بعد إصدار كتابه حول الفنان محمد رويشة … المكي أكنوز: عندما فكرت في الكتابة في سيرة محمد رويشة، كنت أتساءل عماذا يمكن أن أجد لدى محمد رويشة أعظم من عزفه وصوته؟

 

المكي أكنوز، ما يزال واحدا من الباحثين القلائل في الفنون الغنائية والموسيقية الأمازيغية بالأطلس المتوسط، وأرشيفه المتحفي يظل الذاكرة الغنية جدا بالكثير من الوثائق والنوادر الفنية، وبقدر ما كانت علاقته بمحمد رويشة قوية فعلاقة المكي أكنوز ما تزال لصيقة بغالبية الفنانات والفنانين الأمازيغ على طول الأطلس المتوسط والجنوب الشرقي، ويعد من حراس خزائن سيرهم وفنونهم، علاوة على بيته الذي أضحى مزارا للعديد من الفنانين والإعلاميين والباحثين، إلى جانب أرشيفه الذي حمل بعض المجهولين ذات مساء إلى زيارته تحت جنح الظلام في محاولة لسرقته.
ومؤخرا، تعززت الخزانة المغربية بإصدار عمل للمكي أكنوز حول الفنان الكبير محمد رويشة، وهو الذي لا يتوقف عن مشاركاته التلفزيونية وإسهاماته البحثية، ولا يغلق بابه أمام المهتمين والنقاد دونما أي احتكار، ويعد من الأعضاء المؤسسين ل «مركز روافد للأبحاث والفنون والإعلام»، بخنيفرة، حيث التقيناه على هامش مناظرة نظمتها «جمعية قدماء تلاميذ مدارس مريرت»، خلال مارس المنصرم، حول تراكمات ورهانات الفضاء الفني الأمازيغي بالأطلس المتوسط، شارك فيها المكي أكنوز بمداخلة وبمعرض أرشيفي متميز، فيما تم تتويج الحدث بتكريمه في حفل كبير.
وبعد هذه التظاهرة التي لم يتسن لنا الحصول على توصياتها، كان لنا مع المكي أكنوز هذا الحوار الذي حاولنا من خلاله استجلاء جوانب من كتابه الصادر بلغة موليير، عن «دار بصمة»، حول الفنان الكبير، الفقيد محمد رويشة، تحت عنوان «محمد رويشة المرتجل العبقري» في (577 صفحة)، من تصميم الزجال توفيق لبيض، وبغلاف مزين بلوحة للفنان التشكيلي نورالدين بلحاج.

كيف جاءت فكرة كتابة عملكم عن فقيد الفن الأطلسي الأمازيغي محمد رويشة؟

اذا كانت جل المدن المغربية تفتخر بإرث شخصياتها الفنية الفاعلة في محيطها الغنائي، سواء الأحياء منهم أو الذين رحلوا، كالمرحوم عبد الصادق شقارة بتطوان، وعبد الكريم الرايس بفاس، الحسين التوالي بمكناس، المرحوم الحاج حميد الزاهير بمراكش، المرحوم الحاج بالعيد بأكادير، المرحوم باكو بالصويرة، الحسين السلاوي بالرباط، فاطنة بنت الحسين بآسفي، مرشال قبو بالدارالبيضاء، فمدينة خنيفرة هي أيضا لها هرمها ورائدها في المجال الفني، عميد الأغنية الأمازيغية وصاحب الأنامل الذهبية، الفنان محمد رويشة.

ما الذي شجعك على خوض تجربة الكتابة؟

لا شك أن شهرة الفنان، تلعب الدور الكبير في الترويج بعض الحكايات والأسرار التي يتم الكشف عنها!. من منطلق أن الفنان قد أصبح، من بعد رحيله، في ذمة التاريخ. وقد تحول إلى شخصية تاريخية عامة باتت تخضع لتحليل وأقاويل المؤرخين ومن كانوا يهتمون بشؤون الفنان الخاصة حتى ولو كانت جارحة!.
في كثير من الأحيان ما نسمع في حياة هذا الفنان أو ذاك تفاصيل كثيرة عن حياته الخاصة، سواء ما يحكيه في المناسبات أو ما ينشره الأخرون عنه بموافقته وبرضاه!. ومن بعد رحيله نفاجئ، بأسرار وحكايات كثيرة نسمع عنها ولأول مرة، عندئذ نقف أمامها في حالة انبهار دائم، ونظل  نتساءل عن مصدر هذه الحكايات الجديدة.

