ثقافة العهد الجديد الحداثية واجهت مقاومة شرسة من ثقافة تقليدانية

تقييم عقدين ونصف من التجربة المغربية في مجالات تنموية اقتصادية وسياسية ومجتمعية لا يستقيم دون استحضار الدور الثقافي ومجالات اشتغاله والأليات التي عززت من فاعلية هذا الدور في الفترة الزمنية المشار إليها . كيف تقرئين من موقعك كمثقفة وفاعلة سياسية وجمعوية مسار هذه المرحلة ضمن خيوطها التنموية بصفة عامة وضمن العامل الثقافي بصفة خاصة؟

أعتبر السؤال مركبا ، لكنه سؤال عميق في طرح المسألة الثقافية والنظر إليها من موقع مغاير للفهم الذي كان سائدا في فترات دقيقة من الزمن الثقافي المغربي.
فالتحول الذي انطلق مع العهد الجديد في النظر إلى المسألة الثقافية ووضعها في قلب المعركة التنموية يعد في حد ذاته بداية دالة واستراتيجية في مفهوم التغيير ، بإخراج الثقافة من أرض لإنجاز الفعل إلى عامل قوي لإنجاز الفعل ، مع ربط العامل الثقافي بالإنتاجية في المجتمع ، من خلال الرهان على الفكر والمعرفة والعلم في بناء المجتمعات وتغييرها، باعتبار الثقافة عاملا حيويا في تنمية المجتمع لأنها تعتمد العقل المجتمعي المتشبع بالفكر والثقافة بالتوجه إلى الانتماء للتراب الوطني كمشترك بين كافة الأفراد لتطويره وحمايته والترافع حول قضاياه ومصالحه ، ويصبح الانتماء هو القاطرة الصلبة للقاء الأفراد والجماعات حول الدفاع عن الفكرة من مواقع مختلفة.
ومن موقع التعدد الثقافي والفكري في المجتمع المغربي ، فإن رهان التدبير كان حاضرا في السياسة العمومية لبلادنا، لكن أجرأة هذا التدبير ضمن خرائط أكثر فاعلية ووضوحا ومعبر عنه في السياسة العمومية بدأ مع العهد الجديد الذي فتحت فيه ملفات كبرى أبانت عن حمولة ثقافية مختلفة وجريئة تعتبر الثقافة هي عوامل مكتسبة عبر العلم والمعرفة والوعي في علاقات الأفراد والجماعات وفي العلاقة بينهما وبين المؤسسات تم العلاقة بين المؤسسات نفسها ، مما يتضح جليا في ارتفاع منسوب المطالبة مع العهد الجديد بالنظر في ضرورة تغيير النص الدستوري والعمل على تفعيله بقوانين تنظيمية ملزمة للمؤسسات والأفراد والجماعات من أجل خلق مجتمع منسجم مع ذاكرته وتطلعاته ، في الهوية الثقافية ومنسجما مع انخراطه في حوار الثقافات والحضارات، صفا إلى جانب الدول التي تعتمد الإنتاجية إنطلاقا من ترسيخ الثقافة القابلة للنمو والتطور والتغيير وفق السياقات الزمنية والمكانية للنهوض بالمجتمع بثقافة مغايرة وفاعلة ومنسجمة مع تطلعات المستقبل.

أنت ترين أن فلسفة العهد الجديد ، هي المحفز لتصور ثقافي مختلف، يؤمن بأن الثقافة تعمل على تقدم المجتمع بتوفير بيئة ملائمة؟

إن مفهوم العهد الجديد يحمل في حد ذاته تطلعات التحول والتغيير لدى المجتمع المغربي الذي عبرت عنه نخب سياسية مناضلة في عقود الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات من أجل أفق ديمقراطي ودستوري مغاير أوصل هذه النخب لحد التصادم مع النظام .لكن العهد الجديد جاء بثقافة مختلفة عنوانها الإنصات والحوار من أجل انتقال سلس نحو توفير البيئة الملائمة لشرط ممارسة التدبير الديمقراطي ، وفعلا نجح العهد الجديد في طي سنوات الاحتقان السياسي والتوجه إلى إطلاق مشاريع الإصلاح بعناوين التنمية في كافة المجالات ومنها التنمية الثقافية.
ولا يمكن أن ننفي أن العهد الجديد بثقافته المختلفة والمعبرة على روح العصر والمنسجمة مع موقع المغرب الاستراتيجي ، وجد مقاومة من ثقافات تقليدانيةراسخة في الأذهان أفرادا وجماعاتومؤسسات، وهناك من رواسب التقليدانية المنغلقة على ذاتها والرافضة لأي تغيير أو تطور، وهي الثقافة التي وقفت سدا منيعا ضد التحول ، الشيء الذي تعامل معه المغرب الجديد ومازال بحكمة وتبصر، كي تصل سفينة التغيير إلى المرفأ دون أعطاب في محركها ، وهذا ما يميز بالفعل العهد الجديد في عملية خلق التوازنات في مشاهد التغيير الصعبة والمعقدة.

