جئت في مهمة سرية، على عجل، بعد توصلي بمكالمة هاتفية، وأنا معتكف في “الزاوية”، مبعوثا من جريدة ” الاتحاد الاشتراكي” للبحث عن المدعو الصحافي “سعيد عاهد “، وأتساءل معكم سواء في المنصة أو الحضور، عن مكان اختبائه؟ وأين أجده؟ الكل يبحث عنه، القيادة السياسية ومسؤولو الجريدة والدرك الملكي والأصدقاء، الجمعيات الثقافية والنوادي السينمائية والتشكيليون.. .
كلفني مدير الجريدة بالبحث عنه، لترجمة ” رسالة الاتحاد” التي كتبها بلغة موليير، وصدرت بجريدة ” ليبراسيون” الفرنسية، وخلقت زوبعة ليلية للملك الراحل الحسن الثاني، الذي طلب من أحد مستشاريه الاتصال في منتصف الليل بالزعيم عبد الرحيم بوعبيد، ليسأل عن مغزى الرسالة.
ونظرا لقوتها، بالرغم من أن الكاتب الأول لم يطلع عليها قبل، فقد طلب من أختها بالعربية، جريدة ” الاتحاد الاشتراكي” ترجمتها .. ولهذا السبب أنا هنا لأبحث عن هذا الولد المولع والمتخصص في الترجمة، والهارب دائما وأبدا من الأضواء مختبئا في “الأماكن” الموضوعية.. لترجمتها والتي وجد مديرها عسرا في كلماتها.
تذكرت شيئا آخر، يمكن أن يكون سبب تغيب واختفاء المدعو سعيد عاهد، وعدم الحضور معنا في هذا الحفل لتقديم وتوقيع كتاب “السحر في المغرب” للدكتور”إميل موشان”، هو أن رجال “الدرك الملكي” يبحثون عنه للمثول أمامهم، واعتقاله بسبب نجاحه في البكالوريا بميزة حسن جدا، وهذا هو سبب اختفائه، هل في دوار بوعزيز؟ أم سلا؟ أم المحمدية أم في الخارجية…
حسنا فعل، هذا الولد الخجول، المتعدد الاهتمامات، باللغتين… كل هذا سيقول لي ولكم …وتقووووووول …بيخو…نم لك ساعة يا حبيبي…
ولأن المناسبة شرط، ونحن على أبواب شهر رمضان، فمن تحدث مع سعيد عاهد فقد لغى، وصيامه باطل وقد وجب عليه القضاء والكفّارة.
الكتاب الذي نحتفي به اليوم هو آخر إضافة للمكتبة المغربية في مجال الترجمة أصدره الشاعر والإعلامي سعيد عاهد، وهو موسوم بـ “السحر في المغرب”، صدر ضمن منشورات “دار القلم العربي للنشر والتوزيع”، وهو ترجمة لمصنف الدكتور الفرنسي إميل موشان (1870/1907) الذي نشر في 1911، أربع سنوات بعد مقتل مؤلفه في مراكش عام 1907 من طرف مغاربة اتهموه بالتجسس لصالح فرنسا. خلف القتيل حزمة أوراق مخطوطة حول المجتمع المغربي ومعتقداته وطقوسه وممارساته السحرية والخرافية، سلمت لأسرته، مع جثمانه، ليكلف والدُ القتيل الكاتبَ والصحفيَّ متعدد الاهتمامات والباحثَ في مجال العلوم الباطنية، جُولْ بْوَا، بمراجعتها وإعدادها للنشر على شكل كتاب.
ويندرج هذا المنجز الجديد لسعيد عاهد ضمن اهتمام الكاتب بترجمة المصادر الفرنسية العاكسة لنظرة الآخر لمغرب ما قبل الحماية، والرامية في نفس الآن لتشريح نظم البلاد الاجتماعية والسياسية والذهنية قصد تيسير عملية الانقضاض عليها من طرف أنصار إعمال رسالة فرنسا الحضارية آنذاك، كما يندرج في إطار شغف المترجم بالنواحي المهمشة والمسكوت عنها والإثنوغرافية في تاريخ المغرب، اهتمامٍ وشغفٍ تولد عنهما تعريب عدة مؤلفات منها على سبيل المثال لا الحصر: “المغرب كما رأيته: فرنسية في مغرب 1908″ (ماثيلد زِييْس، 2023) و”المعتقدات والطقوس الشعبية للمغاربة قبل مائة عام” (الدكتورة ليجي، 2022)، علاوة على إسهاماته الصحفية على شكل مقالات وترجمات وعروض كتب اصطبغت بنفس المنحى.
