علياء الوشنية امرأة تجاوزت سن الأربعين. مسقط رأسها ومكان نشأتها قروي في بلد عربي عريق. ذاكرتها تحمل ثقل وعناء قصة جد مؤثرة. دائمة السهاد تلثم على التوالي أصابع أيادي أبنائها الثلاث، لا تكل ولا تمل في التفكير في وسيلة لتسجي سر وضعها الأسري الذي يعتبره مجتمعها من المدنسات والمنبوذات.
هي وحيدة أسرتها إلى جانب سبعة إخوان ذكور. تميزت باجتهادها الدراسي وثناء أساتذتها عليها طوال سنوات السلك الابتدائي. تلقت باستمرار عبارات التقريظ والتَقْديرٌ والتَبْجِيلٌ. غادرت المدرسة بضغط من إخوانها الذكور وثقل إكراهات الثقافة البدوية. وضعية أبيها المادية كانت جيدة، مكنها عطفه وعنايته في نهاية المطاف من تجاوز عتبة قياس جمال الفتاة القروية السائد. منحها الله جمالا خلابا وجذابا. لها بنية بدن قوية، ما هي بالبدينة ولا بالنحيفة. لها شعر أسود طويل ومفتول يمتد إلى ركبتيها. خصرها المنحوت أعطى لحوضها أنوثة بالغة. تهتم صباحا ومساء بمظهرها ونجحت، باعتراف أهل القرية، في تقديم صورة جديدة للفتاة القروية، إلى درجة عم التباهى بها بين النساء في كل المساكن. محياها دائم التزيين بالمواد البسيطة التقليدية، كالكحل لتجميل العينين، والحناء لتجميل اليدين والرجلين، وأحمر الشفاه البلدي لتزيين الفم والخدين بطبقة خفيفة. عرفت بزينتها الجذابة التي تزداد تألقا بحشمتها ووقارها وشرف عائلتها. حب أمها لها، واعتزاز أبيها بوجودها، أبعداها عن ممارسة الوظائف القروية (تربية المواشي وجمع الحطب ومساعدة الذكور في الزراعة، والقيام بأشغال البيت المضنية،….). تفوقت بامتياز في تشييد حاجز بينها وبين المتخيل الشعبي للإنسان القروي وتمثلاته لجمال المرأة، الذي لا يكتمل حسب التقاليد إلا عندما تعبر الأنثى عن ارتباطها المباشر والقوي بالطبيعة.
بموقعها الاجتماعي ومنظرها الخلاب دائم الجاذبية، الذي رسخت من خلاله تمثلات جديدة في محيطها، أسكتت الأفواه، وأعفاها ذلك من تلقي سؤال القدرة على العمل وتحمل المشاق وأداء مجموعة من الوظائف الصعبة. أفراد أسرتها يعتبرونها وردة متفتحة تثير الدهشة والإعجاب وسط المجتمع الذكوري، ولها حضور فعلي مباشر ومؤثر داخل المنزل. لم تكن كباقي فتيات القرية. لا تعبأ بالرسائل التي تنبعث من مختلف الأسر من أجل خطبتها لأبنائهم. اقتنعت وأقنعت أفراد أسرتها أن تمثلات الشباب القروي لن تضمن لها السعادة والاستقرار والهناء والطمأنينة. بانفتاحها على العالم عبر مشاهدتها القنوات التليفزيونية المختلفة، كانت تبهر الناظرين بتقليدها لموضة الاحتشام في اللباس والحلي والوشم.
في أوائل شهر أكتوبر من العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، توجهت بأبنائها الثلاثة (هيثم، عبد الكريم، سالم) إلى مقر الحاكم الترابي الذي تنتمي إلى نفوذه قبيلتها. دخلت، وهي تغالب الدمع المنبجس من مآقيها. استقبلها مسؤول مختص اسمه عبد الصمد وهو نائب الحاكم ومكلف بالنزاعات والأمن الداخلي. طلب منها الجلوس واسترجاع أنفاسها قبل طرح طلبها أو مشكلتها. قدمت أبناءها له، واستأذنته، لثمتهم في خدودهم بعطف وحنان كبيرين، ومسدت شعر الطفل الصغير الحريري، وطلبت من صديقتها المفضلة، التي تربطهما علاقة إنسانية وحميمية قوية للغاية وترافقها أينما حلت وارتحلت، اصطحابهم خارج المكتب إلى حين الانتهاء من عرض ملفها بكل حرية وبدون حرج لفلذات كبدها.