في مؤلفك، لم تقدم سيرة ذاتية بسيطة عن محمد رويشة، ولكنك قدمت لنا سيرة فنه وفكره، هل يمكن أن تبرز ذلك؟

محمد رويشة، قال كل شيء عن حياته العامة بلسانه، أو بلسان من يراه أهلا لذلك!. ومع ذلك فقد ظلت هناك جوانب من حياته، سواء العامة أو الخاصة، لم تر النور بعد. وإن كان قد أشير لبعضها في مناسبات مختلفة بدون تفاصيل، لست خير من يتحدث عن محمد رويشة، ولست أفضل من تحدث وكتب عنه وعن فنه. ولكني تقديرا ووفاء وحباً وتكريماً لرجل منحنا الكثير من النشوة والبهجة والمسرة، التي كنا ومازلنا نفئ إليها كلما ألم بنا هم أو خطب، أو هزنا فرح، لا يسعني إلا أن أقول مازال لنغمه وفنه على الرغم من غيابه حضورهما اليومي في حياتنا، إذا غنى أطرب، وإذا شدا فأذهل، وإذا ثار فأبدع، لذا وجدت لزاما عليَّ أن أفي هذا الذي نحبه ونحب فنه بعض حقه علينا.

ألا تجد بأن كتاب عن محمد رويشة، يجب ألا يكون محصوراً بالضرورة باللغة والإيقاع والصور؟

عندما فكرت في الكتابة في سيرته، كنت أتساءل عماذا يمكن أن أجد لدى محمد رويشة أعظم من عزفه وصوته؟،  وهل يمكنني أن أقدم للقراء عنه  شيئا أحلى مما يعرفونه؟، كنت مترددا في الخوض في الكتابة طويلا. ولكنني في آخر الأمر قلت: فلتكن مغامرة، يجب أن أبحث عن ظلال الصورة في شخصية محمد رويشة، وأن اعرف هل في عبقريته سرا يمكن فهمه ومعرفته، أو أن تظل هذه العبقرية الفنية لغزاً غامضا نستمتع به دون أن نفهمه، ودون أن نعرف عنه شيئاً؟..
تمنيت أن أعرف شيئا عن هذا السر لأقدمه للناس. لقد كنت واحدا من الذين طمعوا برحابة صدره في حياته، فتحدثت عن فنه منزّها عن الغرض إلا ابتغاء وجه الفن الأصيل. أما الذين أقاموا الدنيا وأقعدوها فلم يركبوا الصعب، ولم يقوموا بتحليل إنجازاته السائرة، ولم يكتشفوا ذلك السحر الأخاذ الذي ينضح منها، ولا تلك العذوبة الآسرة التي تغرف من الأناقة مذاقها، ومن النغمات حلو بيانها، إنهم لم يروا في تلك الإنجازات التي حققها سوى القليل فتوقفوا عندها. ولو أنهم سبروا أعماله، وتعقبوا مراحله الفنية مرحلة مرحلة، لتوصلوا، واكتشفوا  أنه كان واحدا من المبدعين الذين أثروا حياتنا، وارتفعوا بنا من الطرب الغريزي إلى الطرب التأملي الأنيق.

هل سبق وإن أخبرتَ الفقيد محمد رويشة بأنك ستشتغل على فنه وحياته؟ ولماذا إصدار الكتاب باللغة الفرنسية؟

عنوان الكتاب  «محمد رويشة المرتجل العبقري» الصادر عن «دار البصمة» (577 صفحة) باللغة الفرنسية يعتمد على أعمال بحثية مهمة ومثيرة.  بصراحة ، للوصول إلى هذا استغرق الأمر وقتًا طويلاً أكثر من سبع سنوات من العمل الدؤوب للحصول على معرفة جيدة بأساليب الجمع والتحليل.
نعم أخبرته في حياته، وبدأت الكتاب باللغة العربية، ولكن بعد لقاء محمد رويشة بالمرحوم محمد شكري بمهرجان طنجة وسلمه هذا الأخير نسخة من روايته  «الخبز الحافي» التي ترجمها الكاتب الطاهر بن جلون، إلى الفرنسية.  هذا الذي جعل المرحوم محمد رويشة أن  يغير رأيه ويصر أن اكتبها بالفرنسية.

