بعيون عربية: الصين والريادة الاقتصادية

 

حققت دولة الصين، خلال العقود الأربعة الماضية، طفرة مهمة شملت مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والسياحية، حيث ركزت على تنمية قدراتها الشعبية والدولية، من أجل تحقيق المزيد من الازدهار، بالرغم من الكثافة السكانية الهائلة، والتي تتجاوز المليار والنصف، إلى أنها استطاعت أن تخفض من نسبة الفقر وتشجع التعليم، وأصبح الالكتروني منه بمثابة ثقافة تنفرد بها عن باقي الدول الصناعية، ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، كما خططت تقنيات حول كيفية الانفتاح على العالم العربي، ومنح فرص كبيرة لبعض الدول النامية لتنمية ذاتها.
وقد حصل هذا الانفتاح والتطور في ظل نظام سياسي اشتراكي ،يهدف إلى محاربة الفساد بجميع أشكاله وألوانه داخل البلاد وتشجيع الاستثمار الداخلي والخارجي، وتقوية التكوين اللغوي، لتسهيل مهمة التواصل مع باقي الاقتصاديات العالمية،حيث غزت منتجاتها جل دول العالم، منافسة بذلك الدول المتقدمة التي اعتادت الشعوب على خدماتها وسلعها منذ عقود من الزمن، وذلك نتيجة تعاون جميع مكوناتها الاجتماعية والحكومية يدا واحدة لتحقيق الرقي الاجتماعي. ولعلنا لمسنا ذلك من خلال تواجدنا هذه الشهور بمقاطعة نينغشيا بجهة شمال- غرب الصين، حيث يعيش السكان في مستوى معيشي جيد، سواء من حيث البنية التحتية الجيدة والنظافة داخل المدن مع هندسة مدنية رفيعة المستوى، مستغلة كل ما تجود به الطبيعة من أشجار وأنهار أحجار .. فمثلا في الصباح الباكر يتم غسل جميع الطرق داخل المدينة بالماء الذي يتم تخزينه أثناء هطول الامطار نتيجة طريقة المدينة الإسفنجية، حيث يتم محاربة الفيضانات داخل المدن بامتصاص الأمطار والاحتفاظ بها لتنظيف الشوارع، كما أثارت انتباهي سياسة جيدة في تكوين الطلبة داخل الحرم الجامعي، خاصة طلبة السنة الأولى، حيث يتم إخضاعهم في الأسابيع الأولى لبداية الدخول الجامعي للتكوين العسكري من ألف إلى ياء دون إغفال أي شيء، الأمر الذي يساعدهم على حسن التصرف تجاه الأستاذ داخل الجامعة، وتجاه مجتمعهم قاطبة. ومن بين مظاهر الانضباط أيضا بهذه البلاد، أثناء ركوب الحافلة بالمدينة أن كل فرد يضع ثمن التذكرة في صندوق بجانب السائق دون رقيب ، ولا أحد يركب دون أداء واجب التذكرة. هذا نموذج عن جهود الحكومة الصينية التي يقودها الحزب الشيوعي تحت رئاسة وقيادة شي جين بينغ، الذي يعتبر الموجه الأول، يقف الكل خلفه، حيث القرارات الجماعية والتخطيط والتنظيم الجماعي .
ومن بين أسباب الازدهار الشامل بالصين أيضا، تربية الشعب على الاحترام المتبادل في الشارع وفي أماكن العمل، لأن المرؤوس ينفذ كلَّما يطلب منه الرئيس، وإن كان على حساب جهده ووقته في عملية تواصلية أفقية ورأسية والتي تحقق الاكتمال الحقيقي للإدارة ، ويعملون في تفان دون غش أو غيره، لجعل دولتهم جديدة ومتطورة تضاهي باقي الدول المتقدمة، الأمر الذي جعلها تتبوأ المرتبة الثانية اقتصاديا في العالم. وإلا كيف لدولة لا يوجد بها نفط تصدره ولا غاز وليس بها احتياط فوسفاطي كبير…أن تحقق كل هذا الازدهار في ظل أربعة عقود فقط، الأمر الذي يؤكد ـأن سبب ازدهار الدول بالدرجة الأولى هي الحنكة السياسية وليس الموارد الطبيعية والبشرية، بالإضافة إلى نهج سياسة خارجية ناجحة مبنية على الاستثمار والمنفعة المتبادلة، فكما يقول الكاتب البريطاني دينيس ويتلي « يعرف الناجحون إلى أين يتجهون بماذا يخططون ومن سيشاركهم رحلة النجاح» و الصين تعلم مع من تتعامل من الدول الاجنبية وتضع شروطا لذلك، من أجل تحقيق الاستفادة الجماعية وليست الفردية، وإن كانت متفاوتة الدرجة .
