تكريم استثنائي للفنان أحمد بن اسماعيل بمراكش.. «نْزَاهَة» باذخة في حديقة الصور..

 

حشد غفير أحاط الفنان أحمد بن اسماعيل بفيض من المحبة والاعتراف، في الحفل التكريمي الذي أقيم لشخصه يوم الأربعاء 29 يناير 2025 بمعلمة “دار الشريفة” في عمق حي المواسين بمراكش. أصدقاء من كل أطياف التعبير الأدبي و الفني و العمل السياسي، من مدن مختلفة، جمعتهم المحبة العميقة و الاحترام الكبير لشخصية استثنائية زادها المثابرة من أجل التقاسم و المحبة و الإبداع.
الحفل التكريمي الذي كان برعاية الباحث في التراث عبد اللطيف آيت بنعبد الله، و بمبادرة و تنسيق الناقد و الباحث حسن لغدش، كان لحظة باذخة من الالتحام الودود من أجل تقديم تحية لمسار غني من الإبداع في ضفتي الصباغة و التصوير الفوتوغرافي، و بناء الصداقات و صونها، و توثيق الذاكرة و إغناء الأرشيف البصري الوطني بما يقاوم النسيان و يدحض الحجود و التنكر.
وتكاملت كل عناصر الجمال و العفوية الصادقة و الحماس في هذا الحفل، من شهادات مؤثرة لعدد من أصدقائه، و عرض تشكيلة من أعمال تمثل تطور مسار أحمد بن اسماعيل الفني في التصوير و الصباغة، و شذى باذخ لفن الملحون من خلال أداء مجموعة أمنزو، وأساسا التفاف دافئ من الجمهور المتنوع الذي جمع بين الرجل البسيط و المثقف، حول الفنان المحتفى في لحظة غنية بمعاني الاعتراف و التقدير.
في الشهادات التي قدمها عدد من أصدقائه، ظهر أحمد بن اسماعيل عملة نادرة من اليقظة الفنية اتجاه رصيد الذاكرة، حيث يصعب ـ كما قالت الأستاذة صوفيا التباع ـ أن نفصل فيه ما بين الفنان و الإنسان، لأنه ظل وفيا لحرفة الحياة التي يتقن بجمالية خاصة، ضاعفها بالحفر العميق الذي مارسه في اشتغاله الفني كرسام و مصور فوتوغرافي.
الشاعر والروائي حسن نجمي قال عن أحمد بن اسماعيل في شهادته التي تضمنها كاتالوغ التكريم ” عرف سي أحمد كيف يصون ذاكرتنا المشتركة، و كيف يرعاها، و كيف يغذيها بفيض محبته.” و أضاف” دائما كان للفنان الصديق أحمد بن اسماعيل الوفاء الذي يتقاسمه، و الصفاء الذي يتساهمه معي ومع أصدقائه الخلص، و لكم اختلطت ثقتي به بثقتي بي، بتعبير أبي حيان التوحيدي عن الصداقة والصديق. إنه من طينة نادرة. صمته أكثر من كلامه، و كلامه يحفظ الغيب و يستر العيب. وأجمل من كلامه حرصه على الفعل الداعم، الملتحم المتضامن مع أصدقائه”
و بخصوص تجربته الفنية قال حسن نجمي عن الفنان أحمد بن اسماعيل ” في معارضه الفنية، تشكيلا و فوتوغرافيا، كان خياره يستند إلى تعددية تعبيرية انتبه إلى قيمتها صديقنا الكبير الراحل إدمون عمران المليح، خصوصا في بعدها الثقافي و الاجتماعي، و ذاكرتها التاريخية و العائلية؛ اللوحة و الصورة و ما تحتشدان به من أفكار و علامات و شذرات وكائنات و رموز و أشياء و وجود.”
” خلال العقود الثلاثة الأخيرة، برز اسمه كأحد أهم التشكيليين المغاربة المعاصرين” يقول الشاعر و الفنان عزيز أزغاي في شهادته عن صديقه أحمد بن اسماعيل، الذي تكاد لوحته تكون ذات ملامح و بصمة خاصتين في مدونة التصوير الصباغي المغربي المعاصر، من حيث موضوعاتها و بناءاتها الأسلوبية و معجمها التلويني و علاماتها الغرفيكية التشخيصية. ” لمسة أحمد بن اسماعيل، حرّيفة، يقول أزغاي، بما يميزها من نفس تجريبي لا يعرف التردد و لا يستسلم لعسر بداية التصوير أمام بياض السند.”