وماذا عن محمد رويشة بخصوص عصاميته وشهرته؟

إن الحديث عن فنان عملاق مثل محمد رويشة يعتبر ناقصا مالم يجمع كل تلك التفاصيل عن حياته العصامية، نشأته، تربيته، ارتباطه بمدينة خنيفرة التي كانت معلمته الأولى، قبل المدرسة وبعدها، ولا نعتقد أن المدرسة كانت ركنا مهما في حياته، فالتجربة التي صنعت تاريخ محمد رويشة وكتبته في الزمن، كانت وراء «مدرسة العصامية» التي تخرج منها عن جدارة، ليفوز بهذا النبوغ الاستثنائي، فإذا كان من الجائز والمقبول أن نختصر الحديث عن محمد رويشة، في صفحات، قلّت أو كثرت، فإنه من غير الجائز اختصار مجد بناه، وشهرة أسسها. لأن المجد والشهرة هما من صنع التاريخ الفني الذي يتوج باسم محمد رويشة، «العصامي».

هل يمكن اعتبار عملك ملما بكل تفاصيل حياة محمد رويشة؟ 

حينما يقف الإنسان أمام رجل بحجم وقامة وتاريخ وإنجازات محمد رويشة، سيجد نفسه حائرا مرتبكا، إذ ليس من السهل التحدث عنه أو محاولة حصر دوره وما قدمه لخدمة الفن الأمازيغي بالأطلس المتوسط، هذا الدور الذي استمر على مدى أكثر من نصف قرن، ولن يستطيع أي ناكر أو جاحد أن يطمس مقام محمد رويشة، وما رفعه فعلا من جوانب الفن والثقافة الأمازيغية والشعبية في المغرب..
ولذلك وجدت نفسي أشعر برهبة وأنا أحاول الآن التحدث عن هذه الشخصية المبدعة العملاقة خوفا من ألا اعطيها حقها الجديرة به، رغم أنه كان في قمة التواضع حينما قال يوما: «انني في بداية الطريق»، لم يكن المرحوم محمد رويشة ومضة أو شرارة واختفت بل كان اشتعالا باهرا أضاء الطريق لجيلنا الحالي.

لماذا محمد رويشة وليس غيره من الفنانين؟

الكتاب لم يقتصر عن حياة محمد رويشة فقط بل حتى رواد الأغنية الأمازيغية بالأطلس المتوسط، لأن العمالقة لهم مكانة عالية في تاريخ الفن الأمازيغي بالأطلس المتوسط، قيمة وقامة، ولكن محمد رويشة، بالإضافة إلى قيمته الفنية الكبيرة، تمكن من التسلل إلى وجدان وإحساس وشعور وقلب كل الجماهير، لأنه كان الأقرب للناس إلى درجة الشعور بأنه جزء من أفراد عائلتك أو فردا من أصدقائك.

بناء على علاقتك به، ما السر في نجومية محمد رويشة؟

ومن بين الأسباب الأخرى لسر استمرارية نجومية محمد رويشة، حتى يومنا هذا، بشهادة الكثير من المتتبعين، أن أغانيه كانت بمثابة محطات لذكريات معينة في حياة كل منا، فهو عندما يغني يشعرك أنه يغني لك وحدك، وكان يغني بإحساس صادق عما بدواخلنا فتعلقت به القلوب. ظل محمد رويشة طموحا لتطوير فنه وكان يبحث عن أي جديد في الموسيقى، واقترن ذلك بالخوف والقلق، فحقق بذلك الاستمرارية في النجاح حتى وفاته. إن محمد رويشة موهبة جبارة تتكون من أربعة عوامل كلها في مستوى واحد، قوة الإحساس وصدق الأداء والذكاء المميز وفهمه لما يقوله «محمد رويشة عصامية النبوغ».

