من السينمائيّين مَن يتعامل مع السينما على قاعدة أنّ الفيلم «سلعة» يتمّ صنعها حسب الطلب، وبالمقاييس والشروط المطلوبة. ومن السينمائيّين مَن يرى في السينما وسيلةً للتعبير والتغيير وفعل المعرفة النّافِذة، يُلقي عبرها نظرةً على العالَم والمُجتمع والناس وشؤونهم وشجونهم وقضاياهم؛ وهذا هو برهان علويّة، المُخرج السينمائيّ اللّبنانيّ الذي غادَرَنَا قبل أقلّ من ثلاثة أسابيع من نَشرِ هذه السطور، بعد مُعاناةٍ طويلة مع المرض دامت سنواتٍ بحالها.
غادَرَنا برهان، لكنّه بقي حيًّا في سيرته ومَسيرته ومَواقفه وما أبدعه من أفلام، هي من دون شكّ من أقوى الأفلام السينمائيّة اللّبنانيّة والعربيّة وأجملها وأفضلها. يبقى حيًّا برهان ومَوضعَ احترامٍ وتقديرٍ كبيرَيْن لدى كلّ مَن عرفه من أصدقاء وزملاء ومَعارِف ومُعجَبين، ومَوضعَ اهتمامٍ خاصّ لدى المثقّفين والمفكّرين والإعلاميّين، فضلًا -بالطبع- عن نقّاد السينما والمَعنيّين بشؤون الفنّ السابع عمومًا في لبنان والعالَم العربي وفي الخارج الأوروبي وغير الأوروبي أيضًا. وقد نالت أفلامه جوائز في مهرجاناتٍ سينمائيّة عربيّة ودوليّة، واحتفلت به وكرَّمته مهرجاناتٌ وهيئاتٌ ثقافيّة وسينمائيّة عدّة منها المهرجان الدولي للأفلام الوثائقيّة في بيروت (2005)، ونادي لكلّ الناس (2005)، والجامعة الأمريكيّة للتكنولوجيا (2013).
أثار غياب برهان علويّة ردّاتِ فعلٍ كثيرة تعكس مدى الحزن والأسف على غيابه، وتشيد بمَسيرته الفنيّة، وبالدَّور الكبير الذي اضطَّلع به في بعْثِ السينما العربيّة البديلة وإرساء مفاهيمها. ومن ردّات الفعل المُميَّزة، وهي كثيرة يصعب الإحاطة بها كلّها، أتوقّف عند بعضها.
كَتَبَ المفكّر اللّبناني كريم مروّة، وهو من أصدقاء برهان علويّة يقول: «ترك لنا برهان علويّة، وهو أحد أعمدة السينما اللّبنانيّة والعربيّة، تراثًا غنيّا في السينما وفي ما ارتبط بأفلامه من مَواقِف فكريّة وسياسيّة وإنسانيّة تُعبِّر عن شخصيّته، تراثًا سيجعله ثابتًا في وجداني ووجدان اللّبنانيّين والعرب».
وباسم نقابة المُمثّلين وجميع النقابات الفنيّة في لبنان، قال نقيب المُمثِّلين نعمة بدوي: «برهان علويّة ستبقى خالدًا في قلوبنا وضمائرنا وفي أحلام الجيل المُقبل. ستبقى مَنارةً للفنّ السابع المُلتزِم بالقضايا الإنسانيّة والاجتماعيّة والوطنيّة».
وفي تحقيقٍ لحسن الساحلي في مَوقع «المُدن» في 11/9/2021، قال المخرج السينمائي اللّبناني بهيج حجيج: «برهان كان قائدنا الفنّي والسينمائي. كان بمثابة الأبّ الروحي لنا نحن مجموعة الأصدقاء الذين عدنا من أوروبا بعد بداية الحرب، مثل مارون بغدادي، وجان كلود قدسي، وجان شمعون. كان برهان علويّة مُخرِجًا ذكيًّا ومثقّفًا، لم يتوقّف عن إلهامنا ونفْحِ تلك الرغبة فينا بصناعة سينما جيّدة، تُعبّر عن مشاعرنا اليوميّة ومُشكلاتنا وتَحترم عقول المُشاهدين. كان مثقّفًا عربيًّا بقدر ما كان لبنانيًّا، انطلقَ من خضمِّ مَوجةٍ عالَميّة التزمت بثورات الشعوب المقهورة، وتأثَّرت بالثورة الطلابيّة في فرنسا، لذلك يُمكننا القول إنّ هذه الخلفيّة سمحت له بلَعِبِ دَورِ القائد الفنّي والسينمائي لنا، نحن الجيل الأصغر منه».
