جديد تاريخ المدن المغربية.. طنجة وأصيلا والشاون في مدونات عبد العزيز بنعبد الله

حسنا فعلت جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير عندما بادرت بإصدار كتاب «بين طنجة وأصيلا عبر التاريخ ويليه كتاب الشاون معقل الفكر والجهاد»، للأستاذ عبد العزيز بنعبد الله، سنة 2021، وذلك في ما مجموعه 543 من الصفحات ذات الحجم الكبير. فالرجل قضى فترة زمنية طويلة في الاشتغال على تجميع مظان تاريخ المدن المذكورة، ونجح في تكوين ما يمكن أن نسميه بموسوعة مونوغرافية حول التاريخ المحلي لهذه المدن، لكنه لم يتمكن من إصدار عمله ومن إخراجه إلى النور، بعد أن أدركته الوفاة سنة 2012. ويبدو أن إرادة هذا العالم الفذ، والباحث المدقق، والمؤرخ المنقب، قد تحققت بالتقاء إرادة أسرة الفقيد مع إرادة الجمعية الناشرة للعمل، لكي تلتقي في بلورة هذا المشروع العلمي المتميز. والحقيقة إن الأمر يتعلق بتأليفين منفصلين عن بعضهما البعض، حمل أولهما عنوان «بين طنجة وأصيلا عبر التاريخ»، وحمل ثانيهما عنوان «الشاون معقل الفكر والجهاد». ولا شك أن الجمع بين العنوانين في إصدار واحد يحمل قيمة معرفية مزدوجة، تتمثل أولاهما في احترام منطق وحدة الموضوع المرتبط بالبحث المونوغرافي الخاص بمنطقة الشمال، ويرتبط ثانيهما بجهود الإسراع بحفظ ذاكرة العطاء العلمي للفقيد عبد العزيز بنعبد الله، من موقعه كأحد أعلام الفكر والثقافة والمعرفة بمغرب عقود النصف الثاني من القرن الماضي ومطلع القرن الحالي.
لم يكن الأستاذ عبد العزيز بنعبد الله غريبا عن مجال العطاء المعرفي والعلمي، إذ استطاع تحقيق تراكم نوعي غزير من مواقع أكاديمية متعددة، انطلقت بحصوله على شهادة الإجازة في الآداب والحقوق من جامعة الجزائر سنة 1946، ثم عززها بمهامه المهنية والعلمية والإعلامية الغزيرة، أثمرت عطاءً أكاديميا رفيعا في منتديات راقية، وإصدارات تجاوزت المائة عنوان باللغتين العربية والفرنسية، مع نحو أربعين معجما بثلاث لغات.
وبخصوص الإطار العام الموجه للإصدار موضوع هذا التقديم، يقول الأستاذ محمد أخريف في كلمته التقديمية: «يشرفني أن أقوم بتقديم هذين الكتابين اللذين بقيا محفوظين من جملة المخطوطات العديدة التي تركها العلامة الأستاذ والباحث الموسوعي عبد العزيز بنعبد الله، واللذين أحالهما علىغغ سيدي أحمد بنعبد الله، نجل علامتنا الكبير، بعد رقنهما ومطابقتهما لأصلهما. وهما كتابان مرتبان حسب المواضيع التي اختارها المؤلف، ومراجعهما متضمنة في متنهما، باستثناء موضوعين، الأول حول الوزراء والكتاب بالمغرب، والثاني حول الملاحة الإسلامية بين طنجة والإسكندرية طوال ألف عام. يعتبر الكتابان من المصادر والمراجع الهامة في منطقتنا جهويا، ووطنيا، ودوليا، لم يقتصر فيهما المؤلف على ذكر تاريخ طنجة وأصيلا وشفشاون وما يتعلق بها، من جوانب حضارية، واقتصادية، واجتماعية، وفكرية، وصوفية، وعسكرية، وديبلوماسية وتراثية، بل ضم إليها مواضيع عامة من التاريخ الحضاري المغربي… فالكتاب الأول بعنوان «بين طنجة وأصيلا عبر التاريخ»، والثاني بعنوان «الشاون معقل الفكر والجهاد»، إضافة إلى مواضيع أخرى عامة متداخلة في الكتابين الإثنين. وقد آثر نجله الكريم سيدي أحمد عبد العزيز بنعبد الله الحفاظ على منهجية أبيه في الكتابين كما تركهما أبوه…» (ص. 9).
