..


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 13/09/2019

أخبار مرتبطة

من الواضح أن العلاقة بين القارئ والكاتب شديدة التعقيد؛ ذلك أن لا أحد منهما يثق في الآخر ثقة سميكة، وما

  وُلِدَت الشخصيةُ الأساسيةُ في روايةِ علي بدر (الزعيم) في العامِ الذي بدأت فيه الحملة البريطانية على العراق، وبعد أكثر

  يقول دوستويفسكي: «الجحيم هو عدم قدرة الإنسان على أن يحبّ». هذا ما يعبّر عنه الشاعر طه عدنان في ديوانه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *