ما معنى أن يعود المؤرخ لكتابة سيرته الذاتية؟ وما هي الحدود المنهجية في الربط بين انزياحات فعل التذكر النوسطالجي، وبين صرامة عين المؤرخ الفاحصة للوقائع والمدققة في الجزئيات؟ وهل يستطيع المؤرخ التخلي – ولو مؤقتا- عن جبته العلمية المرتبطة بتخصصه، ليغوص في مغامرة التجريب للاشتغال على مهاوي الذاكرة؟ وهل يمكن للسرد ولفعل التذكر أن يشكل مجالا لإنتاج نصوص على نصوص، تحتفي بعناصر المشترك الجمعي حيث تصبح الجسور ممتدة ويسيرة للانتقال من انغلاق الذاكرة الفردية إلى رحابة الذاكرة الجماعية؟ وهل بالإمكان تطويع هذه الذاكرة الجماعية في السعي إلى تحويلها إلى ذاكرة تاريخية بعد إخضاعها لإواليات النقد التاريخي الصارم والمؤسس للمداخل المنهجية والإجرائية للاشتغال على ما أضحى يعرف اليوم بتاريخ الذهنيات أو التاريخ الثقافي المجهري؟
أسئلة متناسلة، تفرضها القراءة المتأنية لنص «رأس الرخامة» للمؤرخ عبد العزيز السعود، الصادر سنة 2023، في ما مجموعه 147 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، في شكل «رواية- سيرة». تنهض أبعاد النص على توظيف الممكنات الهائلة لفعل «كان» بمستوياته الماضية/ الغائبة، ثم الحاضرة/ الممتدة في الزمن الذي كان والذي سيأتي. وإذا كان الأستاذ السعود قد اكتسب شهرته من موقعه كباحث أكاديمي متخصص في تاريخ منطقة الشمال، من خلال إصداراته الغزيرة وعطائه المتواصل، تأطيرا وتوجيها ونشرا وتداولا، فإن الانتقال نحو كتابة «الرواية» كجنس أدبي يجعل من توظيف ملكة الخيال وفعل التخييل حجر الأساس ومنطلق الكتابة، لم يكن سهلا ولا ممكنا، بعد أن تغلبت «صنعة» المؤرخ على غواية الإبداع. سعى عبد العزيز السعود إلى إنتاج نص روائي يستلهم وقائع مدينة تطوان خلال النصف الثاني من القرن الماضي، فوجد نفسه أمام بؤرة فعل التذكر مضطرا للانزياح نحو كتابة سيرته الذاتية، بتفاصيلها وبتقاطعاتها التي جعلت منها نصا مفتوحا، سرعان ما تحول إلى توثيق للذاكرة الجماعية بوجوهها وبفضاءاتها وبأعلامها وبرموزها وبتراثها الثقافي والإثنوغرافي والسوسيولوجي. وسرعان ما بدأت عناصر هذه الذاكرة الجماعية تمارس ضغطا رهيبا على صاحبها من أجل التخلص من أعباء مسؤولية تخزينها. لقد اعتبر الأستاذ السعود الإسراع بتعميم تداول تفاصيل ذاكرته الشخصية، ومن خلالها تفاصيل الذاكرة الجماعية، أمرا لم يعد يقبل التأجيل، بالنظر لقوة حمولاته، وبالنظر -كذلك- لمخاطر ضياع التفاصيل والوقائع والموروثات اللامادية في سياق اشتغال معاول النسيان والتغييب تحت ضغط عوادي الزمن والإنسان. ولعل هذا ما اختزلته الكلمة التقديمية بشكل دقيق، عندما قالت: «ها أنا ذا أسافر بعقلي عبر الزمان وقد بلغ مني الشيب مبلغه وجاوزت السبعين حولا، لكني لم أسأم كما سئم زهير تكاليف الحياة، فأسترجع مرها وحلاوتها وأنا في مرحلة الصبا وفي طور الحلم، فالصور والأحداث ينقلها الدوبامين وتتكاثف في ذهني، بل وأحيانا تؤرقني وكأنني أعيش تلك اللحظة بعينها. وهذا الهرمون العجيب الذي حفز نشاط عقلي وأعادني عقودا عدة إلى الوراء يستحق مني كل تكريم وعرفان، ولا أخفي سرا أنني فكرت في أن أجعله عنوانا لروايتي هذه، لكن تفاديا لكل لبس أمسكت عن ذلك وفضلت مكان النشأة الذي ربما هو الأحم والفضاء الأوسع من بين فضاءات استرجاع الذاكرة. وقد حدثتني نفسي بأن أكف عن هذا العمل كي لا ينعتني أحد بالتجرؤ على شيء أنا دونه، فأهون عليها بأن ليس لي من هذه الرواية سوى شهادة شاهد للأحداث التي مررت بها منذ طفولتي وحلمي في غير معزل عن المجتمع الذي هو جزء أساسي في الرواية- السيرة التي هو بطلها المتمثل في الأسرة وفي الرفاق والأشخاص وفي المؤسسات» (ص ص. 7-8).
في هذا السياق، يقدم نص «رأس الرخامة» غزارة استثنائية على مستوى المضامين والتفاصيل المرتبطة بمشاهدات المؤلف، وبمختلف أشكال تفاعله مع محيطه المحلي والوطني منذ مرحلة نهاية الحرب العالمية الثانية، وإلى نهاية عقد الستينيات من القرن الماضي عند التحاقه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، ثم بالمدرسة العليا للأساتذة. يعيد الأستاذ السعود، في سرده للوقائع وللجزئيات، تركيب السياقات، بعد غربلة مضامينها، وبعد توظيف العدة المنهجية للمؤرخ على مستويات عدة، مثل التعريف بالأعلام البشرية والمكانية، وضبط السياقات، وتصحيح المرويات، واستثمار متون الكتابات التاريخية الكلاسيكية،… وفي كل ذلك، ظلت «صنعة» المؤرخ الموجه الرئيسي للسرد، بشكل أثمر سيرة ذاتية ثرية، راقية، مرجعية، تتجاوز في قيمتها مستوى نقل الصور والكليشيهات والشواهد المخزنة في الذاكرة، إلى مستوى إعادة بناء الوقائع وقراءة وجه تطوان الحميمي الذي تختزله وجوه الناس البسطاء ومعالم ألفة المكان ورحابة التراث اللساني والاجتماعي الذي صنع لمدينة تطوان هويتها الثقافية المميزة.
وإذا كان عبد العزيز السعود قد اختار اسم الزقاق الذي ازداد فيه عنوانا لسيرته، فإنه – بموازاة ذلك- استطاع تحويل عمله إلى سجل مفتوح للتعريف بمجمل معالم المكان وتضاريس الأعلام الذين صنعوا لتطوان معالم بهائها الحضاري وتميزها داخل محيطها الجهوي والوطني الواسع والممتد. في هذا الإطار، نجد تفاصيل غزيرة مرتبطة بذاكرة المكان، مثل رأس الرخامة، وحي العيون، والفدان، وفران الكواش، والجامع الكبير، وحي سيدي طلحة الدراج، والزاوية القادرية، والمعهد الحر، والسوق الفوقي، وباب العقلة، وجبل غرغيز، وعين بوعنان، ووادي المحنش، وبوسملال، وملعب لاإيبيكا، ومسرح إسبانيول، والمعهد الرسمي أو ثانوية القاضي عياض، ومدرسة البريمارية، ودار الأمة أو منزل عبد الخالق الطريس، وثانوية البيلار، والملاح، والزاوية الفاسية، وباب المقابر، والمصداع، وباب الرموز، والطرانكات، وشارع لونيطا، ومسرح الملكة بكتوريا، والغرسة الكبيرة، وسينما المنصور، وحي سانية الرمل، وشارع المعمر، وباب التوت، ودار البومبا، وباب النوادر، والمدرسة الأهلية، والطويلع،…
تتحول هذه الفضاءات إلى عناصر لتفجير بؤر الحكي لدى المؤلف، خاصة عندما ترتبط بسير ذوات عدة، وأسماء مختلفة تحضر بأشكال متعددة لتأثيث مكونات السرد المركبة. لم يكتف عبد العزيز السعود باستحضار شخصيات مركزية في سيرته وفي سيرة مدينة تطوان مثلما هو الحال مع والده، ومع أعمامه وعماته، ومع أفراد عائلة أمه المنحدرة من أصل جزائري، ومع أشقائه حليم وعزيزة وميمي وليلى ويونس، ومع شخصيات عامة أو وطنية ممن كان لها وزنها في المشهد المحلي العام مثل الفقيه الصوردو والباشا محمد أشعاش والزعيم عبد الخالق الطريس والشيخ التهامي الوزاني، ولكنه انفتح على شخصيات الهامش التي ظلت مقصية من تدوينات النخب العالمة للمدينة، مثلما هو الحال مع مجاذيب تطوان ومع مجانينها. انفتح عبد العزيز السعود على تفاصيل «التاريخ من أسفل» في سعيه لإعادة قراءة تاريخ الزمن الراهن لمدينة تطوان. في هذا الإطار، أعطى قيمة مثيرة لتوظيف ملكة فعل التذكر، مبتعدا ما أمكنه ذلك عن الإخلاص المفرط في الولاء للوثيقة المكتوبة. لم يعتمد في سرده على الوثائق الدفينة ولا على مظان مصادر تاريخ تطوان، ولكنه اختار الإنصات لنبض التحول كما اختزلته ذاكرته. وبذلك، تخلص من قيود الصرامة الحديدية للتوثيق التاريخي، بشكل مكنه من قول ما لم يكن بمقدوره قوله في سياق الكتابة التاريخية المونوغرافية التخصصية في أبعادها المنهجية الحصرية.
