«في فصل سابق تحت عنوان الحدود، أوضحنا روح التوفيق التي نعالج على هديها مع جيراننا المشاكل المختلف فيها معها، أما مشكلة الصحراء الغربية، فقد كانت تبدو مشكلة جد بسيطة، ما لم يخلق في آن واحد نزاع بين هذه المشكلة وبين التاريخ والجغرافيا، وحقوق الإنسان.
وفي الواقع فإن محكمة العدل الدولية في لاهاي، والتي كنا قد طلبنا منها التحكيم، اعترفت في أكتوبر 5791 ، أن الأراضي الصحراوية التي تحتلها إسبانيا لم تكن عند استعمارها أرضا خلاء، لا صاحب لها، ولكنها، وأنقل عن هذه المحكمة ما قالته حرفيا، « كانت بين الصحراء والمملكة المغربية روابط قانونية وروابط ولاء» ومعنى ذلك أن سكان هذا الإقليم الصحراوي يدينون بالطاعة والولاء لملوكهم المغاربة.
إنه حكم قوي التعليل، لأنه إذا أنكر أن إرادة هذه الأقاليم لم تكن تمارس من قبل السلطات المركزية المغربية، فكيف يمكن تفسير الوجود الشخصي لأجدادنا فيها.
وكيف يفسر أن مولاي إسماعيل قد وصل عام 5887 إلى الصحراء / 5797 إلى نهر السينغال؟ وكون مولاي الحسن ذهب عام 5881 وكيف يمكن نسيان أن المعاهدات الدولية المبرمة مع بريطانيا سنة 5871 ، ومع فرنسا وألمانيا سنة 5755 اعترفت رسميا بالسيادة المغربية على هذه الأقاليم؟ عن روابط الولاء التي تحدثت عنها المحكمة الدولية هي روابط جد قديمة، وجد ثابتة ودائمة، وجد عديدة، قامت الأدلة عليها بالعديد من توجيهات ملوكنا وأوامرهم وقراراتهم وظهائرهم قبل الاستعمار وخلال وجوده، إلى حد أن المحكمة، نتيجة إطلاعها كاملا على ذلك، أعطتنا الحق في هذه النقطة.
وهل هي من حاجة إلى القول أن الأجداد والسلالات الإنسانية والثقافية والدينية والتقليدية التي تشدنا إلى مواطنينا الصحراويين ليست أقل قوة من روابط الولاء.
وأن الروابط القانونية لا وجود لها إلا بالنسبة لصلات الأجداد التي هي أقدم وأمتن؟ وقد كانت إسبانيا حكيمة عندما تراجعت عن تنظيم «الاستفتاء بين صفوف سكان الصحراء».
ولقد أوردْت أمام المجتمع في 12 غشت 5791 ، ملاحظة تقول: «يوجد في كل من موريتانيا، ومالي والجزائر والسينغال، وفي المغرب، شعب صحراوي، فهل نستطيع أن نتصور ظهور نصف دزينة من الأمم الصحراوية، كلها تقريبا مستفتاة عل مصيرها في كل هذه البلاد؟ في مثل هذه الحالة يصبح التقرير الذاتي للمصير، تخريبا ذاتيا.
لقد تفاهمنا تفاهما كاملا مع الجمهورية الموريتانية ورئيسها السيد المختار بن دادة، أما الجزائر فقد سبق لها أن اعترفت بأنها ليست معنية بالتراب الذي ستتخلى عنه إسبانيا ، ولذلك لم يبق أمامنا غير أن نرجع إلى ديارنا لنلتقي من جديد مع مواطنينا.
أعتقِد أنني قد أوضحت كل شيء في الكلمة الاستهلالية التي افتتحت بها المؤتمر الصحافي الذي عقد في قصر الرياض الملكي يوم 11 نونبر 5791 ، والذي شهدته صحافة العالم كله.
إن الحق الواضح كان إلى جانبنا، لكن كان علينا أن ننتظر قرارا من الأمم المتحدة كان محتملا أن يصدر أو لا يصدر.
