جديدة اليوم ليست هي التي أنتجت ذات خريف إدريس الشريبي، وعبد الكبير الخطيبي، وطه عبد الرحمان. وليست هي التي أتت ذات ربيع بالشعراء سعيد عاهد، وسعيد التاشفيني، ومحمد جواد، ومحمد كابي، وبالفنانين عبد لله الديباجي، وعبد لله بلعباس، ومحمد الزين، والناجب الزبير.
جديدة اليوم ليست هي التي أوسمها ذات صباح جميل الجنرال ليوطي بدوفيل دي ماروك، بل هي أشبه بمدينة تحولت إلى حلبة صراع وتجاذب، بين ما هو اجتماعي، وسياسي، ورياضي، وأصبحت مثل أرملة تدعو أن يعيدها الزمن إلى سابق عهدها.
إن الجديدة التي نطمح إليها، لن تكون مدينة اللغط والكراهية والتطرف، بل مدينة نحلم فيها بالاستقرار والأمن والحب والأشياء الجميلة، لأننا نريد تلك المدينة الفاتنة التي كانت تتوسد الأطلسي بفخر وجمال وهدوء، ونجمة المحيط التي كانت لا تنام إلا وهي مطمئنة على جميع أبنائها، مدينة ذات طابع أوروبي.
لقد كانت مدينة الجديدة إلى حدود العقود القليلة الماضية واحدة من المدن الساحلية المغربية الجميلة ذات الطابع المعماري الأوربي، فيكفي أن تتجول بعينيك بين بنايات المسرح البلدي، ومكتب البريد الرئيسي، وبنك المغرب، لتنعم بسفر في عبق التاريخ، وتنوعات الجغرافيا، حيث يخال إليك أنك بإحدى المدن الأوربية التاريخية العريقة، قبل أن تطلّ من الجهة الأخرى على الحي البرتغالي بأبراجه العالية وكنائسه القديمة، وتستنشق عبق التاريخ، وتقف على ما خلّفه الأوربيون من آثار وحضارة شاهدة على حبهم لهذه المدينة، لكن ما أن تغادر هذه الأمكنة حتى تفاجئ بالجرائم التي اقترفها أبناء جلدتنا من مسؤولين وصناع قرار، الذين تناوبوا على استنزاف خيراتها وحوّلوها من جوهرة أوربية إلى شبه قرية حبلى بمظاهر البداوة.
سياحة بـ «طعم التشرميل»
تزخر مدينة الجديدة بمؤهلات طبيعية وسياحية تضعها في مصاف المدن السياحية العالمية، فإلى جانب الشواطىء الخلابة، ترك المستعمر البرتغالي الذي شغف حبا بهذه الأرض الطيبة إرثا تاريخيا كبيرا، جعل المدينة تحتل موقعها ضمن المدن المصنفة تراثا عالميا. ولم يكن المستعمر الفرنسي أقل اهتماما بالجديدة، فهو الآخر اهتم بها كثيرا، وتحولت بفضل هدوءها وسكينتها وطقسها المتميز إلى مكان مفضل للمتقاعدين الفرنسيين، قبل أن يطلق عليها الجنرال ليوطي «دوفيل دي ماروك» لتشابهها الكبير مع مدينة «دوفيل» الفرنسية.
لقد ظلت مدينة الجديدة بعد الاستقلال تستقبل كبار العائلات من مختلف مناطق المغرب خلال فصل الصيف، وخصوصا العائلات المراكشية والبيضاوية، لكن مع كامل الأسف تلقّى القطاع السياحي بالمدينة في السنين الأخيرة ضربة موجعة، بعدما تحولت من استقبال سياحة العائلات إلى استقبال سياحة من نوع خاص جدا.
