بين محمد أكنسوس وأحمد البكاي : نموذج من السجالات بين متصوفة القرن التاسع عشر

سنركز على أهم مساجلة فكرية دارت رحاها بين الشيخ أبي عبد الله محمد اكنسوس وغريمه أحمد البكاي ضمن مجال مراكش وبلاد شنقيط  و خصوصا منطقة الأزواد و بلاد السودان، حتى تتماشى هذه الورقة البحثية مع مناسبة تكريم الأستاذة الفاضلة زهرة طموح التي قدمت الكثير للبحث العلمي الرصين في محاضراتها وكتبها الفردية والجماعية حول الجنوب المغربي وبلاد السودان الغربي ضمن تيمة الدين والتصوف. ونرى بأن أهمية اختيار نموذج المساجلة الفكرية بين أكنسوس وأحمد البكاي رهين بكون الأجوبة التي قدمها أكنسوس كانت كافية لشد المريدين الكنتيين رحالهم إلى الطريقة التجانية التي ستنتشر بشكل أوسع في مجال شنقيط وبلاد السودان، حيث سينفرد مجال شنقيط بخاصية تشبت المريدين بجوهر التجانية وآداب الطريقة الكنتية. تحاول مساهمتنا البحثية هذه الإجابة عن إشكالية مفادها إلى أي حد ساهمت المناظرة الفكرية بين أبي عبد الله محمد اكنسوس وأحمد البكاي في انتشار الطريقة التجانية بشكل واسع وحصر الطريقة القادرية في مجال شنقيط وما وراء نهر السينغال؟

 

أفرز السجال الفكري خلال القرن التاسع عشر نتاجا أدبيا ثريا يعد اليوم و فيما مضى مادة مصدرية لتسليط المزيد من الأضواء حول الحياة الفكرية في بلاد المغرب وبلاد شنقيط، كما يعد هذا الإنتاج وسيلة لتأصيل الأطروحات المتداولة في الساحة الثقافية في الفترة الراهنة عبر ربط الأفكار بجذورها.
لقد شهد المغرب عبر العصور إثارة إشكاليات فكرية دارت رحاها بين الفقهاء والمتصوفة ومن ادعوا المهدوية غير أن ما راج بين المتصوفة أخذ نصيب الأسد من السجالات الفكرية حول أحقية البعض بالمشروعية في الولاية والصلاح، وهو ما انعكس في الساحة الثقافية المغربية على شكل أزمة فكرية تُدووِلت في المحاضر العلمية والتعليمية أو على شكل فتاوى منكرة على التجانيين أحقية شيخهم بالولاية والصلاح والتربية والوصول إلى مقام العارف بالله، ورافضة لمزاعم مقولاته الغيبية. وأمام هذا الجدال الذي تولد بغية حصول اطمئنان داخلي لدى المريدين الجدد في الطريقة التجانية إزاء هذه المقولات، ولوضع حد للخصوم المناوئين لهذه الطريقة الجديدة ظهرت في الساحة الثقافية عدة تآليف جوابية حول بعض المسائل والأسئلة المرفوعة إلى شيوخ هذه الطريقة بغية الحصول على أجوبة ذامغة وشافية؛ وفي هذا السياق تأتي أجوبة أبي عبد الله محمد أكنسوس على أسئلة أحمد البكاي والتي كان الهدف منها ليس إقناع هذا الأخير بقدر ما هي رسالة موجهة لمريديه ومريدي أكنسوس المترددين. ومن هذا المنطلق برزت إشكالية جديدة تتعلق بضرورة دراسة دواعي منشأ الاختلاف في التركيز لدى العلماء والدارسين وتباين اعتباراتهم في هذا النطاق؛ ومن هنا يتجلى التساؤل عن ماهية المنهجية التي اعتمدها الطرفان لاقناع مريديهم؟ وما مدى انعكاس ما يمكن اعتباره انبهارا بالآخر على إفراز نفسية جديدة عند المريدين الجدد؟
يعتبر التاريخ الفكري مدخلا وظيفيا لمعرفة درجة الوعي الحضاري للمجتمع المغربي وبخاصة الجنوب المغربي رغم أن هذا المطلب يحتاج إلى استكناه سيما وأن المجال المدروس مازال بكرا في الدراسات التاريخية و الأنثربولوجية، ويعاني ندرة في الوثائق المكتوبة، اللهم إذا استثنينا المراسلات الإخوانية الغير المتاحة للجميع. وتندرج مساهمتنا هذه ضمن ما يمكن أن نسميه بالخطاب الديني بين الاعتقاد والانتقاد من خلال السجال الفكري الذي دارت رحاه بين الشيخ أبي عبد الله محمد أكنسوس وغريمه أحمد البكاي.
حاول أبي عبد الله محمد أكنسوس أن يقنع نخبة جلية و أخرى صاعدة بأهمية الطريقة التجانية وصفوتها ضمن باقي الطرق. كما دافع عن المسلمات الغيبية التي جاء بها الشيخ المؤسس باعتبارها حقيقة لا أسطورة على اعتبار أن الطريقة التجانية تمثل صافي التربية الصوفية إذا ما قورنت بباقي الطرق التي كانت منتشرة زمانه.
وقبل الخوض في خصوصيات المساجلة الفكرية ووسائلها التي ميزت الخطاب التجاني عند أبي عبد الله محمد أكنسوس لا بأس أن نعرج على كرونولوجيا السجال الفكري التجاني الذي سبق هذه المساجلة. فمنذ ظهور هذه الطريقة وإعلانها من طرف الشيخ المؤسس أحمد التجاني وتوافد مريدين هم في الأصل من علية المجتمع الحضري؛ مثل الفقهاء الكبار والتجار والأعيان وموظفي السلك المخزني؛ من وزراء وحجاب وكتاب وقواد وعمال وباشوات ممن ذاع سيطهم في المغرب وتداولت أسماؤهم في المخطوطات والكتب المؤرخة للفكر التجاني وفي مضامين المراسلات المخزنية. والواقع أن الطريقة التجانية واجهت مختلف أنواع الانتقاد الذي اضطرت معه التجانيين من الطبقات الأولى والثانية والثالثة إلى التسلح بالاعتقاد في جدوى التربية الصوفية التجانية وضروريتها، من خلال الانكباب على إبراز أصولها وشرعيتها ووسائلها وأخلاقية مقاصدها، وسيحاول أبي عبد الله محمد أكنسوس لجم أفواه المنكرين للطريقة التجانية والمنكرين على الشيخ ختميته وصفة آخر زمانه من خلال إزاحة دائرة الانفصال بين علم الظاهر وعلم الباطن وهي الاستراتيجية التي نهجها التجانيون في اقناع المريدين، والرد على الخصوم المناوئين. وعلى حد تعبير أحد الباحثين فالظاهر والباطن «صنوان لا ينفصلان ولا يكتمل التدين إلا بتكاملهما».


الكاتب : ربيع رشيدي

  

بتاريخ : 02/04/2022