فكان الأمر يتعلق إذا بعد عام من الإجراءات والاستشارات الدولية، بأن نخرج إلى حيز الواقع ، ما كان قد أقر نظريا، وما كان مهددا بأن ينساح في رمال الصحراء ويضيع فيها.
ولما كانت صحراؤنا لا تستطيع أن تأتي إلينا، كان علينا أن نذهب إليها.
إذ كانت تنتظرنا، معنى ذلك أنه كان علينا أن نرجع إلى ديارنا بسلام وعزم، أقوياء بحقنا وقوة إدراكنا وكان من واجبنا أن نلتقي مجددا مع إخواننا الصحراويين لقاءا طوعيا مقترنا بالحماس.
ولم يكن من المتصور أن نخوض حربا مع الإسبان لا معنى لها، ولم يكن أحد راغبا فيها، لا في مدريد ولا في الرباط.
وفي الوقت الذي غذى فيه رحيل الإسبان حقيقة مؤكدة، كان من غير المعقول أن نترك أرضنا خاوية ومهملة، وهكذا قررت المسيرة الخضراء.
لماذا اشترك فيها 012 ألف متطوع؟ جواب ذلك جد بسيط: ف 012 ألف هو عدد الأفراد الذين يولدون في المغرب كل عام، وفكرت أن الجائز لي ، أن أوظف حصاد عام يعطيه الله لنا لأعيد إلى الوطن أرضا لم ننسها قط.
المسيرة الخضراء، لِمَ سميناها خضراء؟ لقد سمع العالم كله عن راية نبينا الخضراء ، كما كنت أريد قبل كل شيء أن يكون لمظاهرتنا هذه مظهر موكب حماسي ومؤثر معا، وأن تكون في وقت واحد احتفالا رياضيا ووطنيا وروحيا، وبمثابة حج مؤكد للحق إلى هذه الأرض المغربية العريقة، لقد كان هذا ما أردت وأراده معي الشعب المغربي، ولو أردنا لما اشترك في المسيرة 012.
222 مغربي فقط، وإنما مليونان، بل ثلاثة ملايين مغربي، وقد رفضت اشتراك طلابنا بصورة كثيفة في المسيرة، لأتجنب جعل بداية العام الدراسي الجامعي مضطربة.
إن التكتم كان ضروريا في وقت لم يكن فيه من الممكن ارتجال مسيرة من 012.
222 فرد إلى الجنوب المغربي.
ولهذا فإن مخطط إسكانهم قد درس ونُفذ بعناية دقيقة، أما العالم بأجمعه فقد أطلع منذ 57 أكتوبر عن طريق خطابي على ما اعتزمنا القيام به، كما أرسلت بعدها بيومين رسالة إلى الدكتور كيسنجر، وفي 11 أكتوبر دشنت بحضور السيد فالدهايم الأمين العام للأمم المتحدة السد الكبير للمسيرة، وسميته سد «المسيرة السلمية» وتحدثت طوعيا إلى رجال الصحافة، وإلى رجال الإذاعة والتلفزيون الأمريكيين والفرنسيين والإسبان في موضوع مسيرتنا التي كان متطوعوها قد تجمعوا بنظام مثالي في مراكز انطلاقهم.
كثيرون من الصحفيين الأجانب «لم يكونوا يصدقون ذلك»، أن التشكك والسخرية السهلة أطلقا لنفسهما العنان.
وفي نيويورك استوضح بعض المخبرين قائلين: كيف تتوقعون من 012.
222 مغربي أن يتقدموا من كلميم وطرفاية إلى الأمام، هل سيتقدمون على ظهور الجمال؟ لاشك أنهم كانوا يعتقدون أننا لا نملك وسيلة للنقل غير الجمال؟ وباختصار، كان دفع 012.
222 إنسان إلى الصحراء يبدو لهم مشروعا خياليا، «بل غير معقول» لقد نسوا أن هؤلاء الرجال والنساء السائرين مغاربة، ونسوا كذلك أننا خصصنا على قدر المستطاع، كل الجهود لئلا نترك شيئا للصدف، وقد يكون حركة بمثل هذا الحجم الهائل هو الشيء الأدْعا للتعجب.
