1 – فيلم مغامِر
عرفت الدورة 12 لمهرجان “الأيام السينمائية لدكالة بالجديدة” التي نُظمت من 12 إلى 15 دجنبر 2023 تحت شعار “السينما والمقاومة” عرض أفلام روائية ووثائقية مغربية طويلة تتعلق بمقاومة المغاربة للاستعمار الفرنسي على رأسها فيلم (بامو) لادريس المريني، (فداء) لإدريس شويكة و(عطش) لسعد الشرايبي. ثم أفلام تخص مقاومة المغاربة للاستعمار الإسباني في أقاليمنا الصحراوية وتشمل: (سيگا) لربيع الجوهري و(لعزيب) لجواد البابلي.
وإذا كان (بامو) لادريس المريني يمثل أول فيلم مغربي يدشن علاقة السينما بالأدب المغربيَيْن من حيث اقتباسه لرواية مغربية كاملة تحمل نفس العنوان للكاتب الراحل أحمد زياد، فإن ذات الفيلم يعتبرأيضا أول عمل مغربي يقارب موضوع المقاومة المغربية للاستعمار الفرنسي في قالب سينمائي روائي طويل لعبت بطولته نخبة من نجوم الشاشة والخشبة المغربيَيْن كما الإذاعة.
وبهذا يكون إدريس المريني قد ركب مغامرتين وتحدى الواقع السينمائي الذي كان ما زال يبحث عن نفسه إبداعيا، تقنيا وخصوصا إنتاجيا منذ 40 سنة خلت، إذ أن (بامو) أُنجز سنة 1983 وهذه بادرة تحسب له بغض النظر عن مستوى الفيلم، فهو على الأقل عرّفنا ولأول مرة بأن هناك رواية مغربية تؤرخ لأحداث جسام في تاريخ المقاومة الوطنية ضد الاستعمارالفرنسي في قرية ووزيغت بإقليم بني ملال بطلها مقاوم شهيد يسمى أحمد الحنصالي، وأن كاتبها هو أحمد زياد الذي تعرفت عليه شخصيا وقرأت الرواية كاملة بفضل هذا الفيلم.
2 – فيلم مُلهِم
كما إن هذا الفيلم بالذات هو الذي ألهمني لإصدارأول كتاب لي والذي يعتبرأيضا أول مؤلَّف خاص بالنقد السينمائي المغربي: “موقع الأدب المغربي من السينما المغربية” سنة 1989، مفردا له 26 صفحة من 126 إلى 152 ضمنها صور بالأبيض والأسود.
والمغامرة الثانية التي ركبها المريني ذات صبغة إنتاجية، إذ معروف أن الأفلام ذات الخلفية التاريخية لا سيما النضالية، تتطلب إمكانيات مادية ضخمة عمادها الخيول والمتفجرات والبنادق والمسدسات والخناجرالخدع السينمائية المكلفة الشيئ الذي افتقر إليه فيلم (بامو) مكرها. لكنه رغم ذلك أبلغ عدة رسائل أهما التعريف بجزء من كفاح المغاربة ضد الاستعمار الفرنسي في أربعينيات القرن الماضي وما حبلت به من أحداث جسام ضمنها تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال عام 1944 وزيارة الملك الراحل محمد الخامس لطنجة سنة 1947 وغيرها…
3 – فيلم وثيقة
كما إن الفيلم يعتبر وثيقة غنية بما حبل به من ديكورات وملابس ومؤثرات صوتية وأكسسورات العصر وُظفت إيجابيا ضمنها على سبيل المثال على مستوى الديكور، خيام الحدادة والمقاهي الشعبية المُعِدة للشاي والإسفنج مع بقية المأكولات المحلية.. ومن الأكسسوارات العربات ذات العجلتين التي تجرها الدواب، خيام الأسواق، أواني الطبخ والأكل والشرب كما الحِلي التقليدية.
من بين أهم الأكسسوارات لتي وظفت بشكل جيد، جهاز الراديو الكبير الذي كان نادرا في الأربعينيات المذكورة إذ قلة هم من كانوا يتوفرون عليه، على رأسهم رجال السلطة من مستعمرين وأعوانهم كما بعض أعيان القبلية ومتعلميهم أو بالأحرى متفقهيهم ضمنهم فقيه الجامع (المرحوم الحاج العربي الدغمي).
فمن بين أغنى اللقطات الموظِّفة لجهاز المذياع، هي تلك التي يقتحم فيها أعوان الحاكم الفرنسي الجامع حيث يكون الفقيه منشغلا بالإنصات عبره لإذاعة “صوت العرب” من القاهرة التي عرف عليها مساندة الشعب المغربي في محنته ضد الاستعمار الفرنسي، فتذيع أخبارا يقوم هو بنقلها إلى سكان الدوار، مما يلهب حماسهم الوطني وينمي روح النضال في وجدانهم. ففي هذا اللحظة يلقي أعوان الاستعمار القبض على الفقيه لضبطه متلبسا بجريمة “الاستماع للراديو” ويسوقونه بعنف، لكن صوت المذياع يستمر مرتفعا حتى بعد جرِّ الفقيه مما يجبر أحد الأعوان على العودة إلى المسيّد / الجامع لتهشيمه.
