يفرِض التشويه ذاته واقعا منيعا في وجودنا الآن، وتمسخ إبداعية الثقافة والفن ومواقعهما، وتغمم مواقفهما وظائفهما بلا حدود. لقد أفضت استراتيجية تحييد الوظيفة النضالية للثقافة والفن، إلى واقع بئيس لها، حيث صار الحقل يعج بالانتهازيين، والمتطفلين، ومن لا قناعة لهم غير البحث عن مداخل النميمة الثقافية، والانتفاع المادي، والتجوال الدائم في واجهات الإعلان، واستغلال الثقافة والفن للانتفاع الانتهازي غير المشروع.
صيرت استراتيجية التدجين المرتبطين أكثر بالثقافة والفن دعاة للمسخ، وعملت أجهزة الدولة الإيديولوجية على شرعنة الذوق الممسوخ، وجعله اختيارا مبجلا في السينما، والدراما التلفزيونية، والغناء، والكتابة، وعمقت العلاقة السائبة مع وسائل التواصل الاجتماعي هيمنة التفاهة والخواء، وأصبح التافهون ومن لا قيمة لهم أصناما مفروضة في مقدمة البرامج، وحديث الإعلام، واللقاءات والمهرجانات الثقافية والفنية. بسبب سلطة كل هذا، وتحكم المهيمن في واقع الثقافة والفن، وقوة استراتيجية المؤسسة المهيمنة في تدجين الفاعلين، ومسخ معاني كل شيء، صار الانسحاب من مواجهة القهر الثقافي والاجتماعي، ومقاومة ردم وظائف الثقافة والفن ممارسة من دون معنى، وبائدة، ومن صميم العبث.
أشياء عديدة تغيرت في واقعنا الاجتماعي، وقد يبدو الأمر طبيعيا حين نؤمن بأن التطور منطق يحكم المجتمع والحياة بالضرورة، إلا أن ما يبدو غير طبيعي نهائيا هو تضخم السلبية وتغول التفاهة، وهيمنة ميولات الانتهازية والارتزاق في الثقافة والفن، وانسحاب أطراف عديدة من مهمة التموقع في الصراع الاجتماعي، بل وإعلانها موت هذه الوظيفة، وتهافتها على تسخيف وتشويه أي حديث عن الصراع الاجتماعي والسياسي، والتموقع فيه، وعن الحاجة إلى دعم الخاسرين، وهذا ما يمكن التمثيل بوضعيات وأمثلة عديدة في مجالات الثقافة والفن.
لقد حضرت الانتهازية والتهافت، وبرز السفهاء والمتطفلون دوما في واقعنا عامة، كما اعتُبِرت مناصرة المقهورين مهمة مفلسة غالبا، وقد برز ذلك حتى في المجتمعات المتقدمة، وهذا ما لمَّح إليه يوما الكاتب الألماني «غونتر غراس»في حديث له مع أحد الأصوات الأكثر حماسة للدفاع عن المغلوبين نظريا وممارسة في أوروبا قُبيل رحيله، وهو «بيير بورديو»، حيث قال: «كلانا سيئ السمعة في مهنته، لأنه يقف إلى جانب الخاسرين، إلى جانب المهمشين والمنبوذين خارج المجتمع»، إنه أمر حدث دوما عندنا، وقد تم التعبير عنه بصيغ عديدة في العقود الماضية. حصل ذلك حين كان مناضلو الثقافة والسياسة والعمل الجمعوي… يكرسون قناعاتهم المبدئية بتقبل الاعتقال والنفي والشهادة والتعذيب ضرائب لدعم المغلوبين والبسطاء ومن لا صوت لهم، وحين تشبث البعض بمواجهة مد التطويع القسري للقناعات بالإغراء والمناصب والأموال، وحين يناصر من تبقى الآن من الصادقين والمناضلين الحق في معاكسة التيار، وثقافة الممانعة والنضال الثقافي.
لقد غرب حماس الأمس، واهتزت الكثير من القناعات، وهذا أمر يخص أصحابها لوحدهم، لكن ما لا يجب أن يغرب هو أن مقاومة اللاعدالة، والظلم، والقهر، والطغيان، والاعتداء على المواطنين بأي صيغة من مسؤولية الثقافة والفن وكل المشتغلين بهما، كما أن دعم البسطاء والمغلوبين هو الجوهر الأصيل الذي لا يجب إفناؤه في الثقافة والفن، إلا أن تأمل هذا المجال الآن يؤكد أن الجوهر قد تقلص كثيرا، حيث أن الثقافة والفن بمعناهما المعمم في هذا الوطن يتبرآن من وظائفهما الموضوعية، بجنوح المنتسبين لهما للانسحاب وإخلاء المواقع المكافحة، تجذيرا منهم لمشروع المسح التدريجي للمقاومة الثقافية وتكريسا للانهيار ميزة وحيدة لزمننا المغربي.
حين نقول هذا لا ننطلق بالضرورة من إيمان واهم بالوظيفة الرُّسولِـية للثقافة، ومن اعتقادنا بكون المثقف هو المخلِّص، بل ننطلق من مبدأ آمن به الكثير من الكبار يقول بالحاجة إلى «التمسك بالمبادئ النظرية الصحيحة وصهر ذلك في الممارسة الفاعلة» خِدمة لاحتياجات الواقع كلها، إنه الشيء الغائب بامتياز في واقع المغرب، لأنه أن يتم سحق المواطنين بشكل همجي لأنهم يطالبون برفع التهميش عنهم، وأن يتم قمع المواطنين بوحشية واعتقالهم في مناطق عديدة، وأن يتم الحكم على غالبية أهل المغرب بالموت بالتقسيط بسبب الغلاء والإهمال، وأن تعصف السياسة الرسمية بمجانية العلاج، والمدرسة العمومية، وكل حقوق المواطنة التي ناضل من أجلها من حرروا المغرب بالفعل من المستعمر دون أن تقول الثقافة والفن كلمتهما بشكل بارز، ويكون لهما موقف فاعل وصلب ومؤثر.
ويعمل الحقلان، وكل المرتبطين بهما من أفراد وإطارات، ومؤسساته، الممكن والمستحيل لفرضه، ودون أن يقر كل من يعيش من أجل الثقافة والفن أو بهما أن الصمت والانسحاب وتلطيف الصراع الاجتماعي بالبلاغة الملساء، وخواء الإبداع، والقول الفارغ لا يعني إلا شيئا وحيدا هو أن الثقافة والفن صارا طبولا لقداسات المهيمن، وتم تأميمهما لصالح الغالبين، بتواطؤ مع من يُفترض فيهم مُناصرة الثقافة والفن وحماية مُمانعتِهما، حين يحصل هذا يكون ذلك صيغة لإعلان هزيمة الثقافة، والفن ومسخ أصالتهما، ليتماثلا مع زمن الهزيمة العام، وهي وضعية أبأس من العدم نفسه.
يبدو زمن السقوط واقعا مأساويا، تصيره هيمنة حقيقة لا ترتفع، ونقول بصدده إنه ليس قدرنا، ولابد أن ينتفي حين نعي الحجة الاستعجالية لما أسماه بورديو يوما «امتلاك الأسلحة الضرورية للدفاع عن النفس في مواجهة السيطرة الثقافية، أي في مواجهة السيطرة التي تمارس في الثقافة وباسمها» أي مجموع الخواء الذي نُكرَه على استساغته باعتباره النموذج الوحيد الممكن لإدراك معاني الثقافة والفن في زمن الهزيمة.
(×) باحث جامعي
وناقد سينمائي