تاريخ العبودية، العرق والإسلام -08- تغريب السود في التقاليد العربية والإسلامية

في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، كان غالبية العبيد من أصل إثيوبي. لم يقتصر وصف العبيد على السود فقط، بل شمل أيضا العبيد «البيض» المستوردين من الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية، وكذلك العبيد العرب الذين كانوا على الأرجح أسرى حرب وغالبا ما كان يتم إطلاق سراحهم مقابل فدية، وهي ممارسة مربحة بين البدو، يرى المؤرخ
«أبو الفرج الأصبهاني» (ت 967)، الذي قام بتأليف عمل متعدد الأجزاء عن الشعر والأغاني العربية، أنه: «في عصر ما قبل الإسلام، استعبد العرب أطفالهم المولودين من العبيد الإناث الذين خدموا الرغبات الجنسية لأسيادهم.

 

بحلول هذا الوقت، نشر “المختار بن الحسن بن عبدون ابن بطلان” (سمي “يوانيس” وتوفي 1066م)، الطبيب المسيحي – العربي من بغداد، دليلا من القرن ال11 حول “كيفية شراء العبيد وكيفية اكتشاف أي عيوب جسدية، وقال فيه – على سبيل المثال- إن “النوبيين يصنعون عبيدا جيدين بسبب ميولهم الطبيعية للعبودية”، لكنه عزا شخصيتهم إلى المناخ بدلا من لعنة حام. في الواقع، قسم المؤلف العبيد إلى مجموعات مختلفة مثل: سكان “منطقة القوقاز” و”السلاف” و”الأرمن” و”الأتراك” و”الصقليين” و”الإيرانيين” و”الهنود” و”الأفارقة السود” (أي النوبيون والحبشيون والزنوج). واستنادا إلى عرقهم و”علم الفراسة”، بين المؤلف أي منهم كان مناسبا لأي نشاط أو وظيفة – على سبيل المثال – تم اقتراح “النوبيات” كممرضات وخادمات، في حين كان “الأتراك” و”السلاف” مناسبين تماما للعمل كجنود وحراس، وبالتالي خلق تمثيل موصوم للتسلسل الهرمي الإثني أو العرقي.
كانت المواقف العنصرية تجاه الأفارقة السود شائعة في الأراضي الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، ويبدو أن “التلمود” وكذلك التقاليد العربية تصف وتبرر فكرة الانقسامات العرقية وعلاقات القوة باستخدام الهوية والمخطط الديني. أصبح هذا التقييم السلبي للأفارقة السود، راسخا خلال حقبة العصور الوسطى وحتى وصل إلى “إسبانيا”، التي لم يكن لها أي اتصال مع أرض السود في هذا الوقت. على سبيل المثال، تشير كتابات “بنيامين توديلا” تاجر القرن ال12 في نافار الإسبانية إلى السود في جنوب مصر: “عندما يقوم رجال “أسوان” (مصر) بغارة على أرضهم، يستولون على “الخبز” و”القمح” و”العنب الجاف” (الزبيب) و”التين”، ويرمون الطعام لهؤلاء الناس الذين يركضون وراءه. وهكذا، يجعلون الكثير منهم أسرى يبيعونهم في أرض “مصر” والبلدان المحيطة بها، وهؤلاء هم العبيد السود أبناء “حام بن نوح””.
كان “شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي طالب الأنصاري الدمشقي” (1256-1327) من أوائل المؤرخين بعد “المختار بن بطلان”، الذين رفضوا “التقاليد الحامية”، وكتب: “يؤكد المؤرخون أن سبب البشرة السوداء لأبناء حام، هو أنه مارس الجنس مع زوجته أثناء وجوده على السفينة، ولعنه نوح ودعا الله أن يعدل نسله”. وفي نسخة أخرى «أن حام جاء إلى نوح نائما، ممتكشفا على عورته التي كشفتها الرياح، وذكر هذا لأخويه “سام” و”يافث” فقاموا وغطوه، وأداروا وجوههم إلى الوراء حتى لا يريا عورته. فلما علم نوح بذلك قال: “ملعون حام، طوبى لسام، والله يضاعف نسل يافث”. لكن الحقيقة هي أن “طبيعة بلادهم تتطلب أن تكون خصائصهم كما هي (السواد)، على عكس تلك المرتبطة ب”البياض”، لأن معظمهم يسكنون جنوب الأرض وغربها “.
