يفتح ريكور العُلبة السوداء للذاكرة من خلال ابتكار لفظ النسيان؛ النسيان الذي يؤدي وظيفة إدراك الحقيقة
في أحد حواراته، يُدافع المؤرخ الفرنسي فرانسوا دوس عن فِكرة الجيل génération، وفكرة الجيل هاته ظلت حَيَّة ومتداولة بلا انقطاع في إنتاجات المؤرخين الفرنسيين. وبالعودة إلى منشأ الفكرة يُمكن القبض عليها في إسهامات جان فرانسوا سيرينللي.
تعني كلمة الجيل «تشكل هَوية جماعية حول حدث معين»، وهناك من يزيد على ذلك بالقول «تقاسم رُؤية جماعية حول حدث معين خلال لحظة زمنية»…مثل ما وصل إلينا من قراءات تهم أحداث مفصلية حول جيل ثورة 1789 مثلا، وحتى جيل 1830 و1848 و1968…بتدقيق أكثر، قضية الجيل هي «قُدرة مؤرخ حصيف على التعبير عن رُؤية جماعة من الناس يتقاسمونه نفس الخلفية ونفس التحليل»…ويُمكن أن نستدل على ذلك، كما يقترح فرانسوا دوس، تعميم قراءة ثورة 1968 من خلال ما خَلَّفه المؤرخ ميشيل دوسرتو في مقال نُشر في مجلة دراسات Etudes بعنوان: «الأخذ بزمام الأمور».
في هذا المقال، حلَّل دوسرتو ببراعته المعهودة، ما عبَّر عنه جيل بأكمله عن لحظة وُسمت في التاريخيات المعاصرة ب»الانعراج الخطير». لحظة فارقة وفاصلة شَكَّلت رؤية جيل بأكمله حول ما حدث في فرنسا منذ نهاية الحرب الكبرى إلى غاية الثورة.
لا يعدو الأمر غريبا في شيء إذا ما عُدنا إلى بيوغرافية فرانسوا دوس لتأكيد الفكرة…ففي جامعة فانسان Vincennes بدأ تتشكل رُؤية دوس التاريخية، وكانت هذه الجامعة وقتها مَعقل الفكر الحداثي ومسرح تبادل المحاورات اليسارية. صحيح أنها كانت تُنعت بهامش الهامش كما كانت تصفها نُخبة باريس، لكنها، كانت مُتحللة من كُل النَّزعات التقليدية الموروثة عن تقاليد السوربون، ومُنفتحة على فكرة تعددية الاختصاصات Pluridisciplinarité على النحو الذي كانت تسير عليه جامعة هارفارد Harvard البريطانية.
في هذا السياق، انفتح دوس على دروس لوي ألتوسير ونيكوس بولانتزاس في عِلم الاجتماع، ودروس فرانسوا شاتليه في الفلسفة، ودروس مشيل بود في الاقتصاد السياسي…وبرز ذلك بِعمق في شهادة الليسانس التي اهتمت بدراسة «الحزب الشيوعي الفرنسي والسلطة بين 1944- 1947: تحليل في الوثائق الرسمية للحزب الشيوعي الفرنسي». وبعدها انتقل دوس إلى تتبع مشروع الفيلسوف بول ريكور، والواقع، كما يقول دوس فقد فتح مشروع ريكور حوارا ممتدا مع التاريخ ومع المؤرخين، وقدَّم درسا في الأمل من خلال إعادة تشغيل العلاقة بين الماضي والحاضر.
ظهر ذلك على نحو مُبكر في كتابه «التاريخ والحقيقة» الذي صدر سنة 1952، واستمر الحوار في ثلاثيته الشهيرة حول «الزمن والسرد» التي نشرت ما بين 1983- 1985، وأخيرا العمل الذي حمل عنوان «الذاكرة، التاريخ، النسيان» الصادر سنة 2000. ويظهر من خلال هذه العناوين، رغبة ريكور في تأسيس فينومولوجيا في الذاكرة من خلال تحليل التداخل الحاصل بين التاريخ والذاكرة والنسيان…
يضع ريكور الذاكرة كقالب للتاريخ رغم وجود قطيعة بينهما، ويتم ذلك عن طريق الكتابة. الكتابة في مشروع ريكور مثل فارماكون في محاورة فيدروس لأرسطو، هي دواء يقي من النسيان، وهي أيضا سُمٌّ لأنها تُشكل خطرا في أن تحل محل جهد الذاكرة.