لكن التساؤل يطرح حول أساسيات الاستمرارية في التطور والتنمية الشاملة مع إشراك الدول الأجنبية خاصة العربية في ذلك، ومدى نجاح مشروع مبادرة طريق الحرير في المستقبل، الذي يعد بإحياء طريق الحرير، وهل ستنجح حقا الصين في تحقيق المشاريع الكبرى التي تخطط لها مثل الربط السككي بالقطارات الفائقة السرعة بين بعض الدول والتخطيط لبنية تحتية متطورة، متفوقة في ذلك على الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها أقوى دولة اقتصاديا في العالم، لاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار العزيمة التي توجد لدى هذه الدولة الاسيوية شعباً وحكومةً .
إضافة إلى ذلك، وبعيدا عن الاقتصاد، تهتم الصين بالثقافة والسياحة من خلال الاهتمام بنظافة مدنها وتشييد أبراج من البنايات في كل مكان متغلبة، بذلك على المعيقات الطبيعية، ناهيك عن سياسة اهتمامها بالمناطق ذات المناظر الخلابة، حيث تجعلها قبلة لكل من يريد أن يتمتع بجلالة الخالق في الإبداع، وهي تمتلك، منذ زمان، الطاقة الهائلة في التحدي والابتكار، ولعل المآثر التاريخية تشهد على ذلك مثل المدينة المحرمة وسور الصين العظيم، وذاك خير دليل على قوة الشعب الصيني في تحقيق كل ما يصعب على غيرهم من الشعوب .
أمام هذه الحسنات، التي توجد لدى جمهورية الصين، لا يسع المتتبع إلا الانتباه من صحوة التنين ومدى عدالته، إذا ما أصبح هو المتحكم في دُمى العالم مستقبليا، وكيف سيحركها يا ترى؟ وهل سيكون رحيمًا بالدول الضعيفة اقتصاديا؟ أو ما يصطلح عليها بالدول النامية؟ أم سيكون سيذوبها لمصلحته؟ أم أنه ستكون دولة عادلة منفتحة وبالأحرى أكثر إنسانية من غيرها بكل ما في كلمة انسان من معنى من مبادئ التعاون والتضامن وتحقيق السلام العالمي بعيدا عن سياسة الاستغلال ونشر الفتن مثل ما يحصل اليوم وخاصة بالنسبة للدول العربية في حرب العراق وغيرها من حروب الشرق الأوسط؟
بالإضافة إلى ذلك، تركز دولة الصين في سياستها على الجانب الإعلامي بشكل ممتاز. وهذه المبادرة الجدية، لعلها تخلص العالم من إعلام اللوبيات الأجنبية المتحكمة في خيوط السياسة والاقتصاد العالميين، حيث يمكن أن تنجز وبتعاون مع الدول العربية إعلاما حرا ونزيها، ينقل الحقيقة بشكل صحيح، ولا يحرك دمى خفية باعتماد أساطير إعلامية لنشر الفتن وتدمير التقدم العالمي ،لأن الإعلام يصنع المستحيل، وهو سيف ذو حدين يخبر من جهة، ويدمر من جهة أخرى. ولعلنا لمسنا ما يفعله الاعلام الغربي في نشر الزيف والمغالطات أكثر من معدل الفتن والحروب التي نشبت في العالم العربي، خاصة منذ عقد ونصف تقريبا، وتحديدا منذ أحداث 11 سبتمبر، حيث شهدت الولايات المتحدة الأمريكية مجموعة من الهجمات، بعد أن تم تحويل اتجاه أربع طائرات نقل مدني وتوجيهها لتصطدم بأبراج تجارية ومقر وزارة الدفاع الأمريكي.
هكذا استطاعت جمهورية الصين في عقود معدودة، أن تصبح ثاني دولة اقتصاديا عالميا، باعتماد سياسية محبوكة، جعلت كل من يزور هذه الدولة لفترة قصيرة أو طويلة، يلمس سريعا تقدمها ورقيها الاجتماعي، و عليه أن ينقل ما رآه وما عايشه للخارج في رسالة نبيلة، الهدف منها أن تأخذ الدول السائرة في طريق النمو تجربة الصين كنموذج وتحقيق الاستفادة الشاملة، من أجل تحسين اقتصادها والرقي بمستوى عيش سكانها .

أستاذة بجامعة نينغشيا
جمهورية الصين


الكاتب : الزهرة الغلبي

  

بتاريخ : 20/11/2017