الباحث مصطفى النحال قال عن المحتفى به في الشهادة التي ألقاها في حفل التكريم ” يكاد أحمد بن اسماعيل أن يقول لنا إن الجميل، في الرسم كما في التصوير، يوجد بالقرب منا، يكفي فقط أن نكشف عنه خارج الحركات الفنية المدرسية و التقليعات المستلبة. ”
و أضاف النحال” في الفن كما في الحياة، يبقى مولاي احمد عفويا وبسيطا. و تلك قوته التي لا تقاوم، و هي قوة تعلمنا أن المدخل إلى الحداثة الفنية يمكنها كذلك أن تمر عبر التنقيب في الموروث الثقافي و الحضاري المحلي.”
و قال النحال عن خصوصية المنجز الفني للمحتفى به:” إن أحمد بن اسماعيل لا يرسم و لا يلون إلا ما يستشعره و يستحضره من خلال ذاكرته الفنية المحلية لكي يجعلنا نستشعر بدورنا و نستمتع بكل ما هو جميل و عميق في ثقافتنا المغربية. إنه فنان يغرد بمفرده، لذلك تراه دائما بعيدا عن التحالفات الفنية والشلل الزائفة، بعيدا عن الخدع الزائفة، و بعيدا عن كل أشكال الادعاءات الثقافوية التي تحتفل بالمفاهيم أكثر ما تحتفي بالفن التشكيلي.”
و من زاوية استكشاف رمزية الواقع و واقعية الرمز في أعمال أحمد بن اسماعيل، أوضح الناقد و القاص محمد اشويكة في الشهادة التي تضمنها كاتالوغ التكريم، أن أعمال أحمد بن اسماعيل، الصباغية و الفوتوغرافية، انشغلت بتقليب الحقيقة الفنية المنفلتة على أوجهها الممكنة، وخصوصا وجهها الواقعي و الرمزي، و كأن كلاهما قناعا للآخر، وذلك مع وجود فوارق متفاوتة بين العمل الفني الصباغي و نظيره الفوتوغرافي. وأضاف اشويكة ” يحمل الفنان بن اسماعيل آلته المصورة، أو تحمله، أينما حل وارتحل، فهي صديقه الحميم، إن لم نقل عينه الثالثة التي يرى من خلالها العالم و يرصد تحولات مراكش السائرة نحو أفق لا يمكن التكهن به بالنظر إلى الصور القديمة التي تحويها ألبومات الفنان المتراكمة بدء من مسقط رأسه و حومته التي رأى فيها تموجات الظل والنور، و سحنات الناس، وتباينات الألوان المغراء، و أصوات المدينة، ودوائر الفرجة في ساحتها العظيمة. ”
و أبرز محمد اشويكة أن صور الفنان أحمد بن اسماعيل تستحضر لحظات قوية من تلك القوة الطبيعية العظيمة التي تتمتع بها الحياة كي تصير طافحة التعبير و الدلالة.
و في شهادته التي عنونها بصندوق بن اسماعيل العجيب، قال الكاتب يوسف فاضل عن الفنان المكرّم ” في رأسه ألوان وخيوط كانت تتحين الفرصة لتعبر عن نفسها. تنتظر الخشب الملائم لتضع عليه أشكالها و ألوانها. و هذه الأشكال و الألوان لن تعرف أبدا متى اجتمعت و اكتملت. الأكيد أنها كانت في ذهن الرسام حتى قبل أن يعرف. حتى قبل أن يدرك الرسامَ الذي سيكون.”
و اضاف يوسف فاضل في شهادته” الألوان لا تأتي إليك لأنك ترغب فيها. حتى ولو رغبت فلن تحصل عليها. الألوان تأتي لأنها كانت هنا من قبل أن يفكر فيها. إنها لا تأتي. الرسام هو الذي يسير إليها. لأنها ألوان الطفولة. و ما قبل الطفولة. ألوان الأسوار و الأقمشة المعلقة على دكاكين السمارين. أضرحة الأولياء و بركتهم. و اللون النحاسي لذلك الهدهد الذي يتمايل فوق رأس العطار. كل الألوان التي اندثرت و بقيت عالقة في الذاكرة تنتظر من يحييها على القماش لتظهر جديدة، مبتكرة.”
