بعد ولادتي بثلاثين

مازلت أبحث عني في الطرقات الخالية من الأشجار
من الغيمات الواقفة تحت الشمس
وعلى اليمين تسرق من القمر
ألسنة القدماء
وتفتح للريح بابَ الحكاية
حيث كلما سقط نجم
قالت غيمة لأخرى:
مات، لم يقاوم سعال الضوء والوحدة.

أبداً، لم أعثر على مكاني بعد!
ذلك المكان الذي تخرج منه فتاة شقراءَ منتشيةً بالحياة
تُوقظ الأجراسَ
ترسم على فستانها أزهار القرنفل
أقول لها: تشبهين دمع العنب على المِئْذنةِ، أيتها القُبلة المعلقّة على مشنقة المساء
مشتعلة في وجه البحر..
فتاة متلفّعة
تخرج مني كي تدخل الليل عارية
فأقول لها: تشبهين اسمكِ
نجمة في أعالي الروح تُضيءُ بلون القصيدة..

أبداً، لم أعثر على مكاني بعد!
أمضي على الهواء الممطر طوال النهار
وأسرق من الماء عطشي
كي تغني العصافيرُ عن جسد غابة قصيرة
وعن أشيائي
تغمض عينها ولا ألمسها، وأمضي..
أجمع أشلائي
كما هي في صدري
صدري أرض منخفضة، مائلة، مائية،
علامات نسيان جاثية في الضباب
في الظلمة،
في أروقة النهاية حيث النائمون في استقبال الأحلام

عبثا تحاول أيها النهار
إنني أمضي عبر جسدك، في ضوء دقيق منصوب
نحو أي شيء سواي، كي لا أصير ماءً عنيداً.

أبحث، والشموع دون جدوى
تضيءُ بجسدها المحترق، الهواءَ الجاف
وظلي على الجدران، صورتي السوداء
ظلي الذي يركض تاركاً تاريخي
على هيئة جملة كتبتْ على حائط مدرسة، «لا تمضِ خبط عشواء»..
أبحث، والوقت يسيل بجانبي ليلا
ونهاراًيتجمع بداخلي كما يتجمع الثلج في زجاجة فارغة من ماء الساعات الخاوية،
لا هواء يختنق، لا كلام على أطراف اللسان.
نافذة واسعة تطير منها الغيمات
في وجه فارغ من أفكاره المرهفة
وجه يطوي أحاسيسه
يمضي طفلا نائما، يسأل البحر، من يدلّني إليك في ضباب الغروب
في لحظات شمس السادسة صباحا،
في عتمة الأشجار المحفورة بحثاً عن ظل واحد يجمع قصيدتين.
بعد ولادتي بثلاثين
أشرب قهوتي الصباحية الناقصة
من شمس تُعطل الوقت بداخلي
كي لا يمرَّ أحد من وقت ساعتي المتأخرة يوما، يوما كاملا حالما مثلي بفتاة منحنية
على نافذة عالية، يوما يُصغي لمذاقِ عمرٍ كالبارحةِ يطاردني بقسوة التعب..
ألست طفلا ألعبُ
حيث يرخي المساء المالح زمنه المعلق بِثياب الصيادين.
طفلا كنتُ أتقاسم مع العصافير كفاح النهار
وأرسم لهم في دفاتري، ماذا يعني الحب حينما يتعانق وجودنا مع لحظة ضائعة كالدهشة
تُحب ما يُحبنا..

الآن، بعد ولادتي بثلاثين سنة
لا يوجد أحد
ليغرق مثلي ثلاثين سنة أخرى
ثلاثين سنة ترانا
نسقط..
وسعال الموت يمسكنا من حناجرنا
ككلاب تتخاصم، نطلق النباح بلا دم يرسم تضاريس الدخان في عظامنا..
ثلاثين سنة، أَرسمني صوراً قديمةً
جثةً تقوم من وحشة الأبدية
إلى كلمات تحفر لاسمي
وجها يُنصب له الموت غمازة أخرى على الخد الأيمن،
غمازتان
بعدما كنتُ بواحدة لا تكفي كي تحبني امرأة
تتفتح كالورد صباحا ومساءً تبوح بقصائدي.

بعد ولادتي بثلاثين
ها أنا الآن أرقص
مع المطر المفاجئ
مع البحر وموجه والعشاق
مع وجهٍ داكنِ الطفولة
مع صوت ساكنٍ في كلمة واحدة
مع ليل طويل بارد لا يسألني، أين كنتَ قبل سطر وفاصلة…؟

بعد ولادتي بثلاثين
أقول شيئاً، كما لا أقول شيئاً
للحياة التي صعدنا سويا، بكسر الياء
فوق الماء…
هل صعدنا حقاً
على وجهكِ المحتشد
وجه للجميع لا أتذكر فيه انتصاراتي
خسرت ثلاثين مرة
وربحتُ من أمي قصيدة
لا إخوة لي من الرضاعة سوى القصيدة
واسمي المكتوب على صفحاتِ الحالة المدنية
كم كان حبر اسمي يميل للسقوط من الورقة الأولى،
وكم شعرتُ بالموت ولم أمتْ
ربما لأنني أخطأت الحياة، كما الآخرين
عبرتُ الشارع البسيط
كَغريب، ألتقط صورا تخبرني عن ماضيها
ببساطة الضوء والكلمات الحافية
وصوت الأمواج التي تقودني للمسها بقدمي…
بعد ولادتي بثلاثين
صار لي وجه شمس
وجه غيمة
وماء
وجه بحَّارٍ،
وجه
كل الذين يحبونني منذ ولادتي
وجه
أعوام
تشبه
البحر
ثلاثين
ولادة.

شتنبر 2023


الكاتب : عاطف معاوية

  

بتاريخ : 17/11/2023