أنا سيدي ضحية زواجين مأزومين استحال استمرارهما بفعل ثقل الثقافة المجتمعية البالية، واستفحال الفقر في صفوف الشباب الحضري، واستمرار شيوع تمثلات الدونية تجاه المرأة. اشتد الحب في قلبي وحواسي من النظرة الأولى بالمهندس الزراعي سمير ابن عبد الغفور المكلف بتدبير شؤون أبيه الفلاحية. تقدم لخطبتي وسني لا يتجاوز خمس عشرة سنة. اعتبارا لموافقتي المسبقة، صدع أبي وأخوتي للطلب احتراما واعتزازا بالمكانة البارزة لأسرة الخطيب ترابيا، طأطأوا رؤوسهم وقرؤوا الفاتحة بسرعة. احتفلت الأسرتان بهذه المناسبة وتم تنظيم حفل زفاف حضره كل أفراد أسر قريتنا بدون استثناء. التحقت ببيت الزوجية، بدون توثيق عقد الزواج، جد فرحانة بتحقيق حلم الزواج برجل متعلم خريج أحد المعاهد الهندسية بفرنسا.
شدة ولع الحب والعشق جعلتني منذ الشهر الأول أحمل في رحمي ابني البكر هيثم. بعد مرور الأيام الحلوة الأولى، المنعوتة تعسفا في عالمنا القروي»سبعة أيام الباكور»، انقلبت حياتي رأسا على عقب، لتتراكم بالتدريج مسببات استفحال الضب والطائلة والغليان والأوق بيني وبين أمه وأخواته، الوضع الرديد الذي كان يقابله زوجي وأبيه ببرودة واللامبالاة.
في كل صباح باكر تطلب مني حماتي مدججة ببناتها القيام بالأعمال الشاقة (كنس إسطبلات الحيوانات، وتنظيف المنزل والخروج للحطب، وتصبين الملابس، وطبخ الطعام، وحلب الأبقار والماعز باليد…). استمر نصب الفخاخ والدسائس والمكائد لزرع الغل بيني وبين زوجي. محاولاتي لتغيير الأوضاع أعيتني وأرهقتني وأنهكتني بسرعة. تحملت الضغوطات لمدة شهرين متكبدة مشقة وعناء مسؤولية الحفاظ على استقرار واستمرار زواجي وصون سمعة أبي بين ناس وأعيان القبيلة.
أصبت بنوبات عصبية وبانهيارات نفسية متكررة، وتوترت علاقتي مع زوجي بعدما اعترف لي بشكل متكرر أن لا هامش له لمعاكسة إرادة أمه وأبيه، ولا قدرة له للإنبراء لعادات وتقاليد ناس القرية وإغضاب والديه. انقياده، بالرغم من تعلمه، وراء الطقوس القروية البالية أصبح واضحا وضوح الشمس. أسنت علاقتنا، وعاث الشك والريبة صدق ونبل العواطف والحب، وكدر اشتداد الصخب صفوة روحين تحابا بصدق وولع وجنون. تقزز وابتأس مرارا في حديثه كلما واجهته بخنوعه واستسلامه لطقوس قاتلة، وكلما أسررت له أنني لو لم أغادر المدرسة تعسفا لكنت متعلمة مثله، معترفة له أنني لم أدخر جهدا في استثماري وقتي ومال أبي منذ طفولتي لأكون زوجة مصونة ووردة بروائح زكية، وأن أفلح في إسعاد زوجي بنعومة روحي وجسدي وعواطفي.
قبل ليلة زفافنا، كان تعامله معي في منتهى التحضر والرقة. لم أتصور يوما أنه لن يهتم بمنظري والعناية بجمالي. كنت مؤمنة أنه لن يتردد في تسجيلي في أحد النوادي الرياضية، واصطحابي بانتظام كل نهاية أسبوع إلى قاعات التجميل والصونا بالعاصمة، ومن تم تناول العشاء خارج البيت وقضاء ليلة تليق بالأزواج المتحضرين بعد العودة إلى منزلنا الحميمي. لم أتوقع أن مهندسا خريج معاهد حضارة الأنوار سيرضى أن يحول زوجته، أم ابنه الذي سيرى النور بعد شهور، إلى عاملة فلاحية.
آد علي الاعتداء واشتد، ولم يبق أمامي من خيار سوى هجرة صناع الإزعاج والسأم، لعلي أستدرك ما ضاع من شموخ طفولتي وجزء من سنوات مراهقتي. أحسست بالشغف لبهاء الأيام التي كنت فيها أغازل بحرية الشمس نهارا وأداعب ثريا الكون في الدجى. أعددت ووضبت حقيبتي، وعدت بسرية إلى بيت أسرتي بدون إخبار أحد. توفي أبي بعد شهرين من ذلك بسبب شدة تحسره على مصيري، لتلتحق به أمي بعد سنة من ذلك. وزع إخوتي الميراث وتكلف أخي الكبير بنصيبي. هجرت القرية مضطرة، واكتريت غرفة في سطح أحد المنازل بالعاصمة. ازداد هيثم وصرحت بولادته بأب مجهول واختار لي المسؤول عن الحالة المدنية اسم عائلي من منظومة الأسماء المقبولة في بلادنا واسم أب من أسماء العبودية.
أصبحت وحيدة وعمري لم يتجاوز بعد سن العشرين. سجلت ابني في روض للأطفال، واشتغلت خادمة منازل. فكرت ودبرت في الحماية الاجتماعية عندما يذبل الجمال وتكثر أعطاب الجسم بسبب التقدم في السن، ولم أجد من حل سوى الإكثار من الأبناء. اتخذت قراري وأصررت على الكدح بكلل وصبر من أجل تربيتهم في سن شبابي لأضمن الحماية في كبري لعلي أكتسب مناعة في مقاومة غدر الزمان.
تعرفت على شاب وسيم اسمه إسماعيل. كان يحرس السيارات ليلا. عاش معي في نفس الغرفة لمدة عشر سنوات بدون توثيق عقد الزواج. قرأ الفاتحة أمام صديقين له وتناولنا وجبة كسكس لذيذة، وأعلن إتمام شروط الزواج على سنة الله ورسوله. رزقت منه طفلين غاية في الجمال والرقة والحنان عبد الكريم وسالم، اللذان سجلتهما بدورهما في سجلات الحالة المدنية بمكان ولادتهما باسمين عائليين مختلفين من نفس المنظومة، واسمين لأبوين افتراضيين. اشتد خلافي مع إسماعيل (زوجي بالفاتحة) بسبب مطالبتي إياه برفع دعوى ثبوت الزوجية، ومنح نسبه لطفليه البريئين.
خوفا من المتابعات القضائية، وافتراض مطالبتي إياه في حالة النزاع وتوتر الحياة الزوجية بالحضانة ونفقة الأطفال، كان دائما يواجهني أن الحب الحقيقي هو تعبير قلبي بامتياز وليس بالوثائق، وأن زواجنا شرعي بحضور شاهدين مسلمين. حتى اللجوء لمسطرة الإقرار بأبوته لأبنائه رفضها لنفس السبب. افترقنا وراح كل واحد منا إلى حال سبيله.
أنا الآن أتحمل رعاية وولاية ثلاث أطفال بثلاثة أسماء عائلية مختلفة وثلاث أسماء آباء افتراضيين من أسماء العبودية. يزداد تأزمي النفسي كلما تلقيت مكالمة هاتفية من كلا الزوجين يسألاني عن أبنائهما من صلبهما بالكلام فقط. الإحساس بالندم أغرقني في مأساة دائمة. أسئلة أبنائي المتكررة نهارا سهلت انقضاض الأرق على روحي ونهش مخيلتي كل ليلة. يهجر النوم أجفاني ولا أغفو إلا للحظات قصيرة. تحملت الويلات وأدركت باقتناع تام أهمية المؤسسة الزوجية الرسمية، وفطنت دوافع المجتمع المدني النضالية لمقاومة زواج القاصرات، وما يسمى بالعلاقات الشرعية بدون توثيق عقود الزواج.
تصور معي سيدي، أن إحدى قريبات زوجي أفضت لي بعد مغادرتي بيت الزوجية أن والدي بعلي المهندس قد دبرا عملية تزويجي بالفاتحة لاختبار مدى استعدادي للتكيف مع مقاييس جمال المرأة القروية، التي لا تكتمل إلا بالقدرة على تحمل العمل الشاق.