و عن تجربته في فن الفوتوغرافيا، قال الفنان و الباحث جعفر عاقيل ” انخرط بن اسماعيل، إلى جانب فوتوغرافيين من جيله، في إثارة كومة من الأسئلة من قبيل ما معنى الكتابة الفوتوغرافية؟ و كيف يمكن للفوتوغرافي أن يكتب، بنظرته الفوتوغرافية، تفاصيل الحياة اليومية المغربية؟ ثم ما هي العدة و اللغة الفوتوغرافية التي على الفوتوغرافي امتلاكها؟ و قبل ذلك أي فوتوغرافيا قادرة على تمثيل الذات المغربية؟ و ما الجدوى من الفوتوغرافيا في زمننا المعاصر؟ ”
و أكد عاقيل أن بن اسماعيل حقق ريادة و تفردا من خلال توثيقه لوجوه مغربية و أخرى أجنبية أسهمت في في كتابة تاريخ الحركة الثقافية و الفنية بالمغرب. فألف خزانة فوتوغرافية متنوعة شاهدة على تظاهرات إبداعية و ملتقيات فكرية و عروض شعبية و خاصة وجوه مبدعين ينتمون لأومنة تاريخية و لحقول معرفية و لفئات اجتماعية متباينة. و قال في هذا الصدد ” إن ما ميز هذا العمل الأرشيفي الهائل هو نفاذ كاميرا الفوتوغرافي إلى جوهر ذات الموضوع المصور من خلال إبراز انفعالاتها و مزاجها و خاصة انشغالاتها الفكرية…”
أحمد بن اسماعيل و مراكش، وحدة حميمة، يكاد الواحد منهما يردد صدى الآخر. فهو كما قال الفنان عبد الرزاق بن شعبان ” بمثابرته فرض نفسه كمدون لسيرة المدينة، و صانع لبورتريهات أعلامها و بسطائها وزوارها، إنه يكلم الأسوار و يستخلص صمت أضرحتها و زواياها، و فضاءاتها الدينية التاريخية. و لأنه عارف جيد بروح المدينة الحمراء فقد وثق مواسيمها، و جلسات السماع فيها و أماسي الملحون. منهجه الفوتوغرافي يرتكز على توازن فعلي بين مستلزمات الفن و دقة الأرشيف.. أحمد بن اسماعيل عين مراكش.”
المبادر لهذا التكريم و منسقه الباحث حسن لغدش، أكد أن أحمد بن اسماعيل الشغوف بالتراث الحي ،يظهر من خلال عمله الفوتغرافي و التشكيلي انشغالا باستكشاف نمط من الوجود المتقاسم بين كل المخلوقات، فخلف الفوري الذي تلتقطه العين اليقظة للفنان هناك الأبدي، و خلف العلامات و الرموز المرئية للوحات، هناك وجود غير مرئي. حيث أن كل كائن يُلاقى و كل مشهد يلتقط، ينطوي على بُعد يتجاوز مظهره.
وجه آخر للفنان أحمد بن اسماعيل كشفته شهادة مولاي عبد العزيز الطاهري، فهو حاضن الذاكرة الحافظ لروحها و أصواتها و ألوانها و حكاياتها، بدء من حومته سيدي بن سليمان امتدادا في تخوم باقي أحياء مراكش العتيقة، الذاكر لأعلامها، و لقصص دروبها، المتوغل في نوادر حرفييها، و المالك لزمام الحكي والنكتة البليغة.
كشف هذا التكريم في مختلف تفاصيله المشحونة بالوفاء و العرفان، أن الفنان أحمد بن إسماعيل هو هذه الصداقة السخية للفن و الحياة ، و الروح التي تجعل كل ما تلمس قبسا من المحبة. لذلك لا غرابة أن نجد أن لاسمه صداقات وفية من المغرب وخارجه ، يأتون لمراكش خصيصا لمجالسته. إنه بشكل دقيق روح مراكش البهيجة، التي لا تملك سوى أن تنشر الحب و الفرح أينما حلت و ارتحلت. إنه مجد حقيقي لكل من عرفه أو صادقه.


الكاتب : مراكش: عبد الصمد الكباص

  

بتاريخ : 01/02/2025