وبغض النظر عن السياق التاريخي لإقامة موشان في الرباط أولا (في صيف )1905 ثم في مراكش التي حل بها يوم 28 أكتوبر من نفس السنة وفتح بها مركزا صحيا، والتي ستحتضن لاحقا، بعد الحماية، مستشفى مدنيا باسمه بعد إقامة الحماية (في نهاية 1913، وهو مستشفى ابن زهر الحالي)، وعلى ملابسات مقتله (19 مارس 1907) وما نجم عنها من تداعيات غيرت وضع المغرب في علاقته مع فرنسا، وهي القضايا التي تعرض لها المترجم في مقدمته للمؤلف ( من ص: 5 إلى ص: 15).
ومن بين المؤشرات الدالة على هذه المفارقات، كون مولاي عبد الحفيظ، الذي كان خليفة لأخيه السلطان مولاي عبد العزيز على مراكش، متعه بحظوة خاصة وصلت إلى حد هبته حصانا ذا سرج مطرز بالذهب والفضة سنة 1906، هذا على مستوى المخزن، أما على مستوى الرعايا، فقد احتشد الأهالي، بشكل كثيف ومتراص وعدواني، أمام مستوصف طبيب الحكومة الفرنسية، ليعرضوه “للحصار والرشق بالحجارة، ثم الطعن بخمس وثلاثين طعنة خنجر، بينما النساء يزغردن من فوق السطوح مهيجات الحشود”. ومن جهتهم، اعتبر علماء مراكش في فتوى لهم بأنه “قبض الله له رجلا لا يعرفه أحد ولا يعرف من أين جاء غيرة على السبعة رجال فقتله في أسرع ما يكون”، وكلمة “غيرة” تفيد، في هذا السياق، اصطفاف المفتين في خندق من نعتهم المؤرخ عبد الرحمان زيدان بـ “همج الرعاع” ( الصفحات من 7 إلى 10).
علاوة على تقديم المترجم المستفيض حول سيرة الدكتور موشان وظروف مقتله وتداعيات هذا الحدث وتبعاته، ومقدمة الطبيب لمؤلفه، تضم الترجمة جزأين اثنين، يمكن تصنيف الأول منهما بأنه وصفي والثاني بأنه تطبيقي.
يشمل الجزء الأول أربعة فصول: الفصل الأول مخصص للزواج، والطلاق، والولادة، والمولود الجديد، والنفاس، والختان، والوفاة والجنائز؛ والثاني لبعض العادات المرتبطة بمختلف ظروف الحياة الاجتماعية وحياة الأفراد؛ والثالث للتسول، والفقر المدقع، والرذائل والدعارة؛ والرابع للشريعة، والديانة، والطوائف الدينية والأولياء.
وإذا كان كل فصل من هذه الفصول الأربعة يتفرع إلى أبواب متعددة لا سبيل إلى سرد تفاصيل كل واحد منها، فإن المؤلف يفتتح كل واحد منها بوصف العادات والممارسات والمعتقدات المتعلقة بالمواضيع المتناولة، قبل أن يعرج على الطقوس والتعاويذ السحرية التي يلجأ إليها المغاربة، المسلمون منهم واليهود، في شتى مناحي حياتهم ذات الصلة بمظاهر عيشهم الاجتماعية والدينية التي يتعرض لها الفصل.
ولتبيان المنهج المعتمد في هذا الجزء الأول، نطل إطلالة سريعة على ما ورد في باب الرضاعة ضمن الفصل الأول. يقول المؤلف إن العادة تقضي “بفطام الأطفال في سنتهم الثانية، غير أنه يمكن الكفُّ عن إرضاعهم ابتداء من شهرهم السابع”. ثم يقدم الوصفة المستعملة للأم التي تشكو من نقص في حليب الرضاعة، بحيث يكون عليها أن ” تتناول برسيما صُبّ عليه حساء طحين، أو أوراق ورد سُكِبت عليها عصيدة طحين؛ – أو تحرق حافر بقرة، وتدقه وتشرب المسحوق مع خمر؛- أو تأكل كسكسا مُعَدّا بمرق السمك. – ويجب أن تتناول، على العموم، أحسية طحين الشعير، وكثيرا من حبوب الكتان أو القراص (الحريگة) مع خمر (القراص الحارق).
