في ظل غياب تفعيل القوانين المنظمة للسكن الوظيفي، تتكشف يوما بعد يوم تجاوزات صارخة تستوجب التوقف والتحقيق. وضع غير قانوني يتحول إلى واقع يومي تتقاسمه فئات معينة، مُستغِلة الثغرات القانونية أو ضعف المتابعة الإدارية، لتجعل من السكن الوظيفي امتيازا دائما بدل أن يكون أداة لخدمة المرفق العام.
من أبرز صور هذا التجاوز، استمرار الاستفادة من السكن الوظيفي دون وجه حق، حيث يتم تجاهل تفعيل المذكرات والمراسلات الوزارية التي تُلزم بإفراغ السكن عند انتهاء المهام الرسمية. كما أن عدم مراجعة السومة الكرائية لهذه المساكن يجعل منها امتيازا شبه مجاني، في وقت يعيش فيه المواطن البسيط أزمة سكن خانقة. ولا يقف الأمر عند حدود السكن فقط، بل يمتد إلى استعمال حظيرة سيارات المصلحة في الأغراض الشخصية، مما يطرح تساؤلات حقيقية حول مدى احترام المال العام وأخلاقيات الوظيفة العمومية.
وفي ظل هذا الوضع، تبرز الحاجة الملحة إلى وضع دفتر تحملات دقيق، يتم ضبطه بعقود ملزمة قانونيا تُحدد شروط الاستفادة، وتُربط بمُدة الوظيفة أو المهام الموكلة، مع ضرورة تفعيل المساطر القضائية لاستخراج أحكام إفراغ في الحالات غير القانونية. كما يُعد من الضروري تفعيل القوانين المنظمة للسكن الوظيفي، من خلال التأكد من إلزام المتعاقدين بتحمل جميع التحملات الثابتة، كربط السكن بشبكات الماء والكهرباء، وأشغال الصيانة، لضمان عدم تحميل الدولة أعباء إضافية.
وفي هذا السياق، يجب أيضا التنصيص على شرط الأهلية للاستفادة من السكن الوظيفي، وربطها بطبيعة الوظيفة المسندة، حيث لا يُعقل أن يستفيد من هذا الامتياز موظفون في مهام إدارية غير ميدانية، بينما يُحرم منه من هم في مواقع حساسة تستدعي الحضور الفوري والدائم.
ما كان يفترض أن يكون سكنا موقّتا، مرتبطًا بالمهام الإدارية، تحوّل إلى إقامة دائمة تستفيد منها فئات دون غيرها، حتى بعد انتهاء مهامها أو تقاعدها، بل وفي بعض الحالات تُورَّث هذه المساكن وكأنها أملاك خاصة. في المقابل، يعاني موظفون آخرون من غياب السكن أو التمييز في توزيعه، في ظل انعدام الشفافية والعدالة. وقبل كل شيء، أصبح لزاما اليوم إعادة النظر في المنظومة القانونية برمتها، من أجل القطع النهائي مع سياسة الريع التي تُحوّل السكن الوظيفي من أداة دعم وظيفي مؤقت إلى امتياز دائم غير مشروع، يُناقض مبادئ الشفافية والعدالة.
إن غياب قواعد صارمة لتحديد معايير الاستفادة، وآليات فعالة للمراقبة والمساءلة، يُعزّز هذا الوضع المختلّ، ويُكرّس الفجوة بين القانون والواقع، وبين من يحترم الضوابط ومن يُفصّل القوانين على مقاسه.لقد آن الأوان لإعادة النظر في هذا الملف، وتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، حماية للمال العام، وضمانا للعدالة داخل الإدارة. إن تجاوزات من هذا النوع تمس بثقة المواطن في الإدارة، وتفتح الباب أمام المطالبة بتدقيق شامل في كيفية تدبير السكن الوظيفي ووسائل المصلحة، عبر إصلاح تشريعي ومؤسساتي شامل، يُعيد الاعتبار للوظيفة العمومية ويحمي المال العام.