أمّا المُخرِج السوري محمّد مَلَص، فقد أشار إلى فيلم «كفر قاسم» الذي شارَكت المؤسّسةُ العامّة للسينما السوريّة بإنتاجه، قال: «سلامًا برهان علويّة ولن تنسحب من عالَمنا.. إنّ السينما السوريّة وأنا، لن ننساكَ أبدًا، أنتَ من فرسانها الذين رحلوا أيضًا، من توفيق صالح إلى نبيل المالح إلى عمر أميرلاي، ما جمعكم بذاك هو الالتفاف العميق والأساسي في الرؤية والتفكير في توجُّهِكم إلى الواقع بألوانه الحقيقيّة، في مَوجةٍ بهيّة من السينمائيّين العرب في مصر والجزائر والمغرب، أسّست لنا، ومن خلال مهرجان دمشق لسينما الشباب ما سمّيتموه «بيان السينما البديلة»، الذي صوَّبَ لنا توجُّهًا في العمل كجيلٍ سينمائي. كان ذلك في وقتٍ سَعَتْ فيه السينما السوريّة للبحث عن نفسها. كانت الأفلام التي حقَّقتموها لهذه السينما أمثلةً وبوصلة. وفيلمكَ «كفر قاسم» وفيلم «المخدوعون» لتوفيق صالح بَدَيا لنا دربًا وفيًّا للسينما ومُضيئًا».
برهان علويّة الذي وَجَدَ بعد غيابه مَن يُقدّره حقّ قدره، كان في حياته مَوضِعَ تقديرٍ كبيرٍ أيضا كما سبق وأشرت، ولعلّ من أبرز مَلامِح هذا التقدير ما وَجَدَهُ من تكريم، وخصوصًا في المهرجان الدولي للأفلام الوثائقيّة في بيروت (2005)، وفي الجامعة الأمريكيّة للتكنولوجيا في حالات- جبيل (2013).
أُقيم «مهرجان بيروت الدولي للأفلام الوثائقيّة» في قصر اليونيسكو بحضور ورعاية وزير الثقافة اللّبناني طارق متري الذي قدَّم سينما برهان علويّة، كما تقول ريما المسمار في «المستقبل» بتاريخ 7 نوفمبر 2005 «بتفاصيلها، متوقّفًا عند أفلامه واحدًا واحدًا، عند مَلامِح سينماه التي امتزجَ فيها الروائي والوثائقي امتزاجًا غريبًا. إنّ اللّغة السينمائيّة الشخصيّة هي التي تَمنح أفلام برهان علويّة صنفَها وليس انتسابها إلى أحد النوعَيْن الروائي أو الوثائقي». وفي كلمة موجزة شَكَرَ علويّة الوزير مُعتبِرًا التكريم «لحظة تضامُن مع السينمائيّين اللّبنانيّين الذين يرسمون من خلال سينماهم مَلامِح شعب وهويّته وذاكرته».
بدَوره تكلّم نجا الأشقر، مؤسِّس ورئيس «نادي لكلّ الناس»، في احتفالٍ أُقيم في «مسرح المدينة» في بيروت تكريمًا لبرهان علويّة، وجرى خلاله عرض مجموعة من أفلامه. ويلعب «نادي لكلّ الناس» دَورًا مُهمًّا باهتمامه بأفلام برهان علويّة وتوزيعها ومُتابَعة عروضها في المهرجانات والتظاهرات السينمائيّة في لبنان والخارج. كما أصدر مجموعة أفلام للمُخرج على شرائط دي.في.دي.: «كفر قاسم»، و«بيروت اللّقاء»، و«رسالة من زمن المنفى»، و«لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء»، و«إليك أينما تكون». وفي تعليقه على الحَدَث كَتَبَ الناقد نديم جرجورة يقول: «لم يكُن مُفاجئًا أن يُبادِر «نادي لكلّ الناس»، بإمكاناته العاديّة المُتواضِعة وطموحاته الكبيرة إلى القيام بهذه المُبادَرة التي تستحقّ التهنئة والتشجيع» (السفير 8 يونيو 2006). أمّا تكريم الجامعة الأمريكيّة للتكنولوجيا AUT فقد جرى برعاية وزير الثقافة غابي ليون في مبنى الجامعة في حالات (لبنان) في 31 نوفمبر 2013.
