تعديلات لا حصر لها في الأسماء القائمة على رأس مختلف الأجهزة والمديريات ذات العلاقة بالأمن الداخلي بالجزائر، مصحوبة بموجة من عمليات التصفية و الإعفاء و الاعتقالات، مما ولد حالة من عدم “الاستقرار المزمن” الذي يضر كثيرا بوكالة الاستخبارات، ويساهم في زعزعة منظومتها الداخلية و زرع عدم الأمان في المنتسبين إليها. كيف لا، و هم في كل مرة يعيشون التخوف من مقامرة جديدة للرئيس الجزائري، قد تعلي من شأنهم أو قد تحيلهم إلى رفوف النسيان، هذا في أفصل الحالات، و في أسوئها ستسكنهم السجن أو القبر حتى، وهكذا ستستمر عجلة روليت المقامرة الأمنية في الجزائر في الدوران..
في حلقة جديدة من الفوضى التي سادت أجهزة المخابرات الجزائرية لمدة سبع سنوات، تبادل كل من «عبد الغني راشدي» و «جمال كحال مجدوب» اللذين كانا حتى الآن على التوالي رئيسا للأمن الداخلي والخارجي مناصبهما معا، (كما يفعل التلاميذ في المدارس الابتدائية خوفا من مدرسهم)، حيث أعلنت الحكومة الجزائرية عن تغيير الأدوار بين مختلف إدارات الاستخبارات الوطنية، بـ»حجة الحفاظ على استقرار قيادتها»، كما جاء في البيان الصادر عن وزارة الدفاع الجزائرية (التي يترأسها الرئيس الجزائري) الذي أعقب المرسوم الجمهوري الذي ينص على «تبادل مديري كل من جهاز الأمن الخارجي والداخلي لمناصبهما معا».
روليت مقامرة الرئاسة الجزائرية!
وقد تم هذا التغيير المفاجئ (بالرغم من التسريبات التي كانت قد أكدته مسبقا)، في حفل أشرف عليه رئيس الأركان «سعيد شنقريحة»، وبحضور الجنرال «جمال كحال مجدوب»، المسؤول إلى الآن عن الأمن الخارجي، والذي سيحل محل «عبد الغني راشدي» على رأس المديرية العامة للأمن العام، في حين يتولى الأخير منصب رئيس لجهاز الإستخبارات الجزائري.
من جهتها، لم توضح الجزائر العاصمة الأسباب التي أدت إلى هذا التغيير على أعلى مستوى في أجهزة الإستخبارات في البلاد، غير أنه من الواضح أن هذه الحركة ليست سوى جزء من سلسلة طويلة (غير مفهومة في المجمل) من عمليات التسريح والاستبدال في منظومتها الأمنية الداخلية، وما تعكسه من عدم الاستقرار العام في صفوف الجيش الجزائري وأجهزة الأمن الداخلية.
يأتي هذا التعيين بعد شهرين فقط من تعيين مجدوب في منصبه السابق كمدير لـ»جهاز الأمن الخارجي»، حيث عين في 14 من ماي الماضي خلفا لـ»نور الدين مقري»، تزامنا مع إضفاء الجزائر العاصمة الطابع الرسمي على مهمتها الجديدة، بينما كان راشدي يقود مكافحة التجسس منذ عام 2020.
وقد أصبح إحداث التغيير على رأس مراكز الاستخبارات الرئيسية في البلاد هو الروتين المألوف، حيث وصلت وتيرته إلى 7 مديرين يختلف بعضهم عن بعض في «أحدث مقامرة للجزائر لوضع جهاز الاستخبارات في البلاد في الطريق الصحيح». ويعتبر جهاز الأمن الخارجي الجزائري (المعروف باسم مديرية الوثائق) ، أهم وكالة استخبارات في البلاد، ولها دور خاص في الظرفية الحالية الصعبة التي تمر منها الجزائر، خاصة في ظل السياق الحالي للتعبئة الشعبية وضعف النظام الجزائري والانتقالات الداخلية فيه، حيث يعتبر التجسس عل النشطاء السياسيين والإعلاميين ذا قيمة خاصة بالنسبة للجزائر العاصمة.
يعرف عن اللواء مجدوب، عمله في كل من جهازي الأمن العسكري والرئاسي، إذ كان على رأس إدارة هذا الجهاز الحيوي منذ سنة 2015، وتدرب و تخرج من المدارس العليا لأجهزة الإستخبارات الفرنسية والروسية، كما عمل في «مدرسة الاستخبارات» في العاصمة الجزائرية، ناهيك عن مشاركته في العديد من البعثات الدبلوماسية الجزائرية في بلدان مثل «إيران» و»سوريا» و»لبنان» و «اليمن» و»فرنسا». تدرج بعدها مجدوب، حتى أصبح مسؤولا عن الأمن الشخصي للرئيس الراحل «عبد العزيز بوتفليقة» في عام 2004. لكن بعد حادثة إطلاق أعيرة نارية على مقر إقامة الرئيس في مدينة زرالدة سنة 2015) تحطمت حياته المهنية لفقدان منصبه بعد أن تلاشت شعبيته في حاشية الرئيس السابق.