وأبين للمختصين بالتعبئة العسكرية ما كابدته: فخلال اثني عشر يوما، كانت عشر قطارات تنقل المتطوعين في شمال المغرب وشرقه إلى مدينة مراكش، ومنها كانوا ينقلون بالشاحنات إلى أكادير، ثم إلى طرفاية، وكان عدد هذه الشاحنات بالتدقيق 9850 شاحنة، كما كان عشرة آلاف من الأطر تنظم المسيرة، يعاونهم 192 من الأطباء والمعاونين الصحيين.
وكان من اللازم كذلك نقل ما زنته 59222 طن من المواد الغذائية و 10222 طن من الماء، و 1172 طن من المحروقات بالإضافة إلى الأسلحة والذخائر لاستخدامها عند الضرورة في أعمال الدفاع عن النفس، وقد استخدمت مصلحة الصحة 172 سيارة إسعاف.
أما تعليماتنا فكانت كالتالي: عندما نرى إسبانيين نحييهم ، ونتابع طريقنا، أما إذا حاول غير الإسبان اعتراض طريقنا وهاجمونا، فسنعمد حالا إلى الدفاع عن أنفسنا، وفي هذه الحالة فإن وحدات القوات المسلحة الملكية التي ترافق المسيرة الخضراء لحراستها من الخلف وعلى الجناحين، ستستدعي حالا للتدخل على نحو يسمح لمواطنينا أن يقتحموا الطريق ويوالوا تقدمهم المسالم.
وأن من الواضح أن جمهور حجاجنا الذي كان منظما وموجها على نحو لائق، كان باستطاعته أن يتقدم إما بكتل متراصة نحو نقطة محددة، وإما بصورة انتشارية كذلك على جبهات متتابعة تمتد بضع عشرات من الكيلومترات.
وكنت أعرف أن الإسبان أكثر شهامة من أن يأمروا بإطلاق النار وبدم بارد على حشد أعزل، وهنا أريد أن أقول أننا وجدنا بعد ذلك بقليل، أكبر تفهم من السنيور سوليس رويز ثم من الرئيس أرياس نفارو، وهكذا وقع في مدريد في الرابع عشر من نونبر الاتفاق الثلاثي الذي حفظ السلام.
لقد سبق لي أن سهرت على إبلاغ الحكومة نبأ مسيرتنا، وأوضحت لها بأية روح أعدت، وكان يجب ألا يكون هناك أي شيء يتم ولو بقدر جد قليل من الغموض، ولم نكن نريد مطلقا أن يمس أو يجرح لأي سبب من الأسباب عواطف هؤلاء الجنود الشجعان، الذي كانوا بعيدين عن وطنهم في حامية كان رحيلها قد قرر رسميا.
وإذا كان الإسبان والمغاربة قد سبق لهم أن اقتتلوا في الماضي وجها لوجه وبنفس الشجاعة ، فقد قاتلوا جنبا إلى جنب ، ولم ننس نحن ذلك كما لم ينسوه هم أيضا.
وتجنبا لأي حادث ، أعطت الحكومة الإسبانية في النهاية الأوامر لجيوشها بالانسحاب زهاء أربعين كيلومترا إلى جنوب ما كان يسمى حدودا.
وفي 10 أكتوبر، وجهت خطابا إلى إخواننا في إقليم الصحراء الذي كنا سنسترجعه، وبعد أن قرأت سورة الفتح، قلت في خطابي: « باسمي وباسم إخوانكم الذين هم في المسيرة، أعِد الجميع وأعاهدهم على التناسي، وعلى الصفح، وعلى طي تلك الصفحات التي لم يكونوا مسؤولين عنها تماما، بل كما قلت لكم في طياتها، كانت حيل المستعمر وأطماع الفاتح.