وكنتُ أرى من بين المُكرَّمين، إلى جانب برهان علويّة، الممثّلة سميرة بارودي والمُنتج الصديق شوقي متّى. في كلمتها في افتتاح حفل التكريم قالت رئيسة الجامعة غادة حنين: «إنّ أعمالَكم أيّها الأعلام المُكرَّمون تقود إلى هدْمِ جدران التفْرِقة والاختلاف، وتبني جسورًا للتلاقي وقبول الآخر والتكامُل. إنّ أعمالكم صفحاتٌ مُضيئة في ماضٍ مُشوَّه ببصماتِ السياسة والمَصالح. إنّها صفحاتٌ نُريدها إضاءاتٍ للمستقبل. إنّ أعمالَكم مشعَّةٌ نورًا يشقُّ ظلامًا يُحيطنا. إنّ تحيّة الوفاء التي شاءتها جامعتنا لسميرة بارودي وبرهان علويّة ووليد شميط وشوقي متّى، هي رسالةٌ لكلّ القيِّمين على هذا الوطن للعودة إلى قيَمِنا الثقافيّة، ولتجاوُز حدود الاختلاف السياسي والطائفي الضيِّق المُميت والعبور إلى رحاب الثقافة ضامنةً التلاقي الإنساني الشامل، مُنيرةً هذا الوطن وجوهر رسالته». وشكرت رئيسة الجامعة الوزير غابي ليون ورئيسة قسم السينما والمسرح والمعارض في وزارة الثقافة ديما رعد على إسهاماتها في إنجاح هذا التكريم.
لم يُشارِك برهان علويّة شخصيًّا في هذا التكريم، لأنّه كان خارج البلاد، فمثَّله رئيس «نادي لكلّ الناس» نجا الأشقر. أعادتني المُناسبة إلى سنواتٍ ذهبيّة مَضَتْ مكلّلة بأسماءٍ فنيّة وثقافيّة راسخة: برهان علويّة، وأندريه جدعون، وسمير درويش وكلود قدسي. الناقد ظافر هنري عازار الذي شاهدَ الحلقة كَتَبَ يقول: «أذكر في مطلع السبعينيّات من القرن الماضي أوّل مَن «حبَّبني» بفنّ السينما، لقاء تلفزيوني أحياه الناقد وليد شميط (…) وظلّ برهان علويّة في ذهن المُشاهدين والهواة في لبنان، لأنّه «الرائد» الأكثر جرأة وصفاء ذهنيًّا لتلك المرحلة المشحونة بالنشوة الفكريّة على مستوى قول ما يريد عبر أفلامه (2 نوفمبر 2007)؛ شكَّل ذلك اللّقاء بدايةَ علاقة صداقة مع برهان ازدادت مكانةً على مرّ السنوات. فالشاب المُتخرِّج حديثًا من معهد I.N..SAS في بروكسيل عاد إلى وطنه مزوَّدًا بوعيٍ فنّي وفكري وسياسي كبير، جَعَلَه خلال فترة وجيزة محطَّ أنظارِ واهتمامِ المَعنيِّين بشؤون السينما. ولم تكُن مصادفة أن يتناول في أوّل فيلم روائي طويل له موضوعًا يتعلّق بفلسطين، فكان «كفر قاسم» (إنتاج مُشترَك سوري- لبناني). أثار الفيلم اهتمامًا كبيرًا وحصدَ جوائز كثيرة، كانت أولاها الجائزة الكبرى لمهرجان قرطاج السينمائي في تونس في عام 1974. يتناول الفيلم مجزرة كفر قاسم التي ارتكبها الصهاينة في عام 1956 بغية إرهاب الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة. غير أنّ أهميّة الفيلم ليست في أنّه يَتناول مجزرة كفر قاسم فحسب، كما أشار بيان لجنة التحكيم عن حقّ، وإنّما لأنّه يُعتبر أنموذجًا لسينما عربيّة واعية ويُشكِّل علامةً مُضيئة للسينما اللّبنانيّة. أوّل ما يلفت في الفيلم، هو ابتعاده التامّ عن الشعارات وعن اللّهجة الخطابيّة الحماسيّة وعن البلاغة الإنشائيّة، وعن الصراخ والضجيج الذي غلب على معظم الأفلام التي تعاملت مع القضيّة الفلسطينيّة في الستينيّات والسبعينيّات من القرن المُنصرم… الهموم السياسيّة التي شغلت برهان علويّة في معظم أفلامه، جَعَلَته يهتمّ أساسًا بكيفيّة دفْعِ المُشاهِد إلى التفكير والتأمُّل. فإذا كان الهدف من الفيلم هو التنديد أو التحريض أو الإدانة أو التعاطُف، فكيف السبيل إلى ذلك؟
السبيل الذي اختاره برهان علويّة هو المَزْجُ بين الوثائقي والروائي. وهو هنا يروي الوثائق والوقائع أكثر ممّا يُظهِرُها. وعنده أنّه من المُمكن تحوير الواقع لإظهار قوّته، والحقائق الموضوعيّة لا تصل إلى عُمقها إلّا بذاتيّةٍ تتخطّاها إلى ما هو أبعد منها، كلّ ذلك ببساطةٍ مُتناهية يتميَّز بها هذا الفيلم الذي يتناول مذبحةً ويطرح قضيّةً كبيرة مهمّة.