وفي نفس السياق كمؤثر سمعي، استغل المخرج في مشهد المظاهرة الأخيرة، النشيد الوطني الحماسي “عيشي دولة المغرب” فهذا المقطع في الفيلم عزف على وتر الوطنية الحساس وألهب الحماس نظرا لطبيعته الجماعية ثم لصدق عاطفته إلى جانب غيره من باقي الأناشيد الوطنية التي تذكرنا بكفاح مناضلينا وشهدائنا من أجل الحرية والاستقلال.
4 – نجوم الخشبة، الشاشة والميكروفون
،بل إن الفيلم في حد ذاته وثيقة على المستوى البشري لا سيما التشخيصي بضمه لنخبة من ألمع نجوم التمثيل المغربي في المسرح والتلفزيون والسينما كما في الراديو حيث كنا نتابع إنصاتا وبشغف مسلسلاتهم الإذاعية: (سيف دو يزن) – (العنترية) – (رحلة ابن شامة) وغيرها، برع وتميز فيها معظم أبطال هذا الفيلم أمثال محمد حسن الجندي، العربي الدغمي، حبيبة المذكوري، صفية الزياني، بديعة ريان زائد ثريا جبران، محمد الحبشي، محمد مفتاح و صلاح الدين بنموسى الذي تم تكريمه في هذا المهرجان.
وهذه أيضا مغامرة ركبها المخرج لكنها كانت مربوحة حيت احتفظ لنا بوثيقة حية عن هؤلاء الرواد الذين أثثوا الفضاء الدرامي المغربي بأدائهم، سحناتهم كما بأصواتهم.
هذا الطابع الوثائقي نتاج اشتغال إدريس اللاذعة والتلفزيون المغربي حين قضى به سنتين في إطار الخدمة المدنية – وزارة الإعلام – من 1975 إلى 1977وهي السنة التي سيُدمج فيها كموظف مخرج ومنتج في نفس القناة، حيث أخرج عددا من البرامج الوثائقية عن فضاءات تاريخية ومعمارية مثل (شالّة) و(مسجد الحسن الثاني).. وأخرى عن شخصيات وطنية وازنة ضمنها الدكتور المهدي المنجرة في برنامج (وثيقة) الذي أخرج منه تسع حلقات قبل توقيفه.
فهذا الاشتغال في التلفزيون والإذاعة المغربيين جعله قريبا جدا من نجومهما الذين اعتمدهم أبطالا في فيلمه، وهي ميزة لم يحظ بها فيلم مغربي أنجز في نفس المرحلة من حيث ضمه لأكبر عدد من نجوم الإذاعة والتلفزيون المغربيين كما المسرح المغربي بطبيعة الحال.
والأفلام الرواية المغربية الطويلة التي أنجزت ما بين 1983 و1984 سائر أبطالها مخرجوها أنفسهم مع بعض أفراد عائلاتهم أو فرقهم المسرحية مثل: (الزفت) للطيب الصديقي– (عنوان مؤقت) لمصطفى الدرقاوي – ( رفاق اليوم) لعبد الله الزروالي و(نهيق الروح) لنبيل لحلو. أو ممثلون غير محترفين ولا حتى معروفين مثل: (حادة) لمحمد ابو الوقار – (ما نثرته الرياح) لأحمد قاسم أكدي و(كابوس) لأحمد ياشفين. أو مطربون مع ممثلين معروفين لا يتجاوز عددهم رؤوس الأصابع الواحدة: (الورطة) لمصطفى الخياط بطولة عمر السيد عضو مجموعة ناس الغيوان ثم (الناعورة) لمحمد عبد الكريم الدرقاوي وإدريس الكتاني بطله العربي باطما عضو نفس المجموعة.
فيلم (بامو) لإدريس المريني أُنجز بدوره سنة 1983 لكن مخرجه لم يمثل فيه وضم على الأقل 8 أسماء بارزة سبق تعدادهم، في فن التشخيص بالدراما المغربية إذاعيا، تلفزيونيا، مسرحيا وسينمائيا، وهذا في حد ذاته أيضا تحدي.
كما إنه أول فيلم مغربي روائي طويل، يلجأ إلى ملحن مغربي لوضع موسيقى تصويرية مغربية خاصة به دون اللجوء إلى الريبرتوار العالمي أو غيره كما كان يفعل معظم السينمائيين المغاربة آنذاك. وأسند ادريس المريني مهمة الموسيقى التصويرية للفنان المرحوم محمد بلخياط. ومؤخرا تم ترميمه بإيطاليا مع دبلجة حوار الفيلم للغة الأمازيغية بحكم أن أحداثه جرت في منطقة أمازيغية أيضا.
حصل الفيلم على جائزة اعتراف بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي السابع سنة 1985، كما فازت ثريا جبران عن دورها فيه بتنويه خاص في المهرجان الوطني الثاني للفيلم بالدا البيضاء سنة 1984.