« تنام الشمس في المغرب لكن لا أحد يعرف أين»

«كتابةُ السَّلْق والإدانة: عبد الله لغزار يبحثُ عن الشّمس الغاربة فينا»

 

«بالقراءة نحرّكُ الكتاب».
(…)
صدر في بحر هذه السنة ـ عن دار (فالية) للنشر ببني ملال ـ كتاب جديد للكاتب الفنّان التّشكيلي عبد الله لغزار، وضع له (تنامُ الشّمسُ في المغرب، لكن لا أحد يعرف أين) عنوانا، ووسمَهُ (بلَحَظاتٍ سرديةٍ) تصنيفا له في إطار التّجنيس الأدبي. ما يربو على مئتين وخمسين صفحة من القطع المتوسط مُقسّمة إلى ثلاثة أجزاء هي كلّ متن الكتاب، وُضعت له العناوين الفرعية الآتية على التّوالي: (أتنامُ الشّمسُ في المغرب؟)، (مِنْ تلقاء النّسيان)، (شكلٌ لا أحبّه).
تتّخذُ هذه اللّحظات السّردية ـ كما أعلنَ عنها صاحبُها ـ شكل اليوميات، فأغلب عناوين الكتاب مسبوقة بِتواريخ لأيام حقيقية، يوافق فيها زمن الحكي الزمن الحقيقي (14 أبريل 2021 حمّادي بن العربي بن قدّور/ 31 ماي 2023 ما أغبى اليوم وما أتعس الأمس …)، وغيرها تواريخ غير متبوعة بعنوان، باستثناء قليل لبعض العناوين مؤقّتة وغير مؤرخةٍ. بناء على هذه الكرونولجيا فإنّنا نستطيع أن نضع لزمن الحكيِ تاريخا يبدأ منِ 14 أبريل 2021، وينتهي بغشت 2023، وبحساب الزمن، فإنّ الحكيَ يستغرق عموما مدّة تُقدّرُ بسنتين وأربعة شهر.
منذ البدء ومنذ إعلان صافرة القراءة، يتبرّأ المؤلّف من قارئه وينأى بنفسه عن كلّ عقد قد يفكرّ القارئ في إنشائه، فيلقي في وجهه هذه الجملة التّحذيرية «هذا الكتاب لا يُسمنُ ولا يُغني من جو»، جملة مُنذرةٌ قد تعصفُ بكلّ توقّع أو أفق انتظار. لكنّ قارئ عبد الله لغزار عنيد مراوغٌ، يَعلمُ (مطمئنا) أنّه لأمرٍ ما أُشهرتْ في وجهه البطاقة الصّفراء المُنذرة، أنّه لأمر أيضا دخل المُؤلِّف غمار الكتابة ليكتُبَ: «كتابا لا يُعلّمُ أيّ شيءٍ»، «كتابا لا يُفكّر»، «كتابا لا ينفعُ»,
لمْ يكتبْ عبد الله لغزار كتابا، لكنّه صنعَ بركانا، من فوهته تتفجرّ حمم اللّهب الحارق، وبِلغة المجنون العاقل يحاورُ «مْعَيْط»، الاسم المصغّرُ تحقيرا وسخرية.
يندغمُ علال مع «معيط» مع «حمّادي بن العربي بن قدّور» مع «إدريس» عاشق الدلّاع (الدلاح)، ويندغم عبد الله لغزار مع هؤلاء كلّهم. يُسِرّ الكلام إلى الرّاوي (علال)، لكنّه يأخذُ بزمام القول في كلّ مرّة يسيرُ هذا الرّاوي ضدّ رغبته (إنّني أعلمُ آ علاّل أنّ هؤلاء الذين يكتبون تلك اللّافتات…) (ص116)، (آجي أعلال، هذه الأيام أسمعُ كثيرا الحديثَ عن النّضال والمناضلين) (ص118).
يُدير الكاتبُ الكلام على ألسنة «مجانين» عقلاء، وفي خضم هدير “الهدرة” يلقون باللّافا الحارقة، يقولُ أحدُهم «كُنتُ أرى كلبا أحمرَ اللّون يتبوّلُ على سور المدرسة» (ص10)، ويقولُ ثانيهم «اسْمع آسي علال، نعيش في مجتمع (خار)» (ص 23)، ويُضيف ثالثُهم «لمّا تزوّجتُ كنتُ جحشا…ولمّا صار عندي ثلاثة أطفال صرتُ حمارا عاقلا» (ص23).