تحضر في نص «رأس الرخامة» موادا مرجعية لا يمكن القبض بتفاصيلها داخل مضامين المواد المدونة، مثل حكايات الجدات، وعادات الناس اليومية في مختلف مستوياتها، بما في ذلك تلك الموغلة في حميمياتها المخصوصة. فكيف كنا سنعرف -على سبيل المثال لا الحصر- الألقاب التي كانت تختص بها الحماة داخل وسطها العائلي، لولا الوصف الدقيق الذي قدمه عبد العزيز السعود بهذا الخصوص. فهي «أم عيني» بالنسبة لزوجة الإبن، و»ماما عاينو» بالنسبة للأحفاد. أما أخوات الزوج، فكن يحملن ألقابا تختلف حسب الموقع العمري لكل واحدة منهن، مثل «حبابي» و»حياتي» و»فنوني»…
وبموازاة مع الاهتمام بالتوثيق لما لا يمكن التوثيق له في سياق الكتابة التاريخية التخصصية، حرص عبد العزيز السعود على الانفتاح على قضايا تاريخية عامة، مثل تطور أوضاع الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي، وتفاصيل دعم المغاربة للمقاومة الجزائرية، وظروف صدور أول عدد من جريدة «المجاهد» بتطوان، والتباسات الحرب الأهلية الإسبانية، وخرائط النضال التعليمي بتطوان وتحولاته خلال عهد الاستعمار ثم بعد حصول البلاد على الاستقلال. وتجاوز ذلك إلى مستوى استحضار العمق العربي في اهتمامات نخب المرحلة، من خلال محطات حاسمة، مثل العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، ومشاركة شخصيات تنحدر من منطقة الشمال في عمليات فدائية فوق أرض فلسطين مثلما هو الحال مع حسين الطنجاوي ومع عبد الرحمان أمزغار ابن مدينة أصيلا المنحدر من منطقة الريف، وهما الشخصيتان اللتان اهتم المؤلف بالتعريف بهما في سياق تعريفه بالأعلام الذين تعرف عليهم مباشرة أو بطريقة غير مباشرة. وبالكثير من عناصر الجرأة، سعى عبد العزيز السعود إلى تقديم قراءة تقويمية لنكسة عام 1967 التي أصابت العالم العربي في مقتل، من موقعه كشاهد على تداعيات الحدث وعلى امتداداته. ويمكن القول إن هذه القراءة تُقدم تشريحا صادما لحقيقة ما وقع، ولتداعيات ما ترتب عن ذلك من إفرازات خطيرة على المشهد السياسي العام بالمغرب وبعموم البلاد العربية. يقول المؤلف بهذا الخصوص: «لا أخفي أننا ونحن تلامذة قد كنا نتأثر كثيرا بفكرة القومية العربية ونتعاطف مع التيار الناصري… إلا أن نكسة 5 يونيو 1967 جعلت الفكر القومي العربي ينزل إلى الحضيض ليفسح المجال لانتشار الفكر الثوري وللمذاهب الاشتراكية، فهذا الجو المشحون بالصراعات الفكرية والمذهبية جعلنا أمام النكسة العربية والاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية والجولان السوري وسيناء مصر، ونحن طلبة في بداية مسارنا الجامعي، نقع في ارتباك كبير، وأتذكر أنه في أيام الحرب كنا نتجمع في الحي الجامعي بظهر المهراز حول المذياع لنستمع إلى إذاعة «صوت العرب» بالقاهرة، وكان المذيع المصري محمد سعيد يردد بصوت حماسي بأن العرب باتوا على أبواب تل أبيب، فخرجنا في مظاهرة حاشدة من الحي الجامعي ونزلنا إلى شوارع وسط مدينة فاس… فهذه كانت هي النكسة الكبرى التي أصابت الوعي العربي والقومي وأصابتنا ونحن طلبة في بداية مشوارنا الدراسي…» (ص ص.143-144).
وعلى هذا النمط من السرد، استطاع عبد العزيز السعود تحويل حكيه إلى نافذة مشرعة لقراءة مواقع نخب مدينة تطوان تجاه ثقل الواقع المحلي الخصب والحميمي، بموازاة مع رصد أشكال الانفتاح والتعاطي مع ما كان يقع في المحيط الوطني والعربي من تغيرات سريعة وعميقة، لا شك وأنها ساهمت في رسم سقف العطاء والفعل بالنسبة لهذه النخب. وفي هذا الجانب بالذات، تكمن القيمة الكبرى لنص «رأس الرخامة» كمادة مرجعية أساسية لإعادة تركيب مجمل أنساق التراث الرمزي غير المدون لمدينة تطوان، مما يمكن أن يشكل امتدادا لعطاء رواد هذا المجال ممن خلدوا ذكر تطوان في سيرهم الذاتية الراقية، مثلما هو الحال مع التهامي الوزاني في نص «الزاوية»، ومع محمد داود في نص «على رأس الأربعين». هي كتابة تحتفي بفتنة السرد في سعيها لتشييد عوالمها المخصوصة ولبث الروح في وجوه متوارية خلف عبق التاريخ، تاريخ تطوان التليد.