العمل الجمعوي التطوعي من تحقيق المصلحة العامة إلى خدمة الغايات الخاصة
مرّ العمل الجمعوي التطوعي في بلادنا بمجموعة من المراحل التي أدت إلى تطوره وإلى إفراز العديد من الظواهر المرتبطة بهذا التحول، التي منها ما هو إيجابي ومنها ما هو سلبي. تطوع همّ مبادرات في مجالات عدّة، منها الديني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والوطني بشكل عام، في المجالين الحضري والقروي، وهو ما يدفعني للوقوف على بعض التفاصيل المرتبطة بهذا الموضوع وسأتخذ دائرة إيغرم بإقليم تارودانت نموذجا، حيث كان العمل الجمعوي التطوعي المسمى بالأمازيغية «تيويسي» ءاوسي ءاو سغاك، «ساعدني أساعدك»، في الحرث والحصاد والدرس، وفي جني ثمار اللوز وثمار أركان، في الأعراس، وعند الوفاة وفي الكوارث الطبيعية، ومن كانت طفولته وشبابه ورجولته في هذه الجهة وغيرها من جهات الوطن سيتذكر بالضرورة هذا الزمن الجميل.
زمن كان خلاله من يتحمّل مسؤولية جمع النقود لبناء مسجد ما، على سبيل المثال لا الحصر، فردا أو جماعة، ينطلق هو نفسه بالمساهمة ويقوم بهذا الواجب أحسن قيام، ونفس الشيء بالنسبة لمن تطوع للقيام بعمل اجتماعي يتطلب جمع تبرعات مادية لإنجاز مسلك طرقي أو غيره. وهنا نستحضر صفحات مشرقة في باب التطوع، فهل يمكن أن ينسى التاريخ مثلا ما قامت به جمعية علماء سوس برئاسة العلامة المختار السوسي فور حصول المغرب على الاستقلال بمشاركة تجار من المنطقة أمثال المرحوم الحاج عابد السوسي، أولئك بعلمهم وغيرهم بمالهم قاموا ببناء المعهد الإسلامي بتارودانت، معهد محمد الخامس حاليا، وبواسطته أنقذوا مئات من طلبة المدارس العتيقة من حفظة القرآن.
في ذاك الزمن الجميل كان الكل يساهم حسب إمكانياتهم، المثقفون بثقافتهم يقومون بإلقاء الدروس بإخلاص منقطع النظير يسابقون الزمن للوصول إلى القافلة الثقافية، خاصة بجامعة القرويين بفاس وابن يوسف بمراكش، فقد كان الكل يحاول العمل بالمقولة التاريخية للمغفور له محمد الخامس «خرجنا من الجهاد الأكبر إلى الجهاد الأصغر». زمن تميز بالإخلاص، شهدت خلاله منطقة سوس عملا تطوعيا فريدا من نوعه، أخص بالذكر الجانب الديني المتمثل في بناء المساجد وتمويل طلبة المدارس العتيقة بمعدل مدرسة لكل قبيلة، حيث كانت تتطوع مجموعة من سكان القبيلة بجمع النقود لدى المحسنين من أبناء القبيلة وأحيانا من أبناء القبائل المجاورة، بل وكانت تخصص نسبة من العشور الخاصة بالشعير واللوز وزيت أركان، لكن يا ليت هذا الأمر لم يكن، فسرعان ما تم استعمال هدف بناء مساجد وتمويل مدارس عتيقة وسيلة عند البعض لوضع اليد على مبالغ غير مستحقة يتم جمعها دون وصولات استلام وبعيدا عن المراقبة والحساب، حتى أضحى الجميع يتابع كيف أن شخصا أو أشخاصا تكفلوا بجمع تبرعات، وبعد بناء مسجد ما تم على بعد مسافة بسيطة منه تشييد منازل «فارهة» خاصة بالمعنيين بالأمر، وأصحابها لا يتوفرون على الإمكانيات التي تتيح لهم ذلك؟
وضعية تتسبب فيها الثقة المطلقة لعدد من المحسنين، الذين يتعاملون للأسف بكل عفوية وبحسن نية مع كل من ادعى جمع تبرعات لفائدة مدرسة عتيقة وطلبتها دون التأكد من وصول ما يتبرعون به للجهات المتبرع لها، وهذا لا يلغي أن هناك فعلا مدارس عتيقة تواصل مسيرتها بفضل المسيرين لها وبتبنيها للبرامج الجديدة التي تجمع بين المواد القديمة والعصرية الحديثة، لكن إلى جانبها هناك من يستغلون الحسّ الديني لدى المحسنين كل سنة وفي كل مناسبة، دون حساب أو رقيب، كأن وزارة الأوقاف والسلطات المحلية غير معنية لما آلت إليه بعض المدارس العتيقة في المنطقة؟
إن الحديث عن المدارس العتيقة يحيلنا لاستحضار نموذج المدرسة العتيقة لسيدي إبراهيم بن عمرو التي أسسها الولي الصالح سيدي إبراهيم بن عمرو والد سيدي محند بن إبراهيم التامانارتي، التي أدت وتؤدي واجبها لما كانت قبيلة اداوزدوت تموّل طلبتها بما يحملونه لها من شعير وهدايا. مدرسة تخرّج منها العشرات من حفظة القرآن، وتكونت جمعية المدرسة العتيقة للتعليم الأصيل بعد تخلي الساكنة عن الحرث والحصاد وأخذت تعتمد في تسييرها على المحسنين ممن عاشوا وعايشوا ازدهارها، أضف إلى هذا أن المحسنين الذين يساهمون عن حسن نية مع كل من يجمع لبناء مسجد لتمويل مدرسة عتيقة، فبالأمس البعيد والقريب لم يكن يستطيع أحد أن يطمع في الاستيلاء على ما تم جمعه لبناء مسجد أو لتمويل طلبة مدرسة قرآنية.
ويتابع المهتمون بشؤون المنطقة اليوم وضعية هاته المدرسة، والتقلبات التي عرفتها بتغير المسيرين لدفة شراعها، منذ خطوة اقتناء بقعة أرضية بمدينة ايت ملول التي تم جمع تبرعات مادية للإقدام على ذلك من عند الساكنة والمحسنين من القبائل المجاورة، خاصة بالدارالبيضاء، والطريقة التي تم اعتمادها في ذلك خلال الفترة ما بين 1992 و 2017، مرورا بالسعي لبناء منزل يتكون من طابقين وبمحلات يوجّه لأغراض تجارية، فيتم تأجير الكلّ على أن تستثمر المداخيل للتكفّل بطلبة المدرسة العتيقة حيث تم بالفعل جمع التبرعات لهذه الغاية كذلك، دون إغفال لحظة انقسام الجمعية الأم المسيّرة ليكون الجميع أمام جمعيتين وأمام سؤال الجهة التي توجد في ملكيتها الفعلية البناية المشيّدة؟
وضعية تثار بشأنها علامات استفهام عديدة، تسائل نبل العمل الجمعوي والتطوعي بشكل عام وفي كل الفضاءات الترابية، وهو ما يستدعي التدخل لتنظيم ومراقبة ومساءلة كل من يتحمل المسؤولية في هذا الباب، ويفترض بالمقابل كذلك تقديم أجوبة بخصوص ما أثير حول المدرسة العتيقة بأيت ملول لتبديد كل غموض ولبس وتوضيح المعطيات بكل شفافية لتعزيز المصداقية وتكريس الثقة في المبادرات الصادقة التي تسعى لخدمة المصلحة العامة.