وهكذا شعبي العزيز، ليلة الدمعة وبعد ثمانية أيام مضت منذ خطابنا إلى شعبنا للقيام بالمسيرة الخضراء، نتيمن ببناء سياساتنا على آيات من الذكر الحكيم ، وقد أرادت الصدف أن تكون تلك الآيات كلها في سورة واحدة هي سورة الفتح، ومنها استلهمنا مسيرتنا».
وأخيرا في عشية اليوم الذي سبق المسيرة أي في 1 نونبر 5791 ، وجهت هذه التوصيات: شعبي العزيز: غدا إن شاء الله ستخترق الحدود ، غدا إن شاء الله ستنطلق المسيرة، غدا إن شاء الله ستطأون طرفا من أراضيكم، وستلمسون رملا من رمالكم ثري من وطنكم العزيز، وكأب مرشد لك، وكأمير المؤمنين، وكقائد لمسيرتك سأزودك شعبي العزيز ببعض النصائح: أولا: شعبي العزيز بمجرد أن تخترق الحدود عليك أن تتيمم على الصعيد الطاهر بتلك – الرمال، ثم تستقبل القبلة، وتصلي بأحذيتك لأنك مجاهد ركعتين شكرا لله تعالى.
– – ثانيا: شعبي العزيز، عليك أن تعلم أن هذه المرحلة من المسيرة ليست كسابقاتها، هذه – المرحلة تستلزم منك ضبطا أكبر، ونظاما أكثر، فعليك أن تكون مطيعا سامعا للذين يؤطرونك حتى يمكننا أن نسير بمسيرتنا إلى الهدف المطلوب.
ثالثا: شعبي العزيز، كما قلت لك في خطابي الأول، إذا ما التقيت إسبانيا، كيفما كان حال الإسباني، عسكريا أو مدنيا فصافحه وعانقه واقتسم معه مأكلك ومشربك، وأدخله مخيمك، فليس بيننا وبين الإسبان غل ولا حقد، فلو أردنا أن نحارب الإسبان لما أرسلت الناس عزلا، بل لكنا أرسلنا جيشا باسلا، ولكننا لا نريد أن نطغى ولا أن نقتل، ولا أن نسفك الدماء، بل نريد أن نسير على هدي من الله في مسيرة سلمية.
فعانق إخوانك وأصدقائك الإسبانيين، عسكريين ومدنيين، إن أطلقوا عليك نارا فتسلح بإيمانك، وتسلح بقوتك، وزد في مسيرتك، فلن نرى في آخرها إلا ما يرضيك ويرضي راحتك وراحة ضميرك، وفيما إذا اعتدى عليك المعتدون من غير الإسبان في مسيرتك، فاعلم شعبي العزيز أن جيشك الباسل موجود لحمايتك ووقايتك ضد كل من أراد بك السوء.
شعبي العزيز، هذه بعض كلمات أردت أن أوجهها إليك قبل أن تشرع في المسيرة.
كان بودي شعبي العزيز أن أكون في الطليعة، ولكن يقال أن واجب القائد أن يبقى في مركز قيادته ليسهر على تنفيذ الأوامر، وليتمكن أن يبقى على اتصال مع جميع أطراف المملكة وجميع أطراف الأسرة.
فاعلم شعبي العزيز أن قلبي معك، وأن جوارحي هي جوارحك، وأنك حين تنظر إلى الآفاق الجديدة التي فتحها الله أمامك، وحينما تطأ تلك الأرض الطيبة، فإن جوارحي وحواسي كلها سوف تكون هي حواسك، كما كانت دائما، وهي جوارحك كما ستبقى دائما.
شعبي العزيز، مما يثلج الصدر ويدخل الفرح أنك حينما ستسير غدا لن ترى العلم المغربي وحده، بل سيكون علمنا المغربي الأحمر ذي النجمة الخضراء في مسيرتنا الخضراء محفوفا أولا بعناية الله وألطافه، وثانيا بأعلام أخرى لأشقائه الدول العربية والإفريقية، أعلام لها تاريخها ولها مجدها وصولتها وجولتها، ولها حضارتها ومستقبلها.