اعتمادا على النسخة (المقبولة جمعا)، كان غضب “نوح” (عليه السلام) إما بسبب معاشرة حام لزوجته أثناء وجوده على الفلك أو بسبب رؤية حام للعورة المكشوفة لنوح. وفقا للرواية الأخيرة، فإن ابني نوح الآخرين “سام” و”يافث” يغطون والدهم دون رؤية عورته. في كلتا الحالتين، هناك اختلافات إضافية تخص اللعنة الحامية، فالأول هو “أن الله غير لون بشرة حام إلى اللون الأسود”، والثاني «هو أن أطفال حام فقط هم الذين سيولدون سودا”. على مر التاريخ، سيصبح نسل “حام” عبيدا لذرية “سام” كجزء من اللعنة، حيث أصبحت ذرية “سام” (أهل المناخات المعتدلة الوسطى) مثل: “العرب” و”الإسرائيليين” و”الفرس”، وأصبح نسل “يافث” (شعب الشمال ذو البشرة البيضاء).
يركز قدر كبير من النقاش، بين المؤرخين العرب في العصور الوسطى، حول “حام” على نسله. تقدم المناقشات الأطروحة القائلة بأن “الشعوب الإفريقية ذات البشرة السوداء تنحدر من “حام»، الذي غادر أبناؤه مسافرين إلى إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى حيث استقروا وتكاثروا هناك”. عارض العديد من المؤرخين، في وقت لاحق، ادعاء بأن “شعب السودان ذوي البشرة السوداء هم من نسل حام”. وبدلا من ذلك – كما يوضح المثال من الدمشقي – رفض بعض المؤرخين “نظرية الحامية” (Hamitic) وعزوا الاختلافات العرقية إلى “العوامل البيئية” التي تنطوي على الحرارة الشديدة للمناخ الذي يعيش فيه السود.وبالمثل، ادعى “الدمشقي” أن “سكان الشمال هم من ذوي البشرة البيضاء، بسبب البرد الشديد لمناخهم”. علاوة على ذلك، غالبا ما تعزى الممارسات والعادات الغريبة لهذه الشعوب، إلى عوامل وتأثيرات تنطوي على الظروف المادية التي شكلت أشكال الحياة، إذ قد يكون السود “حالمين” أو “مرحين” أو “كسالى” بسبب الحرارة”.
بحلول القرن ال14، كانت الصور النمطية العنصرية للأفارقة السود واضحة في المصادر العربية، حيث تسمح لنا الدراسات المؤثرة ل”ابن بطوطة” و”ابن خلدون” برؤية الافتراضات الدونية الثقافية المرتبطة بسواد شعوب إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. كتب “محمد ابن بطوطة” (1304-1368) العالم المغربي من العصور الوسطى ذو الرحلات الأسطورية خاصة في غرب إفريقيا عام 1353، على الرغم من عدم الإشارة على وجه التحديد إلى لعنة حام، لكنه قدم ملاحظات نقدية لما اعتبره “مواقف وثنية للسكان السود”، قائلا: “الصدور العارية والحرية الجنسية والأخلاق السيئة”، كتب في “رحلة إبن بطوطة” عن السود في غرب إفريقيا، قائلا: “هؤلاء الناس لديهم طرق حياة رائعة وغريبة. أما بالنسبة لرجالهم، فإنهم لا يشعرون بالغيرة الجنسية [. . . ] وأما عن نسائهم، فلهن صحبة ورفاق من الرجال الأجانب – على سبيل المثال – ليسوا من الأقارب”.