اليوم سيدي، بلغ السيل الزبى.الأسئلة تتوالى يوميا على مسامعي خصوما من طرف ابني البكر. لم يقو على استيعاب وضعية أخوة بأسماء عائلية وأسماء آباء متباينة. هدفي كان هو تربيتهم وتعليمهم والاحتماء بهم من براثن الزمن وشرور البشر، ليقتصر اليوم همي على حمايتهم من الانحراف والعنف والانجرار لعالم الإجرام العشوائي أو المنظم. مستواي الدراسي لا يسمح لي بمرافقة حالاتهم النفسية. أطمح أن يتوج مسار تنشئتهم بالنجاح، ويصبحوا مواطنين صالحين نافعين لأمهم ووطنهم. أحتاج كأولوية إلى مساعدة قانونية وإدارية لتوحيد اسم الأب في رسوم ولادتهم واسم عائلي لحمايتهم من سخرية أقرنائهم في المحيطين السكنى والمدرسي. أشعر بالاختناق يوميا لعدم قدرتي على مواكبة التفاعلات النفسية لأبنائي معرفيا. لقد أدركت من خلال هذه التجربة المرة، أي بعدما سقطت في هذه الورطة المنهكة، أن الوقت قد حان في بلادنا لتقنين المواكبة الدائمة للأطفال من طرف أطباء نفسانيين. أتحطم كل ساعة عندما ينتابني شعور كون أبنائي قد يتحولون إلى مجرمين حاقدين على الأوضاع بسبب ما يتعرضون له كل يوم من نظرات ازدرائية وسلوك احتقاري واستصغاري.
آه من قصة مؤثرة، ردد عبد الصمد، نائب الحاكم. أخذ الهاتف بسرعة، وكثف من تواصله مع المسؤولين في الجهات العليا. فرحت علياء للاهتمام الذي لاقاه ملفها. هي مقتنعة أن الوضعية الهوياتية لأبنائها الثلاثة معقدة للغاية. تدخل بعد ذلك عبد الصمد سائلا إياها: هل ترغبين في منحهم اسمك العائلي؟ فأجبته بالرفض لأن ذلك بالنسبة لها سيعقد الوضعية أكثر.
إذن ما يمكن أن نتفاءل به كحلين مؤقتين، هو أولا تمسكك بالأمل والاستثمار في الوسائط الحبية لعل وعسى ينعم أبناؤك باعتراف زوجيك السابقين بأبوتهما، وثانيا إرسال كتاب رسمي إلى السلطات العليا في الإمارة مدعوما بطلب وملف كامل من أجل توحيد هوية الأبناء الثلاثة بتمكينهم مؤقتا وافتراضيا من اسم عائلي واحد واسم أب واحد.
هل أنت موافقة على هذين الحلين المؤقتين سيدتي؟ سألها عبد الصمد وهو منغمس في ذهول عميق.
أجابت: هذا كثير لم نألفه من قبل. أنت سيدي جعلتني انتصر على الإجحاف الذي أجهد صمودي وأخمد عنفواني الطبيعي.
طيب سيدتي، لا أنكر بدوري أنني استفدت من حواري معك. أرى أن فكرتك صائبة في شأن رفع استعطاف إلى السيد الأمير في شأن المتابعة النفسية للأطفال بصفة عامة، وضمان التأطير التربوي المعرفي لآبائهم وأمهاتهم وأولياء أمورهم، وحتى لخادمات المنازل، مع إعطاء الأهمية القصوى لأطفال الوضعيات المعقدة.
شكرا سيدي على اهتمامكم بملفي وعلى ما أوليتموه من عناية. أخبركم سيدي أنني بالموازاة سأدق كل أبواب المؤسسات الرسمية والجمعوية في إمارتنا، مطالبة بتجريم الزواج بالفاتحة وتحويل اختبار الحمض النووي إلى مرجع قانوني لتحديد النسب من عدمه.
غادرت علياء مقر الحاكم. أحست بارتياح وسعادة عارمة بعدما عبرت عن مكبوتاتها ومعاناتها بكل حرية. أصيبت بالدهشة أمام الوجه الجديد لإدارة بلادها. امتدت على سريرها. نامت بسرعة ليداهمها حلم جميل. لقد رأت في المنام أن الأمير أعطى تعليماته الصارمة لاعتماد اختبار الحمض النووي لتحديد النسب وما يترتب عن ذلك من حقوق طبيعية للأطفال، وإتاحة الفرصة بأثر رجعي للأمهات العازبات أو المتزوجات بالفاتحة وأصحاب المصلحة لتقديم طلبات في الموضوع إلكترونيا وكتابيا إلى القضاء.
منبهرة بوقع التشريع والرقمنة على السلوك المدني للمواطنين، رأت في المنام كذلك إقدام زوجيها، سمير وإسماعيل، على الاتصال بها بسرعة فائقة، في اليوم الموالي الذي عقب التعميم الإعلامي لنشر التعديل القانوني الجديد، معربين عن استعدادهم لسلوك مسطرة الإقرار بالبنوة درءا للفضيحة والمتابعات.
تزويج وولاية مرة
الكاتب : الحسين بوخرطة
بتاريخ : 05/08/2021