شعبي العزيز: سر على بركة الله، تكلؤك عنايته، وتحف بك رعايته، وسدد الله أقدامك وخطاك، وجعل هذه المسيرة، مسيرة فتح مبين على الشعب المغربي، وعلى إخواننا الصحراويين الذين نحن على أحر من الجمر للقائهم ولعناقهم وللتعرف عليهم.
وإننا نحمد الله سبحانه وتعالى أن هدانا إلى صراطه المستقيم، وجعلنا ننهج نهجه القويم، راجين سبحانه وتعالى أن يديم علينا نعمة الحمد والشكر.
حتى نحمده كثيرا ونشكره كثيرا، فيعطينا كثيرا ويلبي دعواتنا كثيرا، إنه سميع مجيب وبالإجابة جدير».
ساعة الحقيقة اندفعت في 7 نونبر جماهير 012222 مغربي نحو الجنوب وفق نظام المسيرة الذي احترم بدقة، وكنت واقفا ساعة بساعة على الصغيرة والكبيرة لهذا الحج الحقيقي إلى الأصول، وكان ما عانينا منه تهدئة حماس السائرين وحمايتهم، وأعني بهم : ال 00222 من أكادير، و 12222 من وارزازات، وال 58222 من تيزنيت ، وال 51222 من طرفاية، الذين كانوا يأملون أن يكونوا أول من يصلي فوق رمال الصحراء، و 1222 الذين خرجوا من تطوان ووجدة وفجيج، و 01222 بيضاوي، و 52222 رباطي وسلاوي، وال 12222 الذين زحفوا من قصر السوق، وال 52222 جاءوا من بني ملال لم يكونوا ليقبلوا أن يسبقهم الآخرون إلى الصلاة فوق رمال الصحراء، شأنهم شأن وفود آسفي ، وتازة وطنجة، ومكناس والقنيطرة ، والخميسات ، والناظور.
فقد كانت كل بعثة من بعثات هذه الأقاليم تريد أن يكون لها شرف اختراق «الحدود» قبل غيرها.
عشرة في المائة من متطوعينا كن من النساء، وفي الحقيقة كانوا جميعا مسلحين برايات يلوحون بها تؤكد السيادة المغربية، وبأعلام خضراء، وبأعلام وطنية تتوسطها النجمة الخضراء، والعديدون كانوا يرفعون كذلك كتاب الله، وكانوا جميعا يؤمنون أن أسلحتهم هذه أمضى وأقوى على التحرك، والالتفاف من الفرق العسكرية المدرعة.
لقد اخترقوا وتغلغلوا على شكل كتل بشرية متراصة ، وفي نظام محكم بديع، الأرض المتنازع عليها، وما من أحد يستطيع أن يحدد بالضبط المسافة التي اجتازوها حتى التاسع من نونبر، وكانت تتراوح بين عشرين وثلاثين كيلومترا، لقد بلغ إيمانهم حدا جعلهم يعتقدون أنهم قادرون على الوصول إلى آخر العالم.
وكانوا حققوا في الواقع الظفر الذي إليه يسعون، وإن كانوا لم يشعروا بعد ذلك، ولكني وأنا في أكادير، حيث كنت أتتبع الأصداء الخارجية للمسيرة، تلقيت التأكيد بأن المفاوضات الحاسمة ستبدأ، واستشعرت بدفق من الفرح، لأن موضوع المفاوضات كان إعداد الاتفاق الثلاثي الذي سيوقع فعلا في مدريد بين إسبانيا من جهة وبين موريتانيا والمغرب من جهة ثانية.