وبعد سبع سنوات قضاها في طي النسيان، عاد مجدوب منتصرا من جحيم النبذ، حيث عينه الرئيس «عبد المجيد تبون» رئيسا لمديرية الوثائق في البلاد. وبعد شهرين من ذلك، تم تعيينه في منصبه الجديد. ولهذا، يمكننا القول إن اللواء مجدوب سيحتل الآن ما لا يمكن وصفه إلا بـ»أنه أهم منصب إستخباراتي في الجزائر»، ما يعكس مدى مقامرة الرئيس الجزائري و القيادات التابعة له في توظيف شخصيات عرفت بماضي أسود أو تشوبه الأخطاء في مناصب حساسة جدا في البلاد، لا لشيء سوى لتحقيق شيء من الاستقرار في الأمن الداخلي و مجال مكافحة التجسس..
عدم إستقرار مزمن..
شهدت المخابرات الجزائرية في عام 2015، بداية العشوائية والفوضى في تولي مناصب بها أو في طريقة عملها على العموم، حيث قام بوتفليقة بتطهير الرجل الذي ترأس إدارة الاستخبارات والأمن لأكثر من عقدين من الزمن، ونقصد الجنرال الغامض محمد مدين (المعروف أيضا باسم توفيق) المزداد في 14 ماي 1939، و هو شخصية ذات نفوذ وسلطة كبيرين، واستحق لقب «سيد الجزائر» على غرار عنوان رواية لـ»جون لو كاريه»، نظرا لسلطته الهائلة في ظل النظام السابق. غير أنه جرى إبعاده بعد موجة من عمليات التطهير التي فسرها الخبراء بأنها «صراع على السلطة بين الدائرة المقربة من الرئيس السابق بقيادة شقيقه سعيد، ودائرة الاستعلام والأمن القوية»، إلا ان هذا الصراع على السلطة كانت الغلبة فيه لصالح بوتفليقة، ليتحول جهاز الاستخبارات الذي كان يعتبر في السابق «دولة داخل دولة»، تحت السيطرة الحديدية للرئيس الذي وضع الجنرال «بشير طرطاق» على رأس قياداته.
بعد عام من الأحداث أعلاه، قامت الحكومة الجزائرية ببساطة بحل «دائرة الاستعلام والأمن» واستبدلتها بالهيكل التنظيمي الحالي، حيث يتولى جهاز تابع لوزارة الدفاع يسمى ب»تنسيق الأجهزة الأمنية» مسؤولية إدارة 3 مديريات منفصلة، و هي: «المديرية العامة للأمن القومي» المسؤولة عن التجسس في الخارج، و»المديرية العامة للدفاع» المسؤولة عن مكافحة التجسس، و»إدارة الأمن الإلكتروني»، إلا أن هذه الحال لم تدم كثيرا.. ففي 2019، قلب الحراك الشعبي ضد قيادة البلاد المعروف باسم «الحراك الجزائري»، جهاز المخابرات رأسا على عقب مرة أخرى، ما جعل رئيس الأركان آنذاك «أحمد قايد صالح» أحد الأركان القوية في فترة حكم بوتفليقة، يقوم بإعفاء بشير طرطاق الذي اعتقل في 4 ماي 2019 بتهمة المساس بسلطة الجيش» و»المؤامرة ضد سلطة الدولة، لتوضع المخابرات في البلاد تحت القبضة الصارمة للجيش.
ومنذ ذلك الحين، تحدث ولا تزال تعديلات لا حصر لها في الأسماء القائمة على رأس مختلف الأجهزة والمديريات ذات العلاقة بالأمن الداخلي بالجزائر، مصحوبة بموجة من عمليات التصفية و الإعفاء و الاعتقالات، مما ولد حالة من عدم «الاستقرار المزمن» الذي يضر كثيرا بوكالة الاستخبارات، ويساهم في زعزعة منظومتها الداخلية و زرع عدم الأمان في المنتسبين إليها. كيف لا، و هم في كل مرة يعيشون التخوف من مقامرة جديدة للرئيس الجزائري، قد تعلي من شأنهم أو قد تحيلهم إلى رفوف النسيان، هذا في أفصل الحالات، و في أسوئها ستسكنهم السجن أو القبر حتى، وهكذا ستستمر عجلة روليت المقامرة الأمنية في الجزائر في الدوران..