يقدم الكتاب الأول معطيات غزيرة حول ماضية مدينة طنجة، في إطار سرد موسوعي انشغل بتقديم الكثير من التفاصيل المنتقاة من أمهات المصادر العربية والأجنبية ذات الصلة بالموضوع. وقد حرص المؤلف على تنظيم نتائج تنقيباته بشكل قطاعي سمح بتقديم متن ثري، غزير في معلوماته، دقيق في مستويات وصفه، منفتح على مجمل الإسطوغرافيات التقليدية والمجددة. لذلك، استطاع العمل تقديم ثمرة الجهد الممتد في الزمن الذي بذله الفقيد عبد العزيز بنعبد الله، ليعيد رسم معالم وجه طنجة في عناصره الأساسية، مثل أصل التسمية، وظروف الميلاد، وظروف تحرير المدينة من الاحتلال الأجنبي، وانتشار المسيحية بالمدينة، والمعالم المميزة للمدينة، والمعارك الكبرى التي شهدتها، وأعلامها في مختلف المجالات العلمية والإدارية والأدبية والصوفية، وأدوارها الإعلامية والصحافية، وأدوارها الكبرى المؤثرة في المسارات المميزة لتطور الدولة المغربية عبر التاريخ، وخاصة على مستوى علاقاتها بالدول الأوربية والمتوسطية والعربية. وإلى جانب التركيز على هذه الجوانب المحلية، اهتم المؤلف بتوسيع مجال نبشه ليشمل قضايا جوهرية في دواليب الدولة المركزية، حيث كان لطنجة حضور قوي ومؤثر على امتداد عناصر التحول التي طبعت ماضي الدولة والمجتمع المغربيين، مثلما هو الحال مع الكاثوليكية في المغرب، وموقع اللغة البونية من خلال دورها في توحد اللهجات الدارجة قبل الإسلام، والتجارة الخارجية من خلال التدخلات الديبلوماسية، والأجفان الجهادية والقرصنة، والعلاقات الدولية في الإسلام، ووقعة إيسلي سنة 1844 ثم معاهدة للامغنية سنة 1845، والمعاهدات مع الدول الأجنبية،..
وفي القسم الثاني من الكتاب الأول، اهتم المؤلف بتقديم نتائج تنقيباته حول ماضي مدينة أصيلا، وحول الأعلام المميزة للوجه الحضاري للمدينة، وحول معالمها التاريخية القائمة، وحول تطور أوضاع المدينة في ظل تراوح موجات الاحتلال والمقاومة خاصة عقب الاحتلال البرتغالي للمدينة سنة 1471. وأرفق بهذا القسم، مادة تجميعية غزيرة حول شخصية أحمد الريسوني، استهلها بعنوان مثير يستجيب لمنطق الوعي بالرؤى الخلافية بين الباحثين حول حقيقة أدوار شخصية الريسوني بشمال غرب المغرب عند مرحلة نهاية القرن 19 ومطلع القرن 20. وقد ورد عنوان هذه المادة بالصيغة التالية: «هل كافح الريسوني ضد الاستعمار؟».
أما الكتاب الثاني، فقد اهتم فيه المؤلف بالتعريف بحاضرة شفشاون، من خلال تتبع دقيق للمسار الحضاري في منطقة الشاون، والتعريف بأعلام المدينة وبمعالمها، وبموقع قبيلة غمارة داخل نسيجها العام، وبمعالم أوجهها الإبداعية في مجالات مختلفة مثل الموسيقى، والعمارة، وبأشكال حضور التأثير الأندلسي والموريسكي بالمدينة وبمحيطها المجالي الواسع الممتد على كل أصقاع منطقة جبالة بشمال المغرب.
وبهذه المواد الثرية، استطاع الإصدار الجديد للمرحوم عبد العزيز بنعبد الله، توفير متن شيق لا شك وأنه يساهم في سد الكثير من الثغرات التي تشكل بياضات في ماضي مدن طنجة وأصيلا وشفشاون. وتزداد الأهمية العلمية للكتاب بروزا، بحرص المؤلف على تجميع جزئيات كثيرة لم تكن لتنال أي نصيب من اهتمام المؤرخ التقليدي، مثلما هو الحال مع أنواع الأسماك الموجودة في سواحل مدينتي طنجة وأصيلا، والسير الدقيقة لأعلام المدن الثلاث في مجالات متعددة مثل الشعر والفقه والإدارة والمسؤوليات المخزنية. ويقينا إن تشريح هذه المضامين بالدراسة النقدية وبالتدقيق الفاحص، ستفتح آفاقا رحبة أمام جهود تطوير البحث المونوغرافي على مستوى كل مدينة، وعلى مستوى كل قطاع، وعلى مستوى كل مجال. باختصار، يسمح نمط التدوين الموسوعي الذي اعتمده عبد العزيز بنعبد الله بتوفير الأرضية الملائمة لاشتغال دوائر الفحص المجهري والتأمل التفكيكي المؤطر لكل جهود ترشيد التعاطي المنهجي مع آليات البحث التاريخي المحلي، على مستوى ميكانزماته الداخلية، ثم على مستوى تقاطعاته المعرفية الواسعة والمتشعبة.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 15/09/2021