وعندما توجهت بالخطاب في اليوم نفسه إلى مواطني، الذين كانوا عمدوا إلى تحطيم الحدود، عبرت عن كل إعجابي بمتطوعينا وقلت: «أريد شعبي العزيز، بادئ ذي بدء وقبل أن أتحدث إليك، أن أتوجه باسمي واسمك إلى إخواننا المتطوعين الذين هم على أرض صحرائنا، لننوه بهم ولنرفع من شأنهم وقدرهم، ذلك لأنهم كتبوا صفحة من تاريخنا، سيبقون وستبقى على مدى الأيام والأزمان تدرس وتحتذى كمثل للانضباط وللطاعة وللوعي، وللاستماثة وللوطنية الحقة، وستبقى مسيرتهم في التاريخ يقرؤها الشباب والأطفال، مثلما قرأنا مسيرة «أكزينوفون» اليوناني، ومسيرة صديقنا ماوتسي تونغ في أوائل هذا القرن».
وشكرت البعثات الأجنبية التي أسهمت معنا في هذا الزحف، كما شكرت رؤساء الدول التي ساعدت قضيتنا، أما أهدافنا التي لم تكن أبدا عسكرية بل سياسية، فقد جرى التوصل إليها وأصبح الأمر من الآن فصاعدا يتعلق بالتفاوض مع إسبانيا «بروح مطبوعة بالصداقة مع استبعاد كل أنواع الضغط».
« فلنرجع إذا إلى منطلقنا، حتى يمكننا أن نبني تلك العلاقات، علاقات الاحترام المتبادل والكرامة المصونة بيننا وبين إسبانيا، والتي نريدها طويلة المدى وعميقة المفعول، نريد أن نبنيها انطلاقا من أساس مهم جدا، وهو أنه ليس هناك غالب أو مغلوب، بل هناك أصدقاء أرادوا فترة من الزمن، خيم عليهم فيها سوء التفاهم، أن يفتحوا صفحة جديدة لهم الآن وللأجيال المقبلة.
وأن الفترة التي مضت أظهرت للعالم أن هناك دولا ما زالت رصينة وحكيمة ومتعقلة.
وأظهرت أن المغرب رصين، وأن إسبانيا رصينة، فلا المغرب قام بعمل شغب، ولا الجيش الإسباني قام بعمل استفزاز.
لنرجع إذن شعبي العزيز، إلى منطلقنا، المتطوعون إلى طرفاية، وخادمكم إلى مراكش، ولنفتح بابا سوف يفتح لنا آفاقا جديدة، ولنسر إذن في منطلقنا الجديد على بركة الله، ولنقرأ جميعا من كتابه العزيز»ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا، وإليك المصير».
إذن لم يكن من السهل تعبئة 012222 رجل تعبئة سلمية، وشن الغارة بهم على أرض بعيدة، فقد يكون من الصعب كذلك إيقاف اندفاعهم، لاسيما وأنهم كانوا مؤمنين بقدرتهم على زحزحة الجبال ودفعها إلى الجنوب نحو الحكونية والعيون، وقد خيل للناس أنه ما من شيء ولا من أحد يستطيع أن يؤثر في نفوسهم، ومع ذلك ما كدت أعطي الأمر حتى توقفت المسيرة حالا، ثم دارت نصف دورة، وعاد 012222 متطوع وفق التدبير المقرر إلى طرفاية.
مدرسة سياسية جديدة وفي 59 نونبر 5791 ، وبمناسبة الذكرى العشرين لاستعادة حريتنا، توجهت بخطاب آخر إلى حجيجنا الساعي إلى السلام وإلى كافة أفراد الشعب المغربي.
لقد ذكرت في البداية أنه منذ سنة 5701 ، تمكن المرحوم والدي، وتمكنت أنا الذي ليس إلا خلفا متواضعا له، تمكن الشعب المغربي من اجتياز حقب عسيرة كانت في بعض الأحيان مقلقة، ولكننا تغلبنا بفضل الله على أصعب الصعاب، وأضفت قائلا: « اليوم شعبي العزيز أراني قادرا على أن أقول : صحراؤنا ردت إلينا دون إراقة دم.
طوبى لكم أيها المتطوعون، لأنكم خلقتم مدرسة سياسية جديدة ووعيا سياسيا جديدا في المغرب.
إن هذه المسيرة خلقت مغربا جديدا عليه واجبات جديدة، وعليه التