تشق آلية مدرعة تابعة لقوات سوريا الديمقراطية طريقها بصعوبة بين حفر كبيرة خلفتها الغارات التي تلاحق مقاتلي تنظيم الدولة الاسلامية عند آخر خطوط الجبهة في شرق سوريا.
قبل وصولها إلى قرى وبلدات خالية من السكان، تمر المدرعة في طريق صحراوي طويل فيما يصدح صوت أم كلثوم مرددة “يلا نعيش في عيون الليل ونقول للشمس تعالي تعالي” على مسامع مقاتلين في قوات سوريا الديمقراطية.
يزداد حجم الدمار تباعا مع التقدم في عمق ريف دير الزور الشرقي، المنطقة ذات الطبيعة الصحراوية. ويؤشر تزايد عمق الحفر وخلو القرى من سكانها تدريجيا للاقتراب من الكيلومترات الأخيرة حيث انكفأ مقاتلو التنظيم الذين يدافعون بشراسة عن آخر مواقعهم.
من قرية الكشمة مرورا بالشعفة وصولا إلى الباغوز، الأقرب إلى الحدود العراقية، تحولت مبان على جانبي الطريق إلى أكوام من الحجارة والتراب والقضبان الحديدية، بينما اقتلعت واجهات محال تجارية من أساساتها.
عند مدخل الشعفة، كتبت على جدار بيت صغير عبارة “استسلم تنظيم الدولة الإسلامية”. وفي أحد شوارعها، لا تزال عربات مخصصة لبيع الفواكه والخضار مركونة في مكانها، لكنها خالية إلا من قطع قماش كانت تغطيها.
تكمل المدرعة طريقها إلى بلدة الباغوز، التي تشكل أبرز خطوط الجبهة بين قوات سوريا الديمقراطية والتنظيم المتطرف.
على سطح أحد منازل البلدة، يراقب مقاتلون سير العمليات. يتنقل قيادي ميداني بينهم حاملا جهازه اللاسيلكي ويتبادل الحديث مع المقاتلين في الجهة المقابلة باللغة الكردية.
على بعد شارعين، تمر عربات مصفحة تابعة للتحالف الدولي بقيادة واشنطن، الذي ينفذ ضربات كثيفة ضد مقاتلي التنظيم، تبدو آثارها واضحة في الحفر التي يكاد لا يخلو شارع منها.
لم يكن يوم السبت سهلا على قوات سوريا الديمقراطية، مع اعتماد التنظيم على انتحاريين لإعاقة تقدم خصومه، في استراتيجية لطالما اعتمدها التنظيم في كل منطقة أوشك على خسارتها بهدف إيقاع أكبر قدر من الخسائر.
ويقول القيادي الميداني آرام جاويش لوكالة فرانس برس “حدث أمر كبير اليوم (السبت)، إذ فجرت خمس انتحاريات أنفسهن في أنحاء مختلفة من الباغوز، ما أسفر عن مقتل مقاتل من قواتنا وإصابة ثلاثة آخرين بجروح”.
ويروي مسؤول ميداني آخر يعرف عن نفسه باسم دامات أن “انتحاريتين فجرتا نفسيهما قرب نقطتنا”، موضحا “رأيناهما تقتربان بلباس أسود، صرختا +الله أكبر+ ثم فجرتا نفسيهما”.
من جهة أخرى، أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان عن أربع عمليات انتحارية أخرى جرت مساء السبت وأدت إلى سقوط 11 من مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية.
وقال فارون من الباغوز التقتهم فرانس برس خلال اليومين الأخيرين، ويرجح أن غالبيتهم من عائلات الجهاديين، إن العديد من السكان ما زالوا عالقين في البلدة.
وأعلن المرصد السوري لحقوق الإنسان قبل أيام أن قوات سوريا الديمقراطية استعادت السيطرة على الباغوز، لكن قياديين ميدانيين يقولون إن جزءا صغيرا منها يتواجد فيه جهاديون ومدنيون لا يزال خارجا عن سيطرتهم.
ويوضح جاويش “ضاقت بهم (الجهاديون) الأحوال، باتوا محاصرين بين الحدود العراقية من جهة وقوات سوريا الديمقراطية من جهة ثانية”.
وفي مقابلة مع فرانس برس قبل أيام، توقع القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم كوباني الإعلان رسميا عن انتهاء دولة “الخلافة المزعومة” في مهلة أقصاها شهر ، حتى إتمام السيطرة على القرى المتبقية وتطهير الحدود العراقية ونزع الألغام وملاحقة آخر “فلول” الجهاديين.
ويحاول الجهاديون “المقاومة” مستخدمين الأنفاق التي حفروها في كل حدب وصوب. ويقول جاويش “في كل عملية اقتحام تقوم بها قواتنا يخرجون من الأنفاق ويفجرون أنفسهم”.
وتمكنت قوات سوريا الديمقراطية من طرد التنظيم من 80 في المئة من قرية المراشدة القريبة، وفق القيادي الذي يوضح أنه “لم يبق فيها سوى زاوية يختبئ عناصر داعش في أنفاق تحتها”.
وتسببت غارات للتحالف السبت بمقتل 19 من عناصر التنظيم، وفق حصيلة أوردها المرصد السوري لحقوق الإنسان الأحد.
ولا تفارق طائرات التحالف الدولي سماء الباغوز. فجأة يتردد دوي انفجار ويتصاعد الدخان من مكان قريب جراء غارة شنتها إحدى تلك الطائرات.
على الجهة المقابلة، يشير أحد المقاتلين بيديه ويقول “انظروا بدأ المدنيون بالخروج”.
ويخرج هؤلاء من الباغوز عبر طريق صحراوي يقودهم إلى نقاط قوات سوريا الديمقراطية، ومنها يتم نقلهم على متن شاحنات لفرزهم بين مدنيين ينقلون إلى مخيمات خاصة، ومشتبه بانتمائهم إلى تنظيم الدولة الإسلامية، يصار إلى التحقيق معهم.
في الباغوز، يحذر جاويش من إطلاق مقاتلي التنظيم لصواريخ وطائرات مسيرة “رغم حصارهم في منطقة صغيرة”.
بعد وقت قصير، تعود المدرعة أدراجها وتشق طريقها في جنح الظلام وسط برد قارس. وبدلا عن أم كلثوم، تصدح هذه المرة أغاني كردية تقليدية.
عائلات تفر
جراء القصف والجوع
قبل يومين، دفنت ديما قطران إحدى ابنتيها التوأمين وحملت الثانية هربا من آخر نقاط سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في شرق سوريا، على غرار مئات النازحين يوميا مع تقدم قوات سوريا الديمقراطية في آخر معاركها ضد الجهاديين.
بعد رحلة في جنح الظلام استمرت ساعات وسط برد الصحراء القارس، وصلت ديما (22عاما) وابنتها بعد ظهر الجمعة ضمن أكثر من 700 شخص، غالبيتهم من عائلات مقاتلي التنظيم، إلى منطقة قريبة من حقل العمر النفطي في دير الزور، في توقف يسبق نقلهم إلى مخيم مخصص لهم شمالا.
وتقول ديما لوكالة فرانس برس بينما تنهمر الدموع من عينيها اللتين لم يحجبهما النقاب “لدي توأمان (11 شهرا )، واحدة دفنتها والثانية تموت، مريضة تعاني من الزحار والتقيوء”.
وتضيف بتأثر شديد “احترق قلبي عليها (…) ماتت من البرد والجوع. نمنا 11 يوما في الشارع بعدما قصف بيتي” في بلدة الباغوز التي تشكل أحد خطوط الجبهة في ريف دير الزور الشرقي.
ووصلت ديما، كما تقول قبل عام، إلى الباغوز مع عائلة زوجها، نازحين من مدينة البوكمال التي طرد الجيش السوري التنظيم المتطرف منها آواخر العام 2017. وكانت العائلة توجهت إلى دير الزور بعد رحلة نزوح مماثلة من حلب.
تؤكد الشابة ألا علاقة لها بتنظيم الدولة الاسلامية وأن جل ما تريده هو الوصول إلى زوجها المقيم في تركيا، على حد قولها، حيث يعمل كطاه. وتكرر “أخاف منهم”.
لدى توقفهم قرب حقل العمر النفطي، تبدو معالم الإرهاق واضحة على وجوه النساء والأطفال الذين تم نقلهم على متن 12 شاحنة صغيرة ضاقت بهم.
ويخبئ غبار أبيض كثيف ملامح الأطفال الذين يشكو عدد منهم من طفح وأمراض جلدية غزت وجناتهم. وداخل الشاحنات، يختلط صراخ الأطفال الرضع بأصوات أمهاتهن اللواتي يحاولن تهدئتهم.
