تأمّلات إستبطانيّة على مُرتفعات غرناطة الحمراء

أيّ سرٍّ أنتِ كائن فينا ، وساكن فى أعماقنا ووجداننا ؟ أيّ سحرٍ أنتِ متغلغل في طيّات ألسننا، ومخادع واعطاف وشغاف قلوبنا..؟ الأندلس …سموكِ فردوساً مفقوداً ، ولكن هيهات انهم واهمون ، فأنتِ ما زلتِ هنا حاضرة الكيان، قائمة الذات، إنكِ هنا بسِيَرِك وأسوارك، وبقاياك وآثارك، ونفائسِك وذخائرك،ومعالمك وآثارك، إنك هنا بعاداتك وطبائعك، بعوائدك وأهوائك، إنك هنا في البريق المشعّ في أاقصى المدائن، والضّيع والوديان، في اللغة، والأدب،والشّعر،والعطر، والعلم، بل انك ما فتئت موجودة ولصيقة في لهجة القروي النائي، والفلاح المغمور، إنك هنا متجليّةً في الكرَم العربي الأصيل ، والإباء الأمازيغي النبيل، في الحزازات القديمة، والمشاكسات والمواجهات العتيقة التي ما تزال تفعل فيك وفى ذويك وفينا فعلَ العُجب.
يتساءلون كيف استطاعت سنابك خيولهم المسوّمة بقيادة طارق الفاتح أن تطأ أديمَ هذه الأرض البكر، وأن تقام أسس حضارة عريقة أشعّت على العالم المعروف في ذلك الإبّان، وأنارت دياجي الظلام في أوروبّا دهرئذٍ، يتساءلون: كيف تسنّى لهؤلاء القوم الغُبر الوشاح، البداة الجفاة أن يضطلعوا بكلّ ذلك..؟ كيف أمكن لهم أن يروّعوا كسرى في إيوانه، وأن يجعلوا الرّوم يفرّون تحت وخزات الرّماح وثقل الصّفاح..؟ إنهم ليسوا قوماً قساة، جفاة، عتاة كما وُهموا، بل إنهم قوم فاتحون، مبشّرون بحضارة ،وثقافة،وعلم ومعرفة وعمران وتاريخ وعرفان .

هذه الجزيرة المحروسة

هذه الجزيرة المحروسة التي هاموا بعقيانها هياماً، ثمّ سرعان ما خبت الضياء، وجفّت المآقي، هذه الواسطة المشعّة في عقدٍ من جُمان مُرصّعة في جيد الزّمان، كيف وهنت قلادتُها، وتناثرت حبّاتُها وتحوّلت إلى عَبرات تبكي العهدَ والجدَّ والدّار؟ هكذا كانت البداية ثمّ أفلت الشمس بدون شروق ، وغاض النبعُ الرّقراق، ولم يبق سوى بقايا وميضٍ خافتٍ تتلمّسه هنا وهناك، سرعان ما يتحوّل إلى بريق مشعّ قويّ نفّاذ، تراه في هذه الأعين النُّجلُ ذات الملامح العربية والأمازيغية الدقيقة التي تحملك في رمشةِ عين او في لمحس من البصر إلى أعماق الجزيرة الأولى أو إلى
جنان الرُّصافة والجِسر، أو تتيه بك في غياهب المسافات اللاّمرئيّة.إنها هنا في العادات الشرقيّة الجميلة..
أيّها النائي القريب.. إنهم يحنّون إليك، ويتغنّون باسمك الآن، حسدوك زمناً ولكنهم سرعان ما تراجعوا عن نكرانهم فراحوا يشيّدون لك الأبنيةَ والتماثيلَ والمجسّمات المُخلِّدة، ولكنّهم في خَبل من أمرهم، ذلك أن ربيعك دائم متجدّد لا تراه الأعينُ في الحدائق والجِنان أو على ضفاف الأنهار المنسكبة، بل إنه كامن في النغمات والخُطى والعيون والحواريات، إنه ربيع لا يعقبه صيف قائظ، بل يتولّد منه ربيع تلو ربيع! إنهم يتأوْرَبُون أحياناً أكثر من الأوروبّيين أنفسهم، وأحياناً أخرى تشطّ بهم الأحلامُ بعيداً بعيداً ، ولكنهم أبداً ملتصقون بأرضهم، وبتاريخهم وعاداتهم وتقاليدهم.

