بورتريه : عبد الإله الحريري ذهب إلى أقاصي السرديات ولم يعد بعد !

(1)
خذوا أنتم الضوء
واتركوا له ظلا وريفا،
عبره يقرأ سفر كل الإشعاع.
يكتب ما فاض
من دهشة العتمات.
ويتوكأ على قوة الغياب
كي يبزغ ألق الحضور.
ذلك لأنه، عبد الإله الحريري الذي يلاحق أهواء السرد، يعلو باكتفائه الذاتي، تاركا غيره يلاحق بقايا خفوت، بينما يسري هو في غسق الشفق، يبحر في أعالي المقيم، ولا يحتاج إلى شمس مستعارة من العابر.
من هنا، لم يعبأ عبد الإله، يوما، بالسباق المحموم نحو بروز متعمد، لاهث. هو يكتب لذاته كي يعي ذاته، غير معني بأي شيء خارج نعمة الكتابة، داخل كتابة النعمة.

(2)
ذهب إلى أقاصي السرديات، ولم يعد بعد. فكرت أن أسافر إليه هناك، حيث يقيم همس تأويله، بيد أن جهر إقامته في المابين، أغراني بانتظاري كي أقبض على موعده. لا محيد، ثمة، عن اللقاء بين يده وشاشتي.
هذا رجل يمتح من البعيد،
يشرئب نحو الغور،
يمتد في وريف تعدد أبعاده.
هكذا قلت ليراعي، وأنا بصدد الكتابة عن عبد الإله، وبصدد قراءته، من مدار جبلته، حيث يتلالى تفوقا، إلى مقام ثرائه، حيث أتدفق به، وفيه.
وبيننا تتوالى مشاهد قارئ يرى أبعد من مسافة الكلمة، ثم علامات كاتب يصغي إلى خبء المعنى. وما من حد للهمس الجاهر الذي يثوي في سويداء الإثنين.
كي تقرأ شجو فؤاده، عليك أن تدرك شجن دواته. لذا، أحب أن أقرأ صمته حتى مطلع فجر الكتابة. ذلك لأن ساكن الدار البيضاء هذا، لا يفشي سر بوحه عبر النص وحده، قد يتجلى عبر تعليق يحمل كل جينات الكتابة !

(3)
هذا كاتب لا يعبأ بالضوء،
لأنه يشع في عتمات تجليه،
هناك، حيث يحصي أنفاس الشمس،
كي يرى كثير قامته
في قليل ظله !
حين عزمت على كتابته، سبقني وقام بكتابتي. أسرعت إليه كي أحضن قربه البعيد، فوجدته يعانق نأيي بتدانيه. لذا، ما وجدت سبيلا إليه غير قراءة بعض شسوعه لتضيق المسافة الملغزة بين ذكاء نظرته، ورهافة سمعي.
«أغاني الرعاة
تطرب خرافها».
هذا كاتب ازداد في الدراسات السردية، وعبرها ترعرع وكبر. لذا، لا يمكن اللحاق به، أو اعتقال شسعه، إلا من خلال ثراء قد لا يبدو لك ما لم تكن، بعمقه، خبيرا.
بين زمن وٱخر، وبين مساحة ومسافة، يبرز وفي يده بياض نص يشبه إيقاعه، وحين يطلق سراحه، هو، أتقيد، أنا، بكلية تصوراته، مداراته، وأفق اشتغاله.

