تريث أيها الموت… فاتحة تكتب

 

فاتحة مرشيد كاتبة مغربية حق لنا أن نعتز بها وبانتمائها لهذا الوطن. أغرمت بكتاباتها منذ أن قرأت روايتها الأولى. نعم. قرأت نثرها قبل شعرها وهي الشاعرة أولا. ربما كان ذلك هو سبب إعجابي الشديد بكتابتها الروائية. فيها شيء من الشعر، شيء كثير، كالشيء الذي بقي في نفس سيبويه من حتى، شيء عظيم.
الشعر له ميزة عن باقي فنون القول فهو يركز الأشياء ويجلّيها بشكل تطرب له الأذن والروح. كذلك رواية «نقطة الانحدار». لا إطناب. لا تكرار. لا مجانية. لا شيء إطلاقا أكثر مما يجب. بل كثيرا ما يتوارى الراوي وراء مفكرين أو فلاسفة أو أدباء كبار يقولون فيوجزون ويحسنون القول. الراوي أصلا دكتور في الرياضيات، وهو اختيار جمالي موفق على اعتبار أن من تشبع ب»لغة الكون» كما يسميها الغالي، أحد أبطال الحكاية، لا يمكن إلا أن يعبر بتجريد واختصار و»پراغماتية». اللغة تكتسي إذن هيبة المنطق الرياضي الخالص.
ما يعجبني على وجه الخصوص في ما تكتبه شاعرتنا الكبيرة هو ابتعادها عن تيمات البؤس المتجذر في الذوات المحيطة بنا في عالم الأدب المغربي، وتطرقها في كل مرة لمواضيع مختلفة حارقة، وطرحها لإشكاليات عويصة وعميقة لدرجة أن القارئ يرى المشترك الإنساني في ثنايا الخصوصية الجهوية المستهلكة. مثلا في هذه الرواية ندخل عالم المضاربة في بورصة نيويورك ونتابع صعود الغالي، وهو أحد ذئاب وول ستريت إلى القمة وسقوطه الحر في بحر الهوملس المظلم.
ما تفعله الروائية في هذا النص هو بالضبط المرجو من الأدب. تسافر بالقارئ. تفيده وتسليه. تقول للشباب المغربي المتطلع للهجرة الحالم بالفردوس الأمريكي، الشباب المثقف الواعي الناجح المنفتح المتعطش للمال والشهرة والحرية، وكل ما يغري به الغرب كل عقول ومواهب العالم. تقول له: تعال معي سأريك ما ينتظرك هناك. هل تقبل بشروط اللعبة؟ إما تنجح بفحش وإما تفقد كل شيء حتى إنسانيتك؟ هل تستطيع قبول هذه الصفقة؟ … تعال أريك ما معنى أن تصبح لا شيء في أغنى دولة في العالم، دولة الحرية وحقوق الانسان وغزو الفضاء…
تحت هذا الخطاب الواضح، هناك أشياء كثيرة وبالطبع لا نستطيع اختصارها هنا ، ولكن يمكن أن نخط بعض الافكار لمن أراد أن يستزيد من معين شعر فاتحة مرشيد المنثور وخصوصا الباحثين منهم.
ما تناقشه مرشيد في هذه الرواية هو تلك اللحظة الفارقة التي تجعل مسار الانسان ينعرج بدون أي إمكانية لتغيير ذلك، وما يولده هذا الانعراج من آثار بليغة على كنهه ورؤيته العالم وتقييمه لذاته وللآخرين وللأشياء. هل يخفي ما يراه الناس سقوطا مدويا أو انحدارا مرعبا أو موتا رمزيا فرصة ثمينة للتوقف عن الركض وراء السراب، والتفكير بالأولويات والعودة لما يشكل جوهر الحياة؟ الحب مثلا… حب الراوي وحليمة… حب مستحيل… ولأنه فعلا مستحيل فهو يعطي معنى للقتال والصمود والصبر حتى يتحقق… العطاء مثلا… عطاء من كان لا يحلف إلا بالأدرينالين الذي تولده المضاربات الجنونية في أكبر بورصة في العالم… عطاء كامل مجاني شديد الكرم…
نقطة أخيرة ولمن شاء أن يغترف من المنبع، فما عليه إلا أن يغوص في عالم الرواية. نقطة تقنية تتعلق بفن الكتابة. في نادي الكتاب هناك القليل القليل ممن يقدر على التحكم في نصه. بعد أن يفتح الكاتب عددا من الاتجاهات الممكنة لتطور الأحداث، يجد نفسه مجبرا على اتباع بعضها فيستنزفه ذلك وتبقى بعض الثقوب التي لا ينتبه لها إلا المحترفون. هذا ما دفع كاتبا قديرا كفؤاد العروي لتعريف الرواية كثقب.
مرشيد، ولأنها كاتبة كبيرة، لا تترك مثل تلك الثقوب. تغلق كل الأقواس التي تفتحها. تنهي كل القصص التي ترويها. تحمل القارئ بهدوء لتغبر به عاصفة الحكاية وتضعه على الضفة الأخرى في سلام. بل إنها تصر على أن تعطي السرد تبريرا منطقيا. ف»نقطة الانحدار» هي وفاء الصداقة لمغربي متميز استدرجه بريق الحلم الأمريكي ثم ابتلعه.
(*) أستاذ جامعي وكاتب


الكاتب : د. يوسف أبو علي (*)

  

بتاريخ : 17/03/2022