البقاء لله

كيف أمكن للدّهر أن يأتي على جنسٍ بأسره من على سطح الأرض ؟ ولم يُبق سوى على أسماء بعض العوائل والمدن والقرى والمداشر والعشائر والأنهار والضيع والأرباض، وجملة مصطلحات ومسمّيات أصابتها العجمة واللكنة، على كل حال أن الذي يقوم به علماء البيئة من أجل المحافظة على جنس بعض الحيوانات سواء البرية أو البرمائية، أو المستأنسة، أو المتوحّشة شيء مفيد وجميل يستحقّ التصنيف والتصفيق، ولكن كيف حدث إذن؟ أنا شخصيّاً لا أدري، ومن يدري؟ كفى هراءً، وقل لي كيف حدث، وإن لم يكن لديك الجواب فالقِ السؤالَ على سواك، وإن تعذّر عليه الجواب، فاطلب منه أن يجول في الأسواق العامّة أيام الجُمع والآحاد ويسأل الناس علناً عن ذلك، ومن كانت لديه الإجابة فليقدمها لنا في أقرب الآجال، إنني جادّ، ومتى لم أكن جادّاً معك، وأن خلتني أمزح فاطرد هذه الفكرة الخاطئة فوراً من رأسك، واعمل ما أنهيت به إليك، واسأل القومَ عن سرّ ذلك اللمعان الغريب، وكيف استطاعوا أن يمزجوه بالعطر والكافور، وأن يصيّروا منه بخاراً رقيقاً أو رذاذاً منعشاً يتطاير بين الناس، ويحدث في الأبدان القشعريرة، ويضفي عليها ذلك البريق المشرقي العجيب الذي ما زالت آثاره باديةً ماثلةً للعيان حتى الآن، إسال القومَ عن سرّ تلك التعاريج المائية الملتوية المحيّرة التي أذهلت الأذهان، والتي يشقّ ماؤها طريقه في باطن الأرض بشكل يثير الإعجابَ، ويبعث على الحيرة والذهول وهو يجُول في القصور والبساتين وفي الأزقّة والدروب فتسقي الأشجارَ، وتورق الازهارَ، وتُحيي الأنفسَ، وتنعش القلوبَ، وتجعل الجوَّ ربيعاً في قيظ الصّيف، وصيفاً في عزّ الشتاء، وتؤتي من كلّ فنّ غرابة وعجباً وإعجازاً .
مَنِ الباني المُعتمد أو المُعتضد..؟!
سواء كان الذي أمَرَ بالبناء المعتمد أم المعتضد فقد أحسنا صنعاً هما الاثنان معاً، ولكنني افضّل عملَ المعتمد، فقد كان أكثر ذكاءً وفطنةً، وعلم مسبّقاً أنه قد يتدحرج من علٍ نحو أسفل السّفح، حيث المنحدر سحيق بعيد الغورحيث افضى به حتى غياهب «أغمات» المغمورة بالقرب من مراكش البهجة الحمراء ، أمّا المعتضد فقد صعد إلى قمّة الأكمة، وفضّل أن يعتصم هناك ظانّاً منه أنّه بلغ الجوزاءَ علوّاً ، إلاّ أن التاريخ أثبت أنهما كانا مخطئيْن الاثنيْن معاً، فلا الذي كان في أعلى الأكمة نجا من الطوفان، ولا الذي كان في الأسفل احتمى من الآتيّ المنهمر من الأعالي الشّاهقات، أجل إنك الآن أصبتَ عينَ الصواب، وكبدَ الحقيقة.ولماذا تتسرّع في الأحكام، فأنت تلقي اللومَ على الجميع، وهذا ليس صحيحاً، خاصّة وأنت تعلم أن الأمر كان يتعلق بالسّادة العارفين، وليس بسواد القوم. إنّني لا أتسرّع في الأحكام كما وُهمت، بل إنّني أقول ما يعنّ لي صواباً غيرَ خافٍ على أحد.
أخشى أن يكون القارئ قد ملّ هذا اللغط، فما أكثر ما يملّ القرّاء في هذه الأيام، ولكن لا عليك، ثِقْ بأن قارئنا لا يغشاه المللُ بسهولة ويُسْر، إنه قويّ الشكيمة، عالي الهمّة، فلا تيأس وأعدك أنني سأطلب منه أن يستمرّ معنا حتّى النهاية، بل ولماذا لا نستعين بحكمته، ولباقته، ومعارفه، ورأيه ،ولكن كيف يمكن ذلك ؟ الأمر هيّن، توقّف قليلاً ريثما يسترجع قارئنا أنفاسَه، ويزمّ شفتيه، ويدرس الامر، دعه يسرح بفكره قليلاً، وله أن يحكم بما يشاء، وبما يعنّ له، عندئذ سيجد نفسَه مشاركاً معنا لا محالة.

في الطريق
الى جنّة العَرِيف

لعلّنا تأخّرنا عن الوصول إلى الجنّة! أيّ جنّة تعني..؟ جنّة العريف أم جنّة العرفان أم كليهْما..؟ ألا ترانا واقفين على مشارفها، الاختيار لا يهمّ ، المهمّ أنها جنّة وكفى..لا عليك لدينا فسحة و متّسع من الوقت، لنسترسل في الحديث الاستبطاني كما نشاء، ولكن أليس من الخير أن نضع ضوابطَ مُحكمة لتأمّلاتنا ؟ على كلّ حال اللّوم لا يقع عليك، بقدر ما يقع على أهل العصر، فقد عَدَوْك بعد أن أصيبوا جميعاً بالإسهال اللفظي، أتعرف كم من منشورات ومطبوعات وصحف ومجلاّت، وكتب ومقالات ودّراسات وتحقيقات أصبحت تملأ علينا حياتنا، وتغصّ بها رفوف مكتباتنا، وأرصفة مدننا، وجدران مواقع التواصل الاجتماعية المختلفة التي أمست من مميّزات وعلامات هذا العصر الذي نعيشه، وكم من إذاعة وتلفزة وأشرطة تعمل في هذه اللحظة، لا شكّ أن العدد كبير، وهل تتخيّل بكم لغةٍ تعمل هذه المخترعات جميعها حول ذات الموضوع الذي نحن بصدده . الكلّ يصيح ويحتجّ ويلعن، ويغنّي ويتاوّه، وكأنّني بالأسطورة القديمة إيّاها قد تحقّقت أمام الملأ أجمعين، فإذا بالقوم قد بلبل الله ألسنتهم، ألم يريدوا
الصّعود إلى البرج الشّاهق..؟ إنّك ما زلت تتعلّق وتتشدّق بأهداب الخرافات والأساطير، ألم تر كيف فعل أصحابُ المركبة الفضائيّة.. المتطوّرة والمُذهلة؟ فبعد كولومبوس المغامر الذي شقّ عبابَ البحار، وذلّل اللجج والأمواج الضخمة كالجبال حتى اكتشف القارة البِكر، ها هي ذي المركبات الفضائيّة تشقّ هي الأخرى هيادبَ الضباب وتخترق مُزْنَ السّحاب في الفضاءات المرئية واللاّمرئيّة البعيدة لتكتشف في آخر المطاف ضآلة الإنسان إزاء الكون، وعظمة الخالق وسعة ولا محدودية ملكوته؟ ويحك أتسخر من العِلْم؟ لقد استطاعت تلك المركبات بالفعل الوصول إلى قمّة البرج وحوّمت حوله، واستطاع ربابنتها العودة إلى الأرض سالمين غانمين، سليميْ اللسان تماماً كما انطلقا منها، أيّ هذرٍ، وأيّ هذيان هذا الذي تروم، تخلط العلمَ والتاريخ بالأسطورة والأحلام والخرافات والأوهام؟ وهل هناك فرق بين هذه المعاني برمّتها، ألا يكمّل بعضها الآخر، ولكن تأنّ فأنت تعلم أن العلم إن هو إلاّ انعكاس وتجسيد لما سبق أن تخيّله أجدادُنا وأسلافنا الأوّلون، فما الطيور الجارحة، والغيلان المُرعبة والجنيّات المسحورات، والوحوش الضارية وغيرها سوى هذه المخترعات الغريبة من طائرات وغوّاصات، ومدرّعات، وصواريخ ومركبات مكوكية، أن ما كان يبدو للنّاس بالأمس خرافةً، غدا اليوم حقائقَ علمية مدهشة، ألم يقل العلماءُ أننا بعد لأيٍّ من الأعوام قد نستطيع القيامَ بنزهةٍ فضائية ما بين زحل وعطارد، بل نستطيع الاصطياف في الزُّهَرَة، ونقضي وقتَ الظهيرة على سطح القمر.. ألستَ على وفاقٍ معي إذن..؟ أجل إنني متفق معك، أما «الوفاق» فموطنه لبنان الجميل المكلوم، وفلسطين المناضلة الجريحة اللذان لابدّ ولا مناص من ان ينجلي ليلهما المبهم لما فيه كل الخير والفلاح ان شاء الله . إنه مصتطلح خاص بالبلدان التي جعلوها قهراً وقسراً وعنوةً تتخبّط في القلاقل، على كل حال، إنها كلمة تتمتّع بجاذبية خاصّة لدى البلدان التي تجيد اللعبة، أمّا «الاتفاق» فهو من شأن البلدان التي ما تزال في طريق تعلّم اللعبة!

الصّبر مفتاح الفرَج

ألا تظنّ أن اليراع قد جنح بنا ومال وماد ولحد، ربما إنما كنّا ننقل ما يختلج في صدورنا، وما يطفو على هامش مشاعرنا، كما يقول الاطبّاء النفسانيون، إذ أنك تعلم أننا إذا لم نكن صادقين فإن القارئ سيعود لملله، وسيفطن سريعاً لادّعاءاتنا، وينصرف عنّا، الصّبر إذن هو مفتاح الفرج الذي يريد أن يستحوذ عليه جميع الكتّاب في كلّ عصر، مسكين إذن هذا القارئ.. خاصّة القارئ الصّبور الدّؤوب، الذي يسهر الليالي طلباً للمعالي في التحصيل والاطّلاع، ولم يفكّر أحد بعد في ما يعانيه هو الآخر، أليست القراءة الجيّدة نوعاً من المعاناة كذلك؟ ثمّ إنك تعلم أن القراءة والتحصيل كنز وفضيلة وغذاء للعقل والرّوح معاً! أليس هناك قرّاء – رغم أنوفهم- يتلقّون أجوراً نظير قراءاتهم، أنت تعرفهم وأنا وقارئ هذه السّطور كذلك، ألم أقل لك إن القراءة تحصيل، أيّ يحصل الإنسان من جرّائها على علم ومال، وإلاّ فلماذا عندما وضع أجدادنا النحاة قواعدَ الأسماء الخمسة المعروفة ختموها بذي مال! والختام دائماً مسك
كما تعلم، أرأيتَ كيف أنّهم لم يقولوا ذا علمٍ أوذا فطنةٍ بل قالوا (ذا مال) ؟! أرأيتَ ما أصغرَ حجم هذا الجهاز الذي ينطلق منه ذلك الصّوت اللّعين دعه يصرخ كما يشاء فإن الضوضاءَ والهرجَ والمرجَ أمور اعتادت عليها آذاننا وألفتها طبائعنا، فلا تعجب كذلك إن طالت خُطب هذا الهذرالذي لا طائل تحته .1
لقد غاض النّبع الرّقراق، ولم يبق سوى هذا الوميض الخافت الذي تتلمّسه هنا وهنالك، وتراه في هذه الأعين النُّجْل ذاتِ الملامحٍ العربية والأمازيغية العريقة التي تحملك في رمشةِ عينٍ أو في لمحٍ من البصرإلى أعماق الجزيرة الأولى، أو إلى جنّات الرّصافة والجِسْر.. صدقتَ أيّها الشّاعر المكلوم، وصدقَ حبُّك للأرض الفردوس.

*كاتب من المغرب عضو الاكاديمية الاسبانية الامريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا


الكاتب : د.السّفير محمّد محمّد خطّابي

  

بتاريخ : 13/09/2022