تيمة الموت والمعتقد في رواية «في قلبي أنثى عبرية» لخولة حمدي

تقع» رواية في قلبي أنثى عبرية» للروائية التونسية الدكتورة خولة حمدي في 386 صفحة من الحجم المتوسط. صدرت سن 2013 الطبعة العاشرة عن دار كيان للنشر والتوزيع الجيزة، مصر.
ليس من بواعث هذه الورقة المتواضعة التصفيق لرواية أحدثت ولا تزال ضجة هائلة على مستوى القراءة و التأويل، وإنما مداخلة شبه بسيطة وأكثر من متهكمة تنأى عن السخرية في أبعادها وتجلياتها الثقافية الماتعة وضعت عليها يدي وعيني في أحد مواقع التواصل الاجتماعي يقول فيها … «ثم أسلمت الكاتبة وصاحب المطبعة والقراء وصاحب المكتبة عم «طلعت» الذي اقتنيت منه الرواية «.
تبدو القولة بريئة في ظاهرها القصد منها التسلية والترويح، لكنها ذات خطاب مزدوج تحمل دلالات عقدية تضمر بين ثناياها أكثر من سؤال على مستوى الإيمان والموت والحب والمقاومة والدين …
إن الارتباط المتين بين ثنائية الموت والمعتقد إن استساغ التعبير يجعل رواية» في قلبي أنثى عبرية» أشد واقعية أو على الأقل توهمنا بالواقعية، إذ تعزى المرجعية الذاتية والموضوعية لإنتاج الكاتبة لهذا العمل إلى تعرفها على بطلة القصة «ندى» ـ ما قبل الحكي ـ التي كانت تسرد قصتها على أحد المواقع الإلكترونية واستطاعت التواصل معها لمعرفة المزيد من التفاصيل .
تدور أحداث الرواية حول المجتمع اليهودي المسمى يهود العرب وعن المقاومة في جنوب لبنان وعن الحب والحرب والدين، حيث تحكي الكاتبة عن قصة حب نشأت بين البطلة «ندى» وأحد ابطال المقاومة «أحمد» وما نتج عن ذلك من صراع الأديان والتسامح ، دارت الأحداث بجربة التونسية ولبنان.
يخيم على الرواية شبح الموت الذي أصر على أن يخطف بعض شخصيات الرواية، بيد أنه ليست هناك أية خلفية فنية تتحكم في إخضاع الشخصيات لمعيار البرغماتية السردية، حيث يستهل السارد مشروع الموت في الرواية من خلال موت الطفلة الصغيرة «ريما» إحدى بطلات الرواية الرئيسية، بريئة معتنقة للدين الإسلامي تفكر بقيم التسامح وكل أشكال القيم النبيلة، وكما يقول «ميخائيل باختين» إن البطل في الرواية شخص يحمل قيما تسعى الى بناء المجتمع وليس إلى هدمه، «ريما» التي فارقت الحياة تحت رصاص وقنابل العدو الصهيوني يقول السارد: «لم تكن قد بلغت التاسعة من عمرها حين توفيت والدتها أما والدها فقد توفي قبلها بسنوات» ص 12 .
في عالم الرواية تشكل الكاتبة رؤيتها للحياة والكون عبر إعادة بناء المادة اللغوية التي تصنع الحدث، وبين الحياة والكون نصطدم بالموت كعنصر اعتباطي يخلخل المفاهيم ويدمر المنحى الدياكروني لسيرورة الأحداث والشخصيات، باعتبار الموت قاطرة للتلاشي والانهيار الروحي يقول السارد حول موت ريما :» دوى انفجار على قيد خطوات منها رأت أشلاء تتطاير وشظايا تتناثر . أغمضت عينيها وهي تكتم صرختها وقعت منها السلة وتساقطت حبات الطماطم على الأرض . حين دوى الانفجار الثاني اختلطت قطع الطماطم المطحونة بدم الشهداء» ص 156 .
إن وحدة المعتقد والإيمان كونه القاسم المشترك بين «ريما» و»ندى» هذه الأخيرة بطلة الرواية الحديثة العهد بالإسلام، جعلها تذرف دموع المحبة والإخاء من أجل هذه الصغيرة «ريما» لما تتساءل عن غيابها الذي طال فيجيبها أحمد: « أصغي إلي يا ندى …ريما استشهدت، ريما لم تمت لكنها حية ترزق عند الله « ص 162.
فإذا كان»جورج لوكاتش « يقول إن « الرواية ملحمة بلا آلهة»، فإن رواية «في قلبي أنثى عبرية» انتصرت لفعل اللاهوت المقترن بلذة الموت، إذ تتوالى المأساة بموت عائلة «ندى» بنمط اعتباطي من خلال حادثة سير التي لم تكن مقررة فنيا تحكمت فيها سلطة الأحداث الواقعية حسب «ميشيل فوكو»، وليست الواقعية كما يقول إدريس الناقوري في كتاب «المصطلح المشترك»: سوى واحدة من القولات العلمية الشاملة والموضوعية التي تلخص موقفا وفكرة صائبة … تؤكد نتائج واقع بشري وثمرة تجربة اجتماعية معيشة».