كما يثبت وصفتين اثنتين لشفاء المرضعة التي جف حليب ثديها تماما، مؤكدا أن النمل هو المسؤول دائما وأبدا عن سلب النساء حليبهن، إما لأنهن تركن قطرات منه تسيل ليشربهن النمل أو أن عدوة لها سكبت بعض حليبها في مسكن للنمل، مضيفا وصفة معينة للشفاء تتمثل في طقس غريب لإعداد طبق كسكس (ص: 76/77).
أما الجزء الثاني من “السحر في المغرب”، وهو الذي يندرج ضمن ما يمكن توصيفه بالجانب التطبيقي للسحر، فيتكون من ثلاثة فصول يتمحور أولها حول العفاريت، وثانيها حول السحرة وثالثها حول السحر الدفاعي والأشربة والفتن الجالبة للصداقة والعشق والربط والسيطرة.
والسحر، كما يقول الكاتب، ” إما دفاعي أو عدواني. – يخصص النصف الأول من الشهر للأنماط الدفاعية، بينما الأعمال السحرية الشريرة لا يمكنها النجاح إلا انطلاقا من 15 من الشهر، علما أن الشهر لدى العرب قمري” (ص: 172)، ونلاحظ في هذا الجزء عدم إقدام سعيد عاهد على ترجمة تفاصيل مكونات الوصفات والطقوس المرافقة لها، وذلك من باب الاحتراز من انزلاق أحد ما، مؤمن بفعالية السحر في راهننا المغربي المُرَكَّب، إلى اعتمادها، بحيث لا يذكر بالاسم بعض هذه المكونات، مكتفيا بالإشارة إلى أنها من الأعشاب أو المعادن أو الصموغ أو أعضاء أو دم طائر أو حيوان معين.
ولن أذيع سرا في هذا اللقاء إذا أكدت بأن الترجمة المنشورة من الكتاب مبتورة من بعض محتويات النص الأصلي، وهو أمر أسرّ لي المترجم أنه تم بدون موافقته، وأن الناشر اقترح عليه قبليا حذفها، لكنه عارض الاقتراح وأعاد صياغتها قبل أن يفاجأ بغيابها تماما من النسخة المطبوعة والموزعة.
ويتعلق الأمر بأبواب بعينها من الفصل السابع المخصص للسحر الدفاعي، وبالفصل الثامن كاملا من ألفه إلى يائه، ومحوره: ” السحر العدواني (طرق الفتن والسحر بالكتابة والتنجيم)”. وبالعودة إلى مخطوط الترجمة كاملا كما تسلمته من الصديق سعيد عاهد، فصلا بعد فصل وهو بصدد إنجازه، لن أجانب الصواب ولن أفشي سرا إذا قلت إن أبواب الفصل السابع المُغَيَّبة تستعرض ما يلي: طرق لخلق الجاذبية/ السوق، وهي تستهدف الشابات اللائي لا يجدن زوجا، والأرامل في نفس الوضع، والتجار بدون زبائن والرجال غير المتمتعين بالتعاطف؛ ورقية سحرية مؤذية موصى بها للتجار الذين لا يحققون أرباحا، وللناس الودودين العاجزين عن كسب محبة الآخرين وللأشخاص الذين تجلب عليهم الامتيازات الممنوحة لهم من طرف المخزن الحسد، وثلث وصفات أخرى لها نفس الغاية؛ وطقس ساحرة هدفه إخضاع قبيلة ثائرة على قائدها؛ ومعالجة خصام العشاق؛ وطريقة تلجأ إليها المرأة عقب خصام مع عشيقها في حالة رفض كل واحد منهما الإقدام على الخطوة الأولى للمصالحة، أو العاشقة الراغبة في أن يهواها حبيبها أكثر؛ وبخصوص الحب: حالة رجل وامرأة يحبان بعضهما، غير أن اللقاء متعذر بينهما؛ وثلاث وصفات للمرأة محتدمة العشق التي تريد ألا يهتم المحبوب إلا بها دون غيرها، وذلك إلى درجة إهمال أعماله؛ وعمل سحري أسود للمرأة الخائنة التي تريد إعماء زوجها المَخون؛ إضافة إلى وصفات يقدمها موشان لعلاج كل هذه الفتن السابقة.