(4)
لغته قَريبة بِكُلْ
مَا أوتِيت مِنْ بُعْد،
بعيدة بِكُلْ
مَا أوتِيت مِنْ قرب.
تلج مخابئ دوالها، تمتطي بوارق صورها، وتنهل من معين مخيالها، فتجد نفسك شديد الانغمار فيها، وقوي الصلة بها. ولا تملك إلا أن تتقرى جماع أقاصيها، وأَنْتَ جد مأهول بماء جملته، وشواظ تفسيرك !
أَنْتَ، أنا، حين تطالعه سافر في عبارته، ومخبوء في دلالته، ويمم شطر استعارته، يتبدى لك وكأنه، هذا الضالع في كل عرامه السردي، تحول إلى جنوح قُد من مجاز.
ذات إضاءة كاشفة، يقرأ عبد الإله الحريري كف الروائي خالد أخازي، يتنبأ بمضمرات تكمن في أحشاء النص، ثم يقول بما في حبر تأويله من يقين الشك:
«الزمن في الخطاب عنده، ينفلت من زمن الحكاية، ليؤسس جمالا خطابيا
فيه الاستدعاء، والاسترجاع الاستباق، والتبادل الصوتي. تكاد نصوصه السردية أن تشكل قطيعة مع صخب التجريب، معتمدا على منجز سردي ينتصر للحكاية وللغة، فبقدر ما لغته في رواية ذاكرة جدار الإعدام شفافة وشاعرية، فهي ملتهبة، لغم قد ينفجر بدلالات متعددة حسب التناص بمفهوم إيكو أمبرتو».

(5)
قرأت بعض تأويلاته للنصوص، فتجلى لي مختلفا في رؤاه، مغايرا في تعاطيه، مختبئا في تبديات الكلام. وأدركت كيف أنه يقارب المتن بمهارة هامشه، كيف أنه يرتديه زيا ويخلعه شكلا، ثم يمنحنا ما فيه من عراء البكارة !
إنه لا يقرأ بحثا عن ثغرات
يستعلن بها،
بل يغوص بحثا عن ميزات
يهمس بها قلبه قبل مداده.
هنا ما أستشعره من فداحة، كون هذا الناقد يكتفي بإقلاله، ولا يتخطاه إلى إكثاره. هذا ما يجعلني أتساءل، وفي لغتي كثير من اللوم والعتاب:
لماذا تترك نظري، وهو معجب بحرفك، في منتصف تأجج القراءة،
متعطشا لرهافة التوق في عبارتك ؟!
وكيف تأخذني أنت إلى نهاية الجملة، بينما أنا بالكاد في أول المعنى ؟!

(6)
أنا في حضرة رجل
شيمته بهاء،
وأنا في حضرة بهاء،
شيمته رجل !
هو لفرط تواضعه أمام رهبة المعرفة، وهو لشدة معرفته إزاء علو تواضعه، يمنح لنفسه التلمذة، ويهب لتلاميذه الأستاذية. ولا يجعلك تعرف بوضوح، وأنت تلج عتبات قسمه، ودهشتك معبأة بتساؤلات عجيبة:
أهو أستاذ لتلاميذه ؟
أم تلاميذه أساتذة له ؟!
وفي جبة السؤال ستبقى.
في سؤال الجبة ستظل.
لا مفر !
احتر كما شاء لك العجب،
أما هو، الأستاذ / التلميذ،
فيكتفي بانهمار المحبة من عيون يعرف خبء قلوبها.
أما هم، تلاميذه / أساتذته، فيكفيهم نور تواضعه كي يدرك كل واحد منهم الفرق الرائع بين علو الأستاذ، وأستاذ العلو !

(7)
ولما يصاب الواقع بوعثاء عدم الارتفاع، يعمد الحريري إلى مقامات يكلم من خلالها بعض الحيوانات، لعلها تنطق برمز بعيد السطوع عن وقت غائر الأفول !
هل انتقل الحريري،
ساكن البصرة العراقية،
إلى الحريري،
ساكن البيضاء المغربية ؟!
سؤال ما هو بعبثي، إذ أن عبد الإله يسرد حكايا على شكل مقامات، لكي يضع الواقع في صلب مٱزقه، كي يبرز شقوقا في جدار الحياة، وكي يقلص من منسوب الوحشة.

«ٱه…
ياجرحي المكابر».
عن هذا الجرح الغائر يكتب.
في هذا الجرح يكتب.
هو سبيله لتكليم الرماد في الجمر. هو غايته لتحديد موعد مع الوجع. الأول: حبر يقيه دوار ما يمور في أحشاء أوقات هشة. الثانية: كلام ينقذنا من قيظ نهارات معاقة !
فيا صديقي،
يا عبد الإله،
يا أيها المسجى
على زمنك المزمن،
امنحني كثيرك
لأزهو بقليلي !


الكاتب : حسن بيريش

  

بتاريخ : 19/10/2021