عرفت الساحة الأدبية والثقافية في مدينتي تطوان وطنجة بروز الكثير من الأعلام خلال القرن المنصرم، وقد ساهم هؤلاء منذ فترة الحماية وما بعد استقلال المغرب في قيام نهضة علمية وأدبية وثقافية في مدن الشمال الغربي للمغرب. كانت هذه الجهود التي قام بها هؤلاء من الدرر التي أوجبت على المهتمين بالحقل الثقافي والأدبي والصحفي الاهتمام بها وبأصحابها.
اهتم الكثير من الأدباء والمثقفين بإدراج سير مختصرة أو مطولة لعلماء وأدباء وفقهاء ومثقفي المدينتين بداية من القرن العشرين، أمثال الأديب التطواني أبو العباس أحمد الرهوني، والأديب محمد داود التطواني والحاج الفاطمي وانتهاء بأدباء ومثقفي الفترة المعاصرة، أمثال الأستاذ محمد المسري والصحفي الطنجي حسن بيريش.
يعتبر الأستاذ والصحفي «حسن بيريش» من كبار الصحفيين والأدباء الذين اهتموا بالحقل الثقافي والصحفي بمدن الشمال المغربي،وخاصة مدينتي طنجة وتطوان، ولدوره الريادي في هذا المجال، قررنا أن نجري معه حوارا مقتضبا حول سيرته الذاتية والعلمية والثقافية، وأهم أعماله الإبداعية، ونظرته إلى الواقع الثقافي في المغرب عامة وشماله خاصة، وحول كتابه الجديد «أنطولوجيا كتاب طنجة 100 سنة من الإبداع». وقد كان الحوار على الشكل التالي:
n لابد لكل تألق بداية، فمن هي شخصية الأستاذ حسن بيريش؟
pحسن بيريش كاتب طنجوي / مغربي أغوته العبارة فاستقى منها ما جعله يتشكل فيها / بها. عشقت الكلمة قبل أن أعرف سرائرها. وحين عرفت، حين أدركت، ازداد جهلي بخبئها المستتر..!! مع تراكم أبجديات هذا العشق، وتفاقمه في الذات واليراع، ذهبت صوب تأليف كتب لا أعرف بعد ما قيمتها، إذ لا أقرأ ما فيها حين تصدر، خشية أن أتألم (!!)…
n كيف كانت مسيرتكم الذاتية والعلمية، ومن هم أبرز أساتذتك، سواء الذين درست عليهم، أو الذين تأثرت بهم؟
p في الواقع، وبدون تبذخ بالتواضع، ليس لي أساتذة. ذلك لأني غادرت أقسام الدراسة وأنا بعد في السلك الابتدائي. إذن الحياة، معتركها وأفقها وامتدادها، شكلت، بالنسبة لي، أفق الأستاذية الحقة، المتميزة، والباقية. تأثري الأكبر والأوفر تشكل عبر قراءاتي الكثيرة والعميقة للأدب المصري في مختلف أجناسه وتشكلاته، وعبر رواده الكبار قيمة وقامة. جل الأسماء التي صنعت الريادة الأدبية في مصر، تشرفت بصحبتها، قراءة وإعجابا وتلمذة.
n صدرت لكم الكثير من الأعمال الأدبية والعلمية، فحبذا لو تحدثت لنا عن بعضها:
p صدرت لي الكثير من الأعمال في مجال النقد السياسي والكتابة الأدبية والإبداعية. وبكل صدق، أود أن أقول: لا أعرف قيمة ولا أهمية هذا الركام من الكتب، ليس لأني كاتبها، بل لأنها لم تعد – هذه الكتب – في حوزتي، بعد أن أضحت في ملكية القراء. بدأت كاتبا سياسيا قبل أن أذهب صوب الأدب. هو انتقال تشكل في ظل امتدادات الطموح والتوثب، وفي ظل تناسل الاهتمامات المتعلقة بالتعاطي مع الحرف. لكن وبعد سنوات ذوات العدد، استمسكت بالبورتريه الأدبي الذي أضحى تخصصي الأدبي، الذي ألفت فيه عدة كتب، ونلت جوائز باعتباري أهم كاتب بورتريه في المغرب والعالم العربي، كما يقال عني طبعا (!!)..
