بهاء الدين الطود:يرتدي زي الدفاع هنا ويخلع سُتُور الذاكرة هناك

(1)
«أراود الروايات عن نفسها،
وأحول كل أحاديثي ورسائلي
إلى بنيات سردية».
أن تكتب عنه، هذا أمر مخيف لا يُوحِي بأَيَّمَا ثقة. ليس لأنه من ذوي السوابق في فرض الهلع على من يضعه رهن تأويل. بل لأن الخافي فيه هو غير البادي فيّ، ولأن الساكت فيّ هو غير الناطق به.
لذا، كلما أزمعت على كتابة ولعي به / فيه، أهمس في أذن حبري: كل محاولة للقبض عليه، في خلسه الإبداعية، تبدأ بخوف، وتنجلي عن إعجاب. وما بينهما، لا أملك سوى الدنو أكثر من توقد لهيبه، كي تحترق كل شكوكي في تنور بعض وثوقه !
«جميعنا يسكننا الآخر،
الإنسان، إذن،
مضطر إلى الآخر».
وها أنا، في لحظة أول إنزال، وعلى مرأى من روائي بحجم بهاء الدين الطود، أقف على حافة تهيب، أقف موزعا ما بين مخافة التجني، وخشية التظني.
لا أحد يسألني:
كيف ؟ وعَلاَمَ ؟
أنتم أدرك بالجواب:
الكتابة عنه
أشبه بمخبأ لغوي
أبدا لا ينجو
من غارات المكر !

(2) 
«الحياة رواية طويلة
وليست قصة قصيرة».

الكتابة نصف «آخر» لبهاء، وليس نصفه «الآخر». وهو يكتب إذا عِيلَ صبر سرده. الحبر عنده ليس له زر تشغيل وإيقاف. لذا، هو في كل حين من أحيانه، ومثل بَغْتَات المقادير، يأتي نصه مشتعلا بجمر السنين، يخاطب الكامن فينا، ويستميل النائم من حواسنا، موقنا بتَصَيّره إلينا.
الشرارة التي تشعله، حين يعتزم الاندغام في متاه الرواية، تجعله يبدو، إزاء انخطاف قارئه، مغويا بشكل هائل. من هنا: كلما ازددت من نصوصه دنوا، ازددت بعوالمه الكونية ولوعا. أستعيد هنا ذاك الشغف المغوي، الذي تسلقني يوم التقمتني روايته «البعيدون»، وآلت بي، عبر فضول لا يزم بزمام، نحو البحث عن شقيقتها الساحرة «أبو حيان في طنجة».
وعبرهما، معا، صار بهاء يومض بريقا في عيني نصه، وقلب قراءتي. أما أنا ف «كدت أعترف»: ما وجدتني، مختليا به، أو ساكنا في وجيبه، إلا وبي شعور من يود استزادة.
«الرواية هي الأقدر كشفا عما  يجيش به صدري من قلق ومشاعر وأحلام. كما أن قسماتي النفسية   من أساسها وجذورها تتمثل في الرؤية الكلية الشاملة للأشياء،  والنفاذ الى الأشياء الصغيرة  والتفاصيل الدقيقة والميكروسكوبية  التي هي مادة الرواية وجوهرها».

(3)
«أنا كائن روائي
بالقوة والفعل،
بالإمكان والتحقيق».
إنه لا يعجب بشكل النص، بل بشكل علاقته معه. حتى تلك الحيل البصرية، التي تستوقف كل نبضنا في نصه الروائي، لا تأتي عبر مركزية القصد، وإنما عبر تأجيج مشاعر الحكي، حيث يلعب التعدد في المستويات اللغوية، وهي ذات إيقاع سردي لاهث، دورها في إثراء أرخبيلات حبكته.
«أجدني لأول مرة أقرأ مذكرات    دون فيها بهاء الدين ما يمكن تسميته بالماضي من أجل الحاضر   بقدر كبير من الحيوية والتفاعل والجاذبية كذلك.» :عبد القادر الشاوي.
إن هذا المبدع، المقل في إكثار، لا ينتمي إلى تلك الفئة من الروائيين، الذين كلما كتبوا سارعوا إلى وضع  النياشين على ياقات نصوصهم، لكي يتسنى لنزواتهم إسقاط المتلقي في فخاخ إبهارهم الشكلي، النائي عن أيما جوهر !
هو روائي مدجج ببراءة الكتابة الأولى، وبدهشة أول سرد، وبنزوة ذاك الوشم الذي يبقى راسخا في مخيال التلقي، بعد الانتهاء من ولع القراءة.
«اختياري الكتابة الروائية  لم يكن ارتماء داخل النص  بقدر ما كان اختيارا واعيا مؤسسا ومبنيا،  وفي الوقت نفسه كان استجابة ملحة   لما يجيش بوجداني، وتلبية لحاجة ماسة الى البوح والتنفيس».