انطلاقا من السؤال الثقافي الذي نؤطر به هذا الحوار ، أي مغرب ثقافي أراده العهد الجديد؟

أنا اعتبر هذا السؤال جوهريا وأساسيا وهاما في قراءة المسألة الثقافية في العهد الجديد .
لقد ورث هذا العهد ثقافة معقدة وصعب تفكيكها للمرور إلى الإصلاحات الجوهرية المجتمعية والسياسية العمومية، وهو الإرث الذي تعامل معه العهد الجديد بكثير من الذكاء السياسي والجرأة في تفكيك خيوط التقليدانية نفسها دون الإرتماء المجاني في أحضان الثقافات المغايرة المشتغلة في جو ثقافي خاص بها.
لقد عمل العهد الجديد على الانفتاح على مطالب الأنسنة ضمن المشترك بين كافة الثقافات، و توجه العهد الجديد في هذا الصدد إلى خلق آلياته في التدبير ، فمثلا لطي ملف سنوات الرصاص ، أبدع العهد الجديد آلية الإنصاف والمصالحة، بثقافة جديدة ثائرة على تقاليد النظام ، من خلال الجهر ونفض الغبار عن الإنتهاكاتالجسيمة. وذلك عبر» إنشاء «هيئة الإنصاف والمصالحة» في يناير (كانون الثاني) 2004، بناء على قرار ملكي بالموافقة على توصية صادرة عن المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، والإعلان عن مفهوم جديد للسلطة الذي حدد من خلاله تصوره للكيفية التي سيحكم بها البلاد،»وهي إشارة هامة تكشف عن رغبة ملك البلاد في إدخال ثقافة جديدة على النظام السياسي المغربي بعدالة انتقالية ، ستتبعها عدالة أخرى مجالية وإنسانية وتدبيرية حددت في دستور 2011.

جاء في الرسالة السامية التي وجهها جلالة الملك إلى أعضاء أكاديمية المملكة المغربية بمناسبة افتتاح الدورة الأولى للأكاديمية في إطار هيكلتها الجديدة أن «تقدم المجتمعات لن يتم من غير نهضة فكرية وثقافية متجددة، ولن يتحقق إلا بتوفر بيئة ملائمة لإنتاج المعرفة، وأن تطور تلك البيئة رهين بمدى إسهامها في تنمية العطاء الحضاري؟

أعتبر هذه الإشارة في الرسالة الملكية والتي هي امتداد لكافة الخطابات الملكية حول المسألة الثقافية واللغوية في بلادنا منذ اعتلاء جلالته العرش. هي في قلب معركتنا الثقافية ، التي نتوخى منها أن تصبح عاملا للإنتاجية ، من خلال تغيير العقول الكفيلة بجعل التراث المعرفي والعلمي والعمراني والفني ينجز الفعل الذي أشرت إليه ، في التنمية الاقتصادية والثقافية والمجتمعية وأن تصبح الثقافة هي الفضاء الذي يقود الى النمو في مجالات مختلفة من العطاء الحضاري والفكري وخلق بنيات تشتغل على الانفتاح على الثقافات الأخرى من موقع هوياتي قوي وراسخ ، وملتقى لكافة الثقافات والحضارات بمنهجية متطورة ومنفتحة ومؤثرة تسوق تاريخها وذاكرتها بالتجديد والتمدد عبر القارات والمجالات بالشعر والرواية والمسرح والتشكيل والسينما والرقص والفنون وعروض الأزياء والتصوير الفوتوغرافيوالتراث الفكري والعمراني وبكل المظاهر الأخرى في اللباس والمطبخ وطرق العيش المختلفة في كافة جهات المملكة والتي تزخر بأنماط ينبغي تطويرها وتسويقها في قالب جمالي وفني مدروس وهادف.

