أفقتُ على صوتين يتجادلان دون أن يعيرا اهتماما لمن كان لا يزال نائما في تلك الساعة المبكرة من صباح هذا اليوم الذي يبدو أنه واقع تحت صمت مطبق في الخارج، خارج هذه النافذة التي أنام إلى جانبها، لم أُبْدِ أنا أيضا أي احتجاج، بل تحركت مستسلما، في اندفاع هادئ نحو الخارج لإحضار مجموعة مشتريات كنت قد كلفت بها في ساعة متأخرة من الليلة الفارطة. ولأن كل ما كان يحيط بي كان ساكنا، فقد استرحت وقد صار الصمت مشتملا على كل ما حولي، وأنا أهبط الأدراج قبل أن أفتح باب العمارة، ازددتُ راحة، لكنني ما أن توجهت إلى المتجر الذي تعودت شراء ما أحتاجه منه، حتى أثارني أن بابه مغلق على نحو غريب ، فكأنه لم يكن على الجدار الذي كان به أي باب من قبل، بل إنني التفت فلم أجد على الجدران أية أبواب تذكر، ليزداد العالم أمامي وورائي غرابة ، فلا أحد يتحرك ولا سيارة تستدير إزائي أو تسير في أي اتجاه، بل الأغرب أن لا أحد سواي في الشارع الآن . فإلى أين مضى الناس، أو على الأقل من كنت أعرفه منهم ، وبالأخص أفراد عائلتي من خارج أسرتي الصغيرة، التي أتذكر أنني سمعت صوتين ممن يعيشان معي تحت السقف نفسه، دون أن أتذكر قبل قليل أنني رأيت أي وجه هذا الصباح، ففي البيت حيث أقيم، ينام كل منا نحن الثلاثة في حجرة على حدة.
خطر لي وأنا في وسط الشارع أن أصرخ، مناديا، أي حيٍّ يكون على مقربة مني ، فاكتشفت أن حنجرتي بلا صوت، وأن شفتيّ لا تقدران حتى على الصفير البسيط، وأنني ربما كنت لا أقدر حتى على التنفس، وأنه لا شمس في سمائي، ولا ظل هناك إلى جانبي يمشي أو يقف، فاين أنا ؟ بل على أي كوكب أو أية مجرة أسعى الأن؟
حز هذا في نفسي إلى درجة أنني فكرت أن أبكي ، فلم ألف دمعًا تذرفهُ مقلتاي.تحركت نحو مركز المدار، الذي يقع بيتي إلى جواره، فلم احتج إلى استئذان سيارة عابرة أو انتظار مرور أخرى، فقد كانت الطريق خالية. فرأيت أن أمضي في اتجاه لا يفصلني عن الشاطئ إلا بمئات من الأمتار تقوم عليها مبان وعمارات على جانب، وفي الجهة اليمنى تقع بحيرة من مياه آسنة لا دور لها إلا إفساد هواء هذا الثغر الذي كان جميلا قبل أن يكثر المقيمون عليه بلا ضرورة.
كنت قد أمضيت زمنا طويلا في معتقل إرادي لا أغادره إلا للضرورة القصوى، إلى حد أنني أصبحت أشكو من ألم في ركبتيَّ، فأصبحت أستغني عن المشي بالفرجة على من يختارونه رياضة على القنوات التلفزيونية، حين أضيق بمهام أخرى أقوم بها وأنا في وضعية القاعد المتقاعس. لكنني أجد نفسي اللحظة مجبرًا على المشي، وقد اكتشفت ذهاب الناس كلهم ،أ يكادون، أو عليّ أن أبحث عمن يعنيني منهم، كنت قد اقتربت إلى مدار ثان قريبا من برج يحمل اسم هذا الثغر، لأكتشف مقدار خلو العالم من أي كائن يسير مثلي، على نفس التجاه ، أو في أي وجهة أخرى.
سرت أقترب من الشاطئ الذي كان حتى مساء أمس مكتظًا، بمئات الألوف من المصطافين الذين لا يكاد يخلو منهم أي مكان عليه من ازدحامهم، مقبلين أو مدبرين، إلى حد إفساد ما تقدمه لهم مطاعم على الكورنيش كانت مشتهرة بجودة مأكولاتها، فأصبح تناول القليل منها يؤدي إلى زيارة أقرب صيدلية.
حين اقتربت من جهة كانت أمواج البحر تسمع منها حتى في حال هدوئه، هالني ألا أرى رملا ولا صخرا ولا ما اعتدت أن أجدهُ من بحر لُجيٍّ، فلا موج يعلو ولا شمس تضيء هذا الكون بأرضه وسمائه.
وأنا أحاول أن أنقلب على عقبيّ، قافلا نحو منزلي، اكتشفت ألا وجود في ذهني لذكرى أي منزل كنت به منذ ساعة أو يزيد قليلا، والذي لم أغادره إلا لقضاء حاجة من متجر مجاور.وأنني لا أتذكر أي شيء، وحتى الجهة التي منها أتيت، رغم أن الشوارع قد عادت إلى حركتها المعتادة في ما أرى، وأن الأبواب عادت إلى مواقعها على الجدران التي كانت بها، لكن على أيها يقع باب منزلي، وهل تراني أقترب ألآن أم أبتعد ، لألتقي بأحد أقربائي إذ لا آمل أن يعرفني أحد في هذه المدينة التي لا أكاد أميز فيها قريبا من غريب.
عادت أمواج الناس إلى الازدحام في كل مكان، كماعاد زحام المعروضات من البضائع إلى التراكم بعشوائية على جوانب كل شارع و طريق، وبقيت وحدي تائها ، فهل منكم مَنْ يعرف موقعَ ذلك المنزل حيث كنت أقيم؟