(4)
«خيل لي أن ريحاً عاصفة  تدوي بداخل رأسي، وتغسل ذاكرتي فتزيح ما تراكم بها من طبقات النسيان،   وتفتّقت بصيرتي، لتفرد لي مشاهد  لوقائع عينية من حياتي البعيدة،تلك التي كانت في طي العدم،  كما لو أني كنت أعمى، فصرت بصيراً».

لفرط انشدادي إلى لغته السردية، ذات القوام المشدود التي تتهادى في مَشْيتها فوق احْتِدام الصفحة، تمنيت لو أخفيت داخل غرفة كتابته جهاز تسجيل كي أسمع تفاصيل الحديث الذي يدور بين قلقه اللغوي ولغته القلقة، ثم أدرك: لماذا حين ألتقي بلغته تساورني متع مفاجئة في انخطافها، تشبه رجفة الدوار !
«كانت الليلة فعلا باردة،   سرت فوق رمال الشاطئ المبتلّة،   مصحوباً بنسائم عشب البحر،    وضوء القمر، وصخب الأمواج،  والتوحُّد، والظنون، فانتبهت إلى أنني مغلّف بأحاسيس مضادة، متناقضة،  لعلها مزيج من السعادة والحزن،أو من الفرح والكآبة».
وأنت منخرط، وذائب، في حراك سروده، تتراءى لك لغته الوهاجة وهي تسعى إلى التكاثر النوعي، لا توق لها سوى تمرير جيناتها لأجيال الرواية القادمة.

(5)

«وانزلق اسمها من لساني،
فتوقفت وسط الشاطئ
وخاطبت نفسي،
ماذا؟ قلت شهربان؟ لفظت اسمها؟
لم أصدق، كيف لي أن أصدق
وأنا منذ عشرات السنين،
وقبل عشرة قرون،
أحفر عن اسمها في ذاكرتي،
إلى أن تملكني اليأس وصار يقيني
بأنه امّحى إلى الأبد،
وفجأة يطفو على سطح ذاكرتي،
لتتقشّع معه
كل تفاصيل أيامي المنسية».
ما بين «البعيدون»، حيث مهارة الوصل اللغوي المختلس من اغتمام الأنا والآخر، و»أبو حيان في طنجة»، حيث نرى رادار البيان الجَزِل يلتقط إشارات دالة على ذكاء تداخل الأزمنة، ومكر انصهار الأمكنة، واصل بهاء صنيعه الخلاق: اكتشاف مخابىء اللغة، وتطوير العلاقة معها، والبحث عن مواطىء اللُمَّع الحكائية الكامنة فيها.
حين تصلك «رسائل بيلار» (شرفني بقراءة مسودتها)، بدون أي ظن ستدرك أن هذا المبدع، الذي تشعله شَرَارَات التلميح المستتر، مسكون بتحسين الآداء الإبداعي لكل نص يخرج من سراء أحشائه.
«واصلت استراق النظر إليها  شعرها كستنائي حريري ينسدل فوق معطفها  لا، ليس حريريا تماما، بل تتخلله تموجات، تشبه مويجات النهر    حين تهب عليه رياح خفيفة    ممزوجة بشعاع ذهبي يرسله قرص الشمس، بل مغيبه».

(6)
«دراسة القانو    أسهمت، بشكل كبير،  في تشكيل بنياني الروائي».