هل أفهم من كلامك أن فن محمد رويشة كان ينبع من الإحساس فقط؟

رحل محمد رويشة، على صهوة عبراته يبحث عن ذاته التي ما إن وجدها معلقة على أوتار تلك (الآلة الوترية) حتى جبلت برائحة خشبه العتيق، وزهت بنغماته السحرية، وحدها الموسيقى ظلت معه ملاذا جميلا، يلجأ إليها هربا من الألم الى الألم، ومن الحزن الى الحزن، وكذلك من الحب الى الجنون، لأن آلته الوترية هي منتهى أحلامه وحياته، فالأيام علمته أن الحلم سيظل حلما مالم نلتمسه بأصابع واثقة، والموسيقى وحدها اللغة التي تصنع المعجزات، فلا تحتاج الى وسيط، تخرج من الروح الى الروح ومن القلب الى القلب.
وهو ينتمي كما يعبر الى أهم وأصعب وأخطر مدرسة، هي مدرسة الحرمان، وهنا تحضرني قصيدة  الجراح  «گِيخْ أغريب أولا مَايْ ذيگي يسألن» /(صرت غريبا ولا أحد سأل عني) نعم محمد رويشة لقد علمه الحرمان البكاء فجعله قويا، واختبره في الحب ومد له جسرا للنجاح وتحقيق الأحلام.

هل كنت متخوفا من خوض الكتابة عن محمد رويشة؟ 

إذا كانت صورة الفنان الذي يُسعد الناس ويعجز عن إدراك السعادة لنفسه، هي صورة معهودة مأثورة، فمحمد رويشة نموذج لهذا النمط من الفنانين، ويعسر على من يقرأ سيرة حياته إلا أن يكتئب لهذا الفنان الذي عاش لدموعه وآلامه.. ولأحاسيسه المرهفة.. وعاش معه الملايين في أجواء النّغم العبقريّ والطّرب الشّجيّ.. وأعطى الفنّ الأمازيغي الكثير من التّجديد والابتكار والتّطوّر..
محمد رويشة صنع للحن الأطلسي أصولاً وجَابَ صوته الآفاق عرضا وطولاً وأطرب الناس شرقًا وغربًا فَكاد أن يكون للفن رسولا يا من اشرأبتْ إليه الأعناق ومن أَصْغَتْ إليه الأسماع، فاسمُه قد شاع وذاعْ وفنُّه صار رمزا للعطاء والإبداع، انه فيض العبقرية والمواهب الأصلية، وهكذا طوى الموت ألمع عازف على الة الوتر . وألحد الثرى مع أسرار فنونه، مات  كالعباقرة الذين كتب لهم الخلود رحمه الله بقدر ما أسدى إلى الفن من خدمات.

كلمة أخيرة؟

محمد رويشة الفنان العصامي، لا يستحق الكتابة فقط أو  تكريمه بعد وفاته عن إنجازاته الفنية، أو تسميته على معالمنا و مؤسساتنا الثقافية والعلمية، بل يجب التفكير في استثمار نتاجاته الفنية بتصنيفها ودراستها وإعادة إنتاجها وتسويقها عالميا، وذلك من خلال مشروع تنموي ثقافي مؤسستي يهتم خصيصا برعاية نتاجات رموزنا الفنية، إن اسم مثل محمد رويشة ليس بالضروري أن يكون ضمن الخريطة الجغرافية المغربية، ولكنه صار في قلبها الذي تتشكل منه كل المدن والقرى وعلامات التضاريس..
إنه الكائن الأكثر حضورا في الوعي الإنساني، والمجتمعات لا يمكن لها أن تركن لجغرافية خالية من معانيها الفنية والثقافية والحضارية، لذلك وأسوة بعديد المجتمعات الظافرة، يجب ان نعمل على تخليد رموزنا الفنية، بالكيفية التي تليق بحضورها الفني والثقافي، وليكون المعنى حضاريا، من صميم الدلالة الاجتماعية بقيمة هذه الشخصية أو تلك. نحن كتبنا هذه السيرة الذاتية احتراما لمكانة الفقيد الذي رحل جسدا فإن روحه الطاهرة ستبقى دائما معنا من خلال إبداعاته التي أثرت الخزانة الفنية، رحل محمد رويشة وبقيت أعماله حية بصدقها وبسحرها وبجمالها وبجزالتها.


الكاتب : حاوره أحمد بيضي

  

بتاريخ : 20/04/2022