ماذا نتذكر؟ كيف نتذكر؟ ومن؟
بخصوص الاستفهام الأول، يُفيد المطابقة بين الماضي المعروف والماضي المُدرك من خلال ممارسة فعل الاعتراف الذي يتيح للغيرية الإقامة في الموضوع، والثاني من خلال تحليل الاستعمالات المعيبة للذاكرة، والثالث، إلى المستوى الذي تُصبح فيه الذاكرة حارسة الذاتية والغيرية في مقاربة تَدرجية تؤدي إلى علم الأنا Egologie .لهذا، فواجب الذاكرة شيء مشروع، شرط ألا يغالي في الإسراف، أو حتى في الاتجاه الذي يجعل البعض يفهم بأن الذاكرة تتجاوز العمل التاريخي. هنا، يفتح ريكور العُلبة السوداء للذاكرة من خلال ابتكار لفظ النسيان؛ النسيان الذي يؤدي وظيفة إدراك الحقيقة. يتم النسيان بدلالة إيجابية، بحكم أن «ما كان «يفوق «ما لم يعد كائنا» في الدلالة المرتبطة بفكرة الماضي. واجب على العملية التاريخية، أن تساهم في تحويل الذاكرة التعيسة إلى ذاكرة هادئة ومضبوطة.
سنة 2004 أصدر ريكور كتابا بعنوان «مسارات الاعتراف» Parcours de la Reconnaissance، واختصار العنوان الفرنسي يُعطينا كلمة PR، وهي تعني بول ريكور. مسارات الاعتراف يُمثل وَصِيَّة Testamentaire. وفي الحقيقة، الكتاب عبارة عن تجميعة من ثلاث محاضرات كان قد ألقاها ريكور في فيينا، وأعاد نسخها في نسخة مُنقحة في مركز الوثائق في فريبورغ Fribourg . ومن خلال الكتاب يظهر ريكور كما لو أنه يُؤسس لمبحث هيرمونيطقا الكتابة التاريخية، بما تتضمنه العبارة من إيحاء إلى تعددية التأويل التاريخي التي تحدث عنها ميشيل دوسرتو في ما سماها ب»العملية التاريخية». ذلك أن هذه العملية، تأتي نتيجة «لمكان وممارسة وكتابة»، ما يفتح الكتابة التاريخية دوما أمام كتابة جديدة تستعد للتشكل.
يتعلق الأمر بالبحث عن تاريخ ثالث، تاريخ يُجسر عملية العبور بين الزمن المعيش والزمن الكوني، بمعنى فضاء التجربة البشرية، أي الماضي وقد صار حاضرا، ويُحول المسافة الحَيَّة إلى نقل مُولد للمعنى.
هيرمونيطقا ريكور انبنت على ثلاثة مستويات في مقاربة الحدث: حدث دلالي تحتي infra-significatif، ونظام المعنى بوصفه غير حدثي non-événementiel، وحدث دلالي فوقي supra-significatif. الأول يتناسب مع مرحلة الوصف الذي دعت إليه المدرسة الوضعانية، والثاني مع التفسير ضمن بِنيات تفسيرية واضحة، والثالث مع التأويل من خلال استعادة الحدث كبروز فائق الدلالة. وبما أن الحدث هو الذي يُولد المعنى بذاته، فلا يمكن كشف ملابساته إلا بتحليل مُخلفاته الخطابية أو غير الخطابية، وهنا يأتي تحليل اللغة أو السيمانطيقا التاريخية، ذلك أن تشكيل الحدث يرتهن بعملية تحبيكه من خلال: تمثيله العملي المسبق، تشكيله الابستيمي، إعادة تشكيله الهيرمونيطيقي.
يُمارس التحبيك عملية الربط بين الأحداث المتنافرة، ويأتي بديلا للتفسير المادي. العملية تتلخص باختصار، في مِحورية السرد ضمن عملية الكتابة التاريخية، حيث يُجسد السَّرد دور الوسيط بين الحدث والفاعل، ويمارس التحبيك عملية تنسيق الأجزاء، أي بين ما يتوجب أن يُنظر إليه عَرضيا وبين ما يتوجب أن يُنظر إليه تاريخيا.