من رهبة المحاماة جاء بهاء إلى دهشة الرواية. هذا الانتقال السلس، لا يستدعي جمع شتيت تأويلات. هذا العابر، المقيم بين الضفتين، بهاء البهاء:
ولج القانون:
وعينه على فلسفته،
لا على مسطرته.
سلك الرواية:
وقلبه ضاج بفداحة عوالمها،
لا بفصول حبكتها.
بالتالي، بلغة التورية، يظل مؤشر هذا الانتقال مرتفعا هناك، حيث يرتدي زي الدفاع، يانعا هنا، حيث يخلع سُتُور الذاكرة. والتحكم في الإنزال، مرافعة وإبداعا، ديدن المحامي، ودأب الروائي.
في حوار، بديع اللغة والرؤى، أجراه معه الناقد عبد الرحيم العلام، تولى بهاء إضاءة هذا الجانب، قائلا، بكثير من يقين رجل القانون، وقليل من ظنون مبدع الرواية:
«أسهم القانون في قدح   تكويني الفني في مجال الرواية، فلم أكن أقرأه بوصفه  نصوصا وفصولا قانونية في حد ذاتها، بقدر ما كنت أقرأ    الخلفية الفلسفية والنظرية  التي تثوي خلف النصوص والفصول».

(7)
حين تلوذ بهذا الكاتب الروائي، الممعن في الإبانة عبر تجل داخل النص، لا تملك إلا أن تستضيء به، لكي ترحل صوب أصقاع هو وحده مرشدها.
«وأنا أقرأ «البعيدون»، اكتشفت أن صاحبها قد أتى إلى الكتابة عن طريق الحس المتبلور،  فأجاد في تكثيف الصدام بين ثقافة الأنا والآخر   في سرد روائي لين وراق،  وبأسلوب أخاذ شاعري وشفاف، لا يقوى عليه إلا من يجيد حبكة القبض   على جمرة الخيط الروائي…
وتلك هي اللعبة السحرية في الفن الروائي الجيد، التي عرف بهاء الدين الطود كيف يستحوذ عليها».
( محمد شكري )

نصوص بهاء الدين الطود تستحوذ على لب قارئها. تترك له بياضات آسرة، بين مقطع سردي وتاليه، لكي يملأ الحَبْكات ببزوغ مخيال التلقي. ثم تفتح له مسالك ضليعة في الحث على إعادة كتابة ما يقرأ، وليس لقتل المؤلف، وإنما لإحياء القارىء !
«ولاحت «ايستر» بعد أن أصلحت حزام فستانها الأسود الطويل،  وقد أطال قامتها حذاء أسود بكعب عال، ولفت ظهرها، وكتفيها بشال حريري، فوقه أقراط خضراء تدلت من أذنيها، لم يكن لها أدنى شك في أناقتها، ولا في أنوثتها المفرطة، أنا متأكد من ذلك وإلا ما استدارت حول نفسها تطلب رأيي في هيأتها.صفرت بفمي تعبيرا عن اندهاشي».

(8)
«كنت أراود الروايات عن نفسها،  وأحول كل أحاديثي ورسائلي    إلى بنيات سردية».
عندما تعرفت إليه، سنة 1998، تراءى لي بهاء على شكل نص روائي طالع من سفر ما. كان كل ما فيه، كل ما يبديه، يشي بأنه روائي «أبا عن جد» !
أحاديثه الملأى بالآخر،لا بزهو الذات،
بدت سرودا تحن إلى الطبع والنشر.
استرجاعاته الطاعنة في وشي الحكي،
ذات المنحى اللولبي،
برزت إزاء دهشتي،
كما لو كانت فصولا من رواية
تنتظر صوغا قادما لا مفر !
ولما ترادفت لقاءاتنا، كثرت نقاشاتنا، واقتربت من محترف إبداعه الروائي، المختوم بميزات مغايرة، صرت أتعاطاه من وارف الشغف، وأدمنت قراءته، والتعالق مع ذاك المزج الفذ، الطازج، بين تداني شبوب المسافر، ونأي توق الروائي.
هنا، تجسد:
إغواء حبره.
هنا، سطع:
حبر إغوائه.


الكاتب : حسن بيريش

  

بتاريخ : 20/10/2023