n سيصدر لكم كتاب قيم بعنوان: « انطولوجيا كتاب طنجة 100 سنة من الإبداع»، فحبذا لو تحدثتم لنا عن الجديد الذي سيقدمه على مستوى المضمون والإضافة العلمية والثقافية؟
p«أنطولوجيات كتاب طنجة / مائة عام من الإبداع»، مشروع توثيقي ضخم لتاريخ الكتابة في طنجة خلال مائة سنة كاملة. حسب علمي واطلاعي، هذا أول كتاب يصدر في تاريخ طنجة يجمع شتات الكتاب الطنجويين، أو الذين عاشوا في طنجة، مغاربة وعرب وأجانب. وقد حرصت على عدم إقصاء أي كاتب لدواع نقدية، حيث يبدو لي أن بنية التوثيق، التي يراهن عليها هذا المشروع / الكتاب لا علاقة لها بالتقييم الأدبي. هو عمل مؤسسات يقوم به كاتب / فرد. من هنا قيمة التحدي الذي أراهن على كسبه مهما كان الثمن. لأن كتابا من هذا الطراز سيخدم المشهد الأدبي في طنجة أجل خدمة، كما يتبدى لي.
n كيف تقيمون واقع الحركة العلمية والثقافية والاجتماعية والصحفية في مدينة طنجة؟ وما هي الصعوبات التي يعاني منها المثقف المغربي؟
p لست متشائما، كما أني لست متفائلا. في الواقع أنا «متشائل»، حسب عبارة الروائي الفلسطيني الكبير إميل حبيبي. أتفاءل كلما قرأت لكاتب طنجوي نصا مثقلا برؤية إبداعية غميسة، ولغة تنهل من الأقاصي، أقاصي البلاغة والحداثة والأفق القصي. وأتشاءم كلما رأيت كاتبا مبتدئا يعوزه التواضع الباذخ أمام عوالم الأدب والثقافة والعلم. وبين هذا وذاك، بين الخصب واليباب، أجدني منحازا إلى «التشاؤل»، فعساني أكون مخطئا، أو مبالغا. يبقى التأكيد أن طنجة البهية مدينة نجيبة ومنجبة. للأسف لم نعد نتوفر على المثقف العضوي، افتقدنا هذا النوع في مثقفينا منذ سنين، لأسباب شتى ومتداخلة بشكل لولبي فادح .!!
n هل يمكن أن نشهد نهضة ثقافية وعلمية في المدينتين (تطوان/طنجة)، ومن هي المدينة المرشحة لاحتضان هذا الأثر في نظرك؟
p أعتقد أن المستقبل الأدبي / الثقافي عموما، معقود لطنجة، رغم ما نراه من أوشاب هنا وهنالك. طنجة عبر تاريخها الطويل والحافل، شهدت مدا وجزرا، ثم تنطلق سكتها بشكل متميز. لذلك، لست أخاف على انتكاسة ثقافية ما، لأنها تحدث ثم تنقضي، يبزغ الأفول، ثم يأتي الإشراق.
n بعد أن أنهيت مشروع كتاب «أنطولوجيا كتاب طنجة 100 سنة من الإبداع»، فهل تفكر في تأليف كتاب على هذا النحو، لكل من مدن شفشاون والعرائش وغيرها؟
p أتمنى ذلك، وسأكون سعيدا لو تيسرت ظروفي لإنجاز عمل من هذا الطراز. يبقى الأمل الكبير في أن يقتفي كتاب هذه المدن خطواتي في تأريخ الكتابة في طنجة. وفي هذا السياق، أذكر أن الكاتبة التطوانية المتوهجة أسماء المصلوحي سبقتني وكتبت ثلاثيتها الباذخة «أسماء وأعلام في ذاكرة تطوان» وهي ثلاثية تستحق جماع التثمين والإشادة، نظرا لما بذلته الكاتبة أسماء المصلوحي من مجهود توثيقي كبير.
n ماذا تعني لكم هذه الكلمات والأسماء:
p المدينة: مكان تشرق فيه الأنا في رحاب الآخر. مكان نلوذ به لنمارس عزلتنا، ونقترف ضعفنا الإنساني في منأى عن الآخر.!!
_ المرأة: لا حياة في غياب المرأة، في غياب أنوثة بها / عبرها ترتاح كل دواخلنا وكل سرائرنا. المرأة ضرورة حتمية للحياة فوق البسيطة.
– النهضة: بدون نهضة شمولية، لا مجال للحديث عن إنسانية الإنسان. أنا أزعم أن التطور هو حقيقة الإنسان.
– الروائي محمد شكري: محمد شكري كاتب كبير اشتقنا إلى يراعه الذي كان يلج بنا جغرافية طنجة السرية.
n كلمة أخيرة للأستاذ حسن بيريش:
شكرا من صميم القلب لهذا الحوار الذكي، الجميل، والذي يمارس تفوقه من خلال أسئلة مشاكسة.