إن ما يثير الانتباه خلال تجوال الشخص بأهم شوارع مدينة الجديدة، احتلال مجموعات من الأشخاص المنحدرين من دول جنوب الصحراء، نساء ورجالا ومن مختلف الأعمار، لأهم الساحات والمواقع بالقرب من المسرح البلدي، وبالقرب من «باطا»، التي تحولت من علامة تجارية إلى علامة تشير إلى وسط المدينة، وبالفضاءات الخضراء كحديقة محمد الخامس التي سبق وزارها الجنرال «ليوطي»، والآن تحولت إلى فضاء لعرض منتجات غريبة، ومكانا لبيع أكلات «الحلزون»، والفشار، والمقليات، وحبات الذرة، وما شابه ذلك، دون أن يحرك الإرث التاريخي لهذا الفضاء قريحة المسؤولين والسلطات المحلية ليستعيد هذا الفضاء بريقه ولمعانه. ويبقى الأخطر من كل ذلك، ما يشهده شارع محمد الخامس الذي يعد أحد الشرايين الرئيسية للمدينة من انتشار فاضح للبنايات المهجورة بالقرب من محطة توقف الحافلات، وكذا بمحاذاة ملعب ثانوية ابن خلدون، حيث تعج هذه البنايات بالأزبال والنفايات، التي وتحولت إلى مسكن وملاذ آمن وشبه فندق مفتوح ليل نهار في وجه المتشردين، واللصوص، والمجرمين، للاختباء والاحتماء من قساوة البرد ومن مطاردات رجال الأمن، والغريب في الأمر أن البنايات المهجورة تحولت إلى مستودعات للباعة المتجولين
أسواق للفوضى
وضعية قاتمة، ترخي بظلالها كذلك على شارعي محمد الخامس ومحمد السادس، وهما معا شنت فيهما «حرب ضروس» من أجل تحرير الملك العمومي، لكنها عرفت اعتماد التمييز والانتقائية، إذ كانت مقاه ومحلات تجارية بعينها بعيدة كل البعد عن الحملة، فكيف يعقل أن يتم تحرير الملك العمومي في شارع محمد الخامس المستحوذ عليه من طرف مقاه ومحلات تجارية، في الوقت الذي تم استثناء مقاه بعينها والتي جددت احتلالها للملك العمومي؟
من جهتها، تحوّلت ساحة البريد التي تعتبر الشريان النابض للمدينة منذ مدة، إلى ساحة لباعة النقانق والمأكولات الخفيفة، في تحدّ سافر للسلطات، فيما ساحة الحنصالي يتخيل الداخل إليها أنه في سوق قروي جراء تنوع المعروضات، بدء بالملابس على شتى أنواعها، مرورا بموائد السردين المقلي والسلطات التي لا تحمل إلا الاسم، وانتهاء بالفواكه والنعناع وأشياء أخرى. أما احتلال الملك العمومي بهاته المنطقة فلا يمكن الحديث عنه، لأنه لم يتبق ملك عمومي جراء البناء الذي تم فوقه أمام أعين السلطات المحلية، والحال ذاته يتعلق بشارع الزرقطوني المعروف ببوشريط، الذي نصبت في العربات المجرورة الخاصة بالمأكولات والرايب البلدي وخدنجال، وكل ما له علاقة بشبه الأكل، بأريحية تامة لمسؤولينا، ولم يسلم حتى شاطئ الجديدة وحديقة محمد الخامس التاريخية من هذا الوضع.
بدوره، أضحى سوق لالة زهرة خارج السيطرة الأمنية هو الآخر، فقد احتلت ممراته وشوارعه، بل أن شارع الشهداء الذي يقسم المدينة إلى قسمين تم التطاول عليه هو الآخر، باعتماد منطق «الفتونة» من طرف بعض الباعة المتجولين، حتى أنه أضحى مختنقا ويساهم في توتر الأعصاب في الوقت الذي لاتصل «أقدام» السلطات المحلية أرضيته، وبات تحت رحمة المتحكمين فيه.