هناك محطات بارزة ميزت العهد الجديد ، في المسألة الثقافية واللغوية ، هل إطلاق هذه المحطات وجد انسيابه في المجتمع الثقافي أم أن العوائق التي أشرت إليها تجعل هذه المحطات في غرفة الانتظار دون خلق سياسة عمومية لتدبيرها؟

لقد حرص العهد الجديد على اطلاق مشاريع اصلاح هامة واستراتيجية سواء تعلق الأمر بالمسألة الثقافية أو اللغوية ، من منطلق تطوير المشترك الثقافي وصيانة التنوع في الهوية المغربية و الحفاظ على التراث الثقافي اللامادي وتأهيله، كما أطلقت مشاريع هامة في مجال النشر ودعم الكتاب والمسرح ، لكننا مازلنا لم نرتق إلى مستوى تطلعاتنا في السياسة العمومية إزاء التعامل مع الثقافة كمجال خصب وفضاء مهم للإشتغال على الجانب التنموي، فالسياسة العمومية الثقافية ليست فقط بنايات من الآجور والإسمنت إنها اشتغال على الموارد البشرية الكفيلة بحمل مشعل التغيير واشتغال على البيئة الحاضنة للرؤى المستقبلية لهذا المنحى في العهد الجديد الجريء والمتطور في التعامل مع الفعل والفاعل الثقافي .
فالثقافة المغربية غنية بعربيتها وأمازيغيتها وتأثيراتها التاريخية في مجالاتها الإفريقية والمتوسطية ، وهذه التأثيرات كفيلة بخلق مجالات للتطور والنمو والتقدم ومن شأن الأوراش _ التي دشنها العهد الجديد على التوالي والتي عززها دستور 2011، الذي نص على أن «المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبّثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية”، وعدّد روافد “الشخصية المغربية” التي وحّدها انصهارُ “كلّ مكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية”، وأغنتها “روافدها الإفريقية، والأندلسية، والعبرية، والمتوسطية» _ أن تدعو إلى ضرورة وضع سياسة عمومية تعمل على تفعيلها بشكل بخرائمدروسةمن خلال ممارسة ثقافة القرب لخلق النمو في كافة التراب الوطني .

لا يمكن الحديث عن التحولات في مفهوم المسألة الثقافية في مغرب العهد الجديد دون استحضار حكومة التناوب ، ما هو تقييمك للورش الثقافي في هذا الزمن من تاريخ الحكومات المغربية؟

عموما يمكن اعتبار زمن التسعينيات زمنا ساخنا بين المعارضة والدولة أسندت فيه الحكومة لشخصية، تعد خصما تاريخيا للدولةهنا نتحدث عن عبدالرحمان اليوسفي..
دلت عدة بوادر عن هذا الانفتاح الديموقراطي ، منها الافراج عن المعتقلين السياسيين وإحداث المجلس الاستشاري لحقوق الانسان وتوسيع نطاق الحريات العامة.
– سمي هذا الزمن بالتناوب التوافقي لأنه تناوب غير مكتمل النصاب التشريعي بسبب:
افتقار الكتلة إالديموقراطية إلى الاغلبية النيابية في تشريعيات 2002_ وحاجته الى نوع من التوافق في حكومة يقودها اليسار، بتوافق بين الكتلة والملكية والذي أملته ظروف سياسية داخلية وخارجية انتهت بميثاق ثقة شكلت القسم الهام في لعبة هذا التوافق التاريخي.
– انتهت تجربة التناوب بحصيلة كانت مثيرة للجدل ، كل يراها من موقعه الخاص ، فاعتبرها البعض أن المستفيد هو الانتقال السهل من العهد السابق إلى مرحلة العهد الجديد، باعتبارها مرحلة أحدثت تحولا في عدة مرافق:
ففي المجال الحقوقي ، تنصيب هيئة مستقلة لتعويض ضحايا الاعتقال والاختفاء القسري والاعتقال التعسفي و التسوية المالية للمطرودين والموقوفين لأسباب سياسية أو نقابية ، مع توسيع فضاء الحريات العامة ، منها تغيير قانون الصحافة و قانون الجمعيات والتجمعات ، مع ضمان نزاهة الانتخابات والتمكين السياسي للمرأة..
هذه التحولات في الفكر السياسيكانت رافعة ثقافية هامة في المغرب الجديد ، وبهذه المؤهلات النوعية أفرزت وعيا ديموقراطيا مهما ، على كافة المستويات ،
منها الوعي في إحداث تغيير مجتمعي هادف إلى الرقي بحمولة ثقافية جديدة، يشكل فيها الفاعل الثقافي دورا هاما في وضع خرائط ومشاريع مجتمعية بمنحى يجعل من الثقافة بندا أساسيا في عوامل التغيير والتقدم والتطور والنهضة.
وأصبحت الثقافة شرطا ملحا في هذه المنظومة الجديدة.

* عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية
رئيسة رابطة كاتبات المغرب وافريقيا


الكاتب : بديعة الراضي *

  

بتاريخ : 29/07/2024