يمكن رؤية رد فعله على العادات المحلية في أمثلة من قبيل: “..في هذا، ندمت على مجيئي إلى بلادهم بسبب سوء أخلاقهم واحتقارهم للرجال البيض” ؛ أو عندما قال: “عندما رأيت ذلك (هدية استقبالهم البسيطة) ضحكت، ودهشت طويلا من ذكائهم الضعيف واحترامهم للأشياء الدنيئة”. أشار “ابن بطوطة” إلى أنه علم عن آكلي لحوم البشر بين السود: “جاءت مجموعة من هؤلاء “السودانيين” [السود] الذين يأكلون اللحم البشري، مع أمير لهم إلى السلطان مانسا سليمان». هذه الحكايات من ابن بطوطة، كان من الممكن أن يختلقها الأفارقة السود أنفسهم، لإخافة العرب والبربر ومنعهم من المغامرة في مناطق تعدين الذهب، وكاستراتيجية للحد من التعدي الأجنبي على مصادر الدخل الاقتصادي الحاسمة.
بالنسبة للرحالة “ابن بطوطة”، كان المعيار النهائي لقيمة الناس لديه هو تمسكهم بالإسلام أو عدمه، وكان يصدر أحيانا أحكامه بشأن هذا الالتزام من حيث العرق. نصب ابن بطوطة لنفسه، حكما أخلاقيا من خلال فهرسة بعض أفعال السود التي إما قبلها أو رفضها، كما كانت انتقاداته للسود موجهة إلى حد كبير للعادات الاجتماعية، حيث تصور الكفار الأفارقة على أنهم متوحشون، وأولئك الذين اعتنقوا الإسلام على أنهم متحضرون. كان “عبد الرحمن ابن خلدون” (المتوفى عام 1406)، أحد أشهر المؤرخين والمفكرين العرب، أول من تعامل مع “النظرية الحامية” بالكامل وبددها على أنها أسطورة أو “قصة سخيفة”.
كان “ابن خلدون” شخصية متوسطية حقيقية، ينحدر من عائلة أندلسية بارزة وقضى حياته المهنية بأكملها على طول الشواطئ الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، من “فاس” إلى “تونس” إلى “القاهرة”. كتب في كتابه “مقدمة ابن خلدون” (مقدمة لتاريخه العالمي): “إن ذكر أن سواد الزنوج يعود إلى حام، يكشف عن تجاهل الطبيعة الحقيقية للحرارة والبرودة، والتأثير الذي يمارسانه على المناخ وعلى المخلوقات التي تنشأ فيه. إن الجلد الأسود المشترك بين سكان المنطقتين الأولى والثانية، هو نتيجة تكوين الهواء الذي يعيشون فيه نتيجة لتأثير الحرارة المتزايدة بشكل كبير في الجنوب [. . . ] يمر الناس هناك، بصيف شديد القساوة يحول جلودهم إلى اللون الأسود بسبب الحرارة الزائدة”.
اعترض “ابن خلدون” أيضا، على الادعاء التقليدي بأن “شعب السودان ذو البشرة السوداء هم من نسل حام”. قد يكون مصدر الآراء التقليدية، التي نسبت لون البشرة إلى “اللعنة الحامية” مستمدا من “الإسرائيليات” (حكايات مأخوذة من مصادر يهودية في شبه الجزيرة العربية خلال الفترة المبكرة للإسلام)، مما يفسر دمج رواية “أبناء حام” في التاريخ العربي الإسلامي. لقد خالف “ابن خلدون” التقليديين في هذه القضية وغيرها بحجة أن “شعوب السودان كانت ذات بشرة سوداء بسبب الحرارة الشديدة للمناخ الذي يعيشون فيه، وأن شعوب الشمال بيضاء البشرة بسبب البرد الشديد لمناخها الخاص”. علاوة على ذلك، كانت الممارسات والعادات الغريبة لهذه الشعوب، نتيجة لمناخها وظروفها البيئية بدلا من الافتراض الحامي بأن البشرة الداكنة تنقل بطريقة ما صفات إنسانية متدنية تعتبر وحشية أو بربرية…


الكاتب : ترجمة: المقدمي المهدي

  

بتاريخ : 20/03/2024