وإمعانا في التّسخيف والإدانة والسّخرية، سيُفسَحُ لرجل تراثيّ مدسوس في كتاب (مُختارات شعراء العرب) لابن الشجري أنْ يلقي قوله المعروف، متوجّها إلى كلّ من المتلمّس وطرفة بن العبد، بينما يقتلُ القملَ منْ على خِرقه وفي يده خبزٌ يأكلُ منه، وهو يقضي حاجته (فقال الشيخُ، وما رايتَ من حُمقي ! أُخرِجُ خبيثا، وأُدخلُ طيبا، وأقتلُ عدوا) (ص122).
“مجانينُ»عقلاء من الهامش والسّقط واللقي، يعيشون عيشهم السّاقط المتآكل، يستطردون ويتداعى الكلام على ألسنتهم، ينقلونه من أقصى الشّرق إلى الشمّال المتطرّف، من “المصّاصة” (الفونتوز) إلى (الأسطقسات) إلى (المراحيض) و(الشُّرف) و(الدلاع)، تحسبُهم تافهين وهم أسلق النّاس لسانا.
يهيمنُ فضاء المدينة المفقودة على النّص كلّه، المدينة المُفتضَّة ذاتِ الجمال الآسر الذي عبث به العابثون ومكروا بها ليلا وتحت ضوء الشّمس السّاطع، الشّمس التي تُعاقبُ أبناءَها جرّاء هذا المكر والتواطؤ بالحرق واللّهب، غارَ ماءُ المدينة فنزّ عرقُهم وغدوا أجسادا متفحمّة.
في ظلّ (افتُقدَ الظلّ أيضا نتيجة الإسمنت الطّافح والاجتثاث المتواصل) هذا الوضع المأساوي يبقى الجبل المُطلّ على المدينة شاهدا على المدينة التي تغلي بأبنائها وتفور بهم، جبل (تصمّيت) العمود الذي يصلبُ على جدرانه المَرَقة والعصاة، فكما أنّ للمدن التاريخية جبالُها (قاسيون دمشق مثلا)، فلِبني ملال جبلها، (فنحنُ قبيلةٌ يكفيها الطّابق الأول، ويكفينا سطوحٌ مفتوحةٌ على السّماء وعلى جبل تصمّيت. لا معنى لبني ملال من دون جيل تصمّيت) (ص25).
تأخذَ اللحظات السّردية عند عبد الله لغزار شكل الاستطراد الذي لا يُعرفُ له مُستقر ولا قرار، كلمةٌ واحدة «طائشة» يسوقها الحوار قد تودي بهذا الحوار إلى وجهة لا يعود بها إلى نقطة البدء أبدا، هل هو الاستطراد (الجاحظيّ) ! أم هو حديث المقاهي !
إنّ ما نقف عندهُ أنّ الذي يأخذُ بناصيةِ الكلام (القول) سواء أكان (علال) أم (معيط) أم المؤلّف الحقيقيّ أو المؤلِّف الضّمني، يتعمّد هذا الانزياح والتّداعي إمعانا في خلخلة المفاهيم وهزّ المُسلّمات والدّعوة إلى إعادة التفكير في المعروف والجاهز والمُعطى والمُطمأنّ إليه.
من ( كتابة اليوميات) إلى (دور المدرسة) (ص 138)، ومن (الشّفاطة) إلى (المدينة المجنيّ عليها) (ص24/25) يُديرُ عبد الله لغزار الكلام على ألسنة شخصيات هذه اللّحظات السّردية، يدفعهم إلى تهييج المسكوت عنه ومناطحة الرّاقد الرّاكد.


الكاتب : عبد الحكيم برنوص

  

بتاريخ : 01/11/2024