إنه واقع اليهود العرب بلبنان أو جربة التونسية، قاسمهم المشترك الموت تحت راية العقيدة الصحيحة من جهة نظر الفرد أو المجتمع ، يتجلى ذلك عندما تقوم «سونيا « بطرد ابنتها « ندى» لأنها اعتنقت الإسلام بعد تعرفها على «أحمد « بطل المقاومة، وهذا الجزء يمثل نوعا من الموت البطيء لأنه ظلم ذوي القربى، يقول السارد «على لسان « ندى» في رسالة الى أحمد : « أخي في الله أحمد ، رغم كل ما تعلمته عن الإسلام وكل ما قرأته، فإني أبقى بعيدة عن الإلمام بكل التفاصيل، أجدني في أحيان كثيرة عاجزة عن الرد عن كل الأسئلة والاستفسارات التي تواجهيني في محيطي، هناك أشياء أستشعرها بقلبي، لكن لا يمكن أن أوصلها إلى من حولي» ص 239. إنه ذلك المعتقد المبني على الإيمان المطلق، تصديق بالقلب واستسلام للإسلام فتصير لعنة الاختفاء والتلاشي الجميلة ممزوجة بمبادئ الدين الإسلامي وتيماته المطلقة المؤيدة لفعل الاستمرار الوجودي ، حيث يقابل إسلام « ندى» اختفاء «أحمد» والذي لن يظهر إلا بعد مدة طويلة، فاقدا لذاكرته خصوصا الجزء المتعلق بذكريات «ندى»، هنا إيمان « ندى» لم يكن ناقصا لأنها أنفقت مما تحب .
لكن الموت المؤسف والقاسي في نظر الكاتبة دون استحضار زوايا النظر المرتبطة بمعتقد الآخر في مقابل الأنا، هو موت عائلة « ندى» جراء حادثة سير أدت إلى وفاة كل من أخ ندى «مشال « و»جورج « الأب الذي رباها و «سارة» و الطفلين «كريستيان» و «غابريال»، الموت الذي ترك ندبة في قلب ندى لأنهم ماتوا على اليهودية ما أشعرها بالتحسر والأسف على مصيرهم .
ولعل مصداقية النص السردي في هذه الرواية تتجلى في ترك الحرية الفردانية على مستوى هاجس الانتقاء العقدي والثقافي، وهو ما يجعل رواية «في قلبي أنثى عبرية» تحظى بنصيب وافر من القراءات ذات المستويات المتعددة، يغدو فيها القارئ المؤلف الثاني للنص الروائي ومعيدا لإنتاج العمل الأدبي. إذ تتشابك الشخصيات وتتصارع لكنها تنفتح على الرأي الآخر وتتسامح مع الغير وهنا تكمن مقصدية هذه الرواية. يقول السارد: « أما ميشال الذي لم يكن الخبر جديدا عليه فقد لزم مكانه في صمت ، بعد لحظات من التفكير ، تكلم جورج برزانة وهو يزن كل كلمة من كلماته :
– مسلمة «وما الضرر في ذلك ؟ أنت ستظلين ابنتي على أية حال، وانا سأساندك طالما تدينين بديانة توحيدية « ص 232.
إن الموت المتحكم في تنامي الأحداث واختفاء الشخصيات هو موت الفكرة المتصلة بموت المعتقد، يصبح الإسلام ذاك المصباح البعيد الذي نقل شخصيات الرواية من عالم حيث اليأس وجهل الآتي، وكذا تلك الشخصيات التي لم تتخل عن اليهودية لأنها لم تتحمل موت الروح باعتباره مؤسسا للموت المادي، سواء ندمت على فعل التعصب الوراثي مثل « سونيا» أو تلك التي وقفت مع حرية اختيار الإسلام مثل «جاكوب»، هذا لأن شخصيات الرواية شخصيات مثقفة اختارت أن تبحث وتحلل وتفسر لتقتنع. يقول السارد على لسان ندى: «منذ زمن قصير، كنت يهودية مثلكم وكنت أتساءل إن كان المسلمون يكرهون اليهود … لكني حينها كنت أجهل كل شيء عن الإسلام، عدا ماتنقله شاشات التلفزة من معلومات مشوه ، هدفها تذكية لهيب العداء القائم بين أبناء الديانتين .اكتشفت في ما بعد أن الإسلام ليس ممثلا في آراء وتصرفات من يقولون إنهم يتحدثون باسمه، وكثيرا ما تحصل تجاوزات وانتهاكات ليس لها أساس في الإسلام والأمر ينطبق على هذه الهجمات الإرهابية. هؤلاء الانتحاريون الذين يعتدون على الشعوب الآمنة ويروعون السياح يجرمهم الإسلام ، كما تجرمهم المرجعيات الإنسانية كلها …» ص 228.
ومن نافل القول إن رواية « في قلبي أنثى عبرية « رواية الحب والمقاومة والدين بامتياز، توفقت فيها «خولة حمدي» إلى حد ما في إبراز عضلاتها وبسط ذراعيها على مستوى قضايا كانت إلى حد قريب محرمة وطابو غير صالح للنقاش وإبداء وجهة نظر أو رأي، دافعت عنها باستماتة ووفرت لها كل مقومات السرد الفسيفسائي الحديث المؤثث لسيميائية الحدث وتناميه.


الكاتب : حميد المعروفي

  

بتاريخ : 14/12/2021