أما الفصل الثامن الذي تاه عن الطريق المؤدية إلى آلة الطبع، فوصفاته جميعها مؤذية، لكن المؤلف يتخذ احتياط تزويد القارئ بالسبل الكفيلة للشفاء منها، وغاياتها، حفظكم وحفظنا الله من أذاها، تشمل: طريقة تحضير عجين القمر واقتنائه ومختلف استعمالاته، ووصفات مؤذية يروم أصحابها إصابة الغير، امرأة كانت أو رجلا، بالعنة (الثقاف)، أو العقم، أو إسقاط الشعر أو الأسنان، الجذام، أو احتباس البول، أو مرض الزهري، أو نزيف وسيلان أبيضين من المهبل، أو حمى النفاس، أو الحمق، أو الشلل، أو التهاب الأمعاء المزمن أو الضمور، مثلما يمكن لوصفات السحر العدواني هذه توليد الكره، والتفرقة بين زوجين أو عشيقين، أو إفقاد شخص عمله، أو تسميم وإماتة العدو، وتوليد الكره والانتقام من أي كان.
وبما أن الأمر لا يتعلق بسر من أسرار السحرة المحفوظة في طلاسمهم، فإنني أقترح الجهر بوصفتين قصيرتين من هذا الفصل. تتمثل غاية الأولى منهما في إسقاط الأسنان: “إذا رغب رجل في إسقاط أسنان امرأة أو جعل رائحة فمها كريهة، فإنه يحصل على قليل من لعابها، ويضيف له رواسب تكسو معدنا معينا، وصنفا محددا من التربة الصلبة وعجين القمر؛ ويطحن كل هذه المواد ويصرها، ثم يدفن الصرة تحت براز جاف، قائلا: “مثلما ستبقى هذه المادة هنا من دون أن تنظف، أريد أن ينال فم فلانة نفس المصير”. وبعدها بأيام، تسقط أسنان المسحورة وتصبح رائحة فمها كريهة”.
أما الثانية، فمبتغاها الإصابة بالتهاب الأمعاء المزمن: “الشخص الذي يريد تسليط هذا العمل السحري الشرير على أحد، يذهب إلى المقبرة، وينبش جثة قديمة وينزع منها ضلعا محدد المكان، ويأخذ بين أصبعيه عددا معينا من القبضات من التراب من نفس العدد من قبور مختلفة، ويجمع بيض حشرة معينة وشظايا زجاج من الشارع، ثم يسحق الكل ويجعل الضحية تتناول بضع قبضات من المسحوق. ويصاب الرجل، المسحور بهذه الطريقة، بالخرف، ويشرع في التقيؤ ويصبح برازه مصحوبا بالدم والمخاط.”
ولا يتردد الطبيب موشان، بالنسبة لهاتين الوصفتين كما بالنسبة للوصفات المؤذية الأخرى، في تقديم وصفات مضادة لإبطال مفعول الأولى.
ويبدو أن خطورة الوصفات الواردة في الفقرات المحذوفة هي المبرر الذي اعتمده الناشر لحذفها إعمالا لمبدأ الاحتراز القبلي، علما أن الصفحات الأولى من الكتاب تتضمن كلمة توضيحية له من بين ما جاء فيها: “إن تعاطي الكاتب مع النصوص الدينية، وتفسير بعض الممارسات، لا يبدو مستغربا من رجل خلفيته الدينية هي المسيحية، ودافعه الاستعلائي لا يحتاج إلى دليل.” (ص: 3).
تظل ترجمة سعيد عاهد لكتاب “السحر في المغرب” تستحق القراءة وتمنح بعض الإمتاع والمؤانسة للقارئ عبر اكتشاف مغرب عتيق لم ينقرض بعد تماما، كما يلزم الاعتراف للناشر بالمجهود الكبير الذي بذله لكي يصدر المؤلف في حلة أنيقة وبغلاف جميل.
( *) شهادة في حفل تقديم توقيع كتاب ” السحر في المغرب ” بالجديدة المنظم من طرف الجمعية الإسماعيلية للتواصل والتنمية الاجتماعية ومؤسسة عبد الواحد القادري