فيلم «بيروت اللّقاء»- 1982
بعد القضيّة الفلسطينيّة في «كفر قاسم» عاد برهان إلى القضيّة اللّبنانيّة في فيلمه «بيروت اللّقاء» (قصّة وسيناريو أحمد بيضون). تجري أحداثُ الفيلم بعد نحو ستّ سنوات من اندلاع الحرب الأهليّة اللّبنانيّة. بقيَتْ بيروت مُنقسمةً تُعاني عدم الاتّصال والتواصُل بين شرقيّة مسيحيّة وغربيّة إسلاميّة. حيدر الذي اضطرّ إلى مُغادرة الجنوب بسبب الاحتلال الإسرائيلي والإقامة في بيروت الغربيّة، يُحاول أن يلتقي مع زينة، وهي صديقة مسيحيّة تُقيم في بيروت الشرقيّة. بين الشرقيّة والغربيّة كانت الاتّصالات والمواصلات صعبة. حاولَ حيدر وزينة التغلُّب عليها ولم ينجحا. هل كان اللّقاء مستحيلًا؟ طرحتُ مرّةً السؤالَ على برهان، فقال: «ليست ثمّة استحالة قي اللّقاء وإنّما كان صعبًا للغاية. والصعوبة نابعة من الداخل وليس من العوامل الخارجيّة كالطائرة أو الموعد الذي لم يتمّ أو عجقة السَّير. اللّقاء لم يتمّ لأنّ ثمّة صعوبة من الداخل. يجب على كلّ لبناني أن يُغيّر شيئًا ما في داخله كي يلتقي مع غيره من اللّبنانيّين، يُغيِّر نظرته إلى الآخر وإلى نفسه، أن يقبل الآخر، أن يقبل أنّه موجود في مشروعٍ حضاريٍّ مُشترَك وليس وحده».
في أوائل الثمانينيّات من القرن المُنصرِم كنتُ في بيروت أعمل على مشروعِ إنتاج سلسلة أفلام تسجيليّة عن مُدنٍ عربيّة، ومنها بالطبع بيروت التي تُحاوِل أن تستعيد دَورها في المنطقة كمَركزٍ حضاري وثقافي واقتصادي، وكصلةِ وصلٍ بين الشرق والغرب. عرضتُ الفكرةَ على برهان، فرحَّب بها وأبدى استعداده للمجيء إلى بيروت لدراسة المشروع. وهكذا كان. جاء مع زوجته زينة ودَرَسْنا الموضوع واتَّفقنا على إنجازه بالتعاون مع الكاتب إلياس الديري والمُستشار العلمي سليم نصر والكاتبة رفيف فتّوح والمُنتِج المُنفِّذ حسن دلّول.
كَتَبَ برهان كلمةً حول بيروت، لكنّ الفيلم مع الأسف لم يرَ النور لأسبابٍ خارجة عن إرادته وإرادتي.
لم يُمهله العمر لإنجاز مشروعات أخرى كانت بانتظاره. غادَرَنا برهان، وكان أوصى زوجته وأولاده بنقْلِ جثمانه من بروكسل إلى بيروت، ثمّ إلى بلدته أرنون في جنوب لبنان، حيث أوصى أن يُدفن هناك. غادَرَنا نعم.. ولكنّ برهان الصديق الرائع والمُخرِج المُبدِع والإنسان المُميَّز، يبقى في القلب والعقل والفكر والوجدان.
* بالتنسيق مع مؤسسة الفكر العربي