أما حي السعادة الذي يضم سوقا نموذجيا، فقد تحول إلى ما يشبه السوق القروي، وأضحت أطراف معينة تتحكم فيه، بينما السلطة المحلية تتفرج فقط على احتلال شارع جمال الدين الأفغاني والأزقة المتفرعة عنه، التي «تملّكها» البعض، بل ترعف كذلك ربط عربات مجرورة بالكهرباء، فيما أقدم البعض على ضم جزء من الملك العام إلى محلاته التجارية دون حسيب ولا رقيب، فيما تقاطع شارعي جمال الدين الأفغاني والعلويين تحول إلى سوق يومي أمام أعين السلطات.
تعميم العشوائية
من بين النقط السوداء والاختلالات الكبرى التي تم اقترافها تحت أنظار وتزكية مسؤولين ومنتخبين سابقين، الموافقة خلال التقطيع الانتخابي لسنة 2009 على إلحاق دواوير تابعة لجماعة الحوزية آهلة بالسكان ومعروفة باستفحال ظاهرة البناء العشوائي بالمدار الحضري لمدينة الجديدة، وهكذا أصبحت دواوير «الرقيبات، لشهب ، الغربة، الغنادرة، ابرهيم، الطاجين، المسيرة والعيساوي…» منذ سنة 2009 تابعة إداريا لبلدية الجديدة، مما شكل عبئا وثقلا إضافيين على ميزانية البلدية، التي وجدت نفسها في مواجهة مشكل إعادة هيكلة هذه الدواوير التي استنبتها المجلس القروي لجماعة الحوزية، واستفاد من تشجيع البناء العشوائي رجال سلطة ومنتخبون… حيث تم التخلص من هذه البؤر والنقط السوداء بإلحاقها بمدينة الجديدة، في الوقت الذي من المفروض فيه أن تتحمل جماعة الحوزية التي أضحت واحدة من أغنى جماعات الإقليم مسؤوليتها، وتدخل في شراكات مع المجلس الحضري للجديدة لإعادة هيكلة هذه الدواوير والمساهمة في إيجاد حل للأخطاء المجالية والتعميرية التي أحدثتها بمحيط مدينة الجديدة، حيث تحولت هذه الدواوير.
ملك عمومي مستباح
أظهرت السلطات المحلية بالجديدة عجزا واضحا في تنفيذ البرنامج الوطني الرامي إلى محاربة ظاهرة احتلال الملك العمومي التي انطلقت بمختلف ربوع المغرب مع إطلالة فصل الصيف، ومازالت مستمرة إلى حدود اليوم، حيث اصطدم تدخل السلطات بـ «فيتو»، البعض الذين تربطهم علاقات خاصة جدا بمسؤولين من مستويات مختلفة.
وهكذا ركزت السلطات في محاربتها على شوارع بعينها، خصوصا الزرقطوني محمد الخامس، وساحة الحنصالي، واستثنت باقي شوارع وأحياء المدينة ، فتم «إغماض العين» على مقاه بالقرب من رئاسة جامعة شعيب الدكالي، وبطريق سيدي بوزيد بالقرب من «فايزر»، وبحي السلام، واللائحة طويلة. الشيء الذي أفرغ هذه العملية الوطنية من المحتوى لتختم بـ « تخريجة»؟ جهنمية لبعض صناع القرار، تفيد بتأجيل عملية محاربة احتلال الملك العمومي إلى ما بعد، نظرا لاعتبارات عدة. فمن أوحى بهذه الفتوى؟ ومن هي الجهات التي استفادت منها؟
إن الجديدة ليست مركزا حضريا، فهي مدينة سياحية كبرى، وثاني قطب اقتصادي بعد البيضاء، ومدينة صناعية وجامعية، إذن فهي في حاجة إلى سلطة محلية قوية تدافع عن مصالح المدينة، ويكون فيها الجميع متساويا أمام القانون، وتكون بعيدة عن الحملات والانتقائية وذلك أضعف الإيمان .