يسمح مقاتلو قوات سوريا الديمقراطية للنازحين باستراحة قصيرة، فيسارع البعض إلى النزول من الشاحنات. تمسك إحداهن بولديها متجهة إلى مكان خلف السيارات لقضاء حاجتهما.
ويطلب البعض الطعام والشراب، ويقولون إنهم لم يأكلوا منذ أيام عدة مع اشتداد الحصار والقصف الذي يلاحق آخر الجهاديين.
وتخوض قوات سوريا الديمقراطية بدعم من التحالف الدولي بقيادة واشنطن منذ 10 سبتمبر هجوما واسعا لطرد التنظيم من آخر جيب له في شرق سوريا، حيث بات وجوده يقتصر على مساحة محدودة.
وتتكرر منذ أيام موجات نزوح جماعي. ويقدر المرصد السوري لحقوق الانسان خروج أكثر من ثمانية آلاف شخص منذ الاثنين، بينهم نحو ألف جهادي، ليرتفع بذلك إلى 29 ألفا عدد الخارجين من جنسيات مختلفة منذ مطلع ديسمبر.
وأبدت الأمم المتحدة قبل أسبوعين خشيتها على المدنيين المحاصرين داخل هذا الجيب متحدثة عن “أوضاع يائسة بشكل متزايد مع تناقص الخدمات”.
تحاول سارة السهر (32 عاما )، وهي أم لطفلين، جاهدة تهدئة رضيعها. تنزل من الشاحنة تتجول به قليلا وتهزه من دون جدوى. وتبرر بكاء طفلها بأنه “جائع ومريض.. ليس هناك طعام، بل جوع فقط”، مضيفة “لا شيء هناك حتى الحفاضات”.
على غرار ديما، تصر سارة على أنه لا علاقة لها بمقاتلي التنظيم المتطرف، وهو أمر ما لا يمكن التحقق منه.
وتقول “لم يسمحوا لنا بالخروج، حاولنا ثلاث مرات وأعادونا. في المرة الأخيرة مشينا ست ساعات” قبل الوصول إلى مناطق قوات سوريا الديمقراطية.
وضمت مجموعة الفارين الأخيرة الجمعة 600 مدني، غالبيتهم من عائلات الجهاديين ومن الجنسية العراقية، وفق ما يوضح لفرانس برس محمد سليمان عثمان، عضو مجلس سوريا الديمقراطية المرافق لهم إلى مخيم الهول.
إضافة إلى المدنيين، ضمت المجموعة 150 رجلا وشابا ي شتبه بانتمائهم إلى التنظيم، جرى فصلهم عن المدنيين بعد خروجهم قرب الجبهة، وتسلمتهم قوات سوريا الديمقراطية.
ون قلت 14 إمرأة مع أطفالهن من جنسيات مختلفة بينها روسية، أوكرانية، كازاخية وتركية إلى مركز خاص للتحقيق معهن.
في المركز، شاهدت مراسلة فرانس برس النسوة يجلسن مع أطفالهن داخل قاعة كبيرة، وتنهمك إحداهن بتبديل حفاض ابنها المصنوع من قماش وأكياس بلاستيكية.
في زاوية القاعة، ترضع الأوكرانية مريم (20 عاما ) طفلها، قبل أن تمسح وجهها بيديها. تتردد في الإجابة عن أسئلة فرانس برس ثم تقول باللغة العربية الفصحى “علي أن أرتاح لأتذكر ماذا حصل معي”.
أمام الشاحنات في حقل العمر، تردد نساء السؤال ذاته “متى سنصل إلى مخيم الهول، هل الطريق طويلة؟ لقد أصابنا التعب”.
وتفترش نساء الأرض، تتوسطهم طيبة (54عاما) المتحدرة من ريف حلب. تقول إنها خرجت مع زوجها، لكنه في عداد من جرى توقيفهم للتحقيق معهم.
وتوضح المرأة التي يكشف النقاب عينيها والتجاعيد حولهما “خرجنا لأن الجبهات باتت قريبة علينا”، قبل أن تقاطعها أم براء (20عاما) “الشوارع مليئة بالناس التي لا تجد مكانا للمنامة، كنا ننتقل من حي إلى آخر”.
وتعرب المرأة التي قتل زوجها، المقاتل في صفوف التنظيم قبل فترة قصيرة جراء الغارات، حزنها لما آل إليه الوضع الميداني مؤخرا .
وتقول “كنا مرتاحين كثيرا (…) لو لم يحصل تقدم على الجبهة لما كنا خرجنا”.
وتضيف “أما الآن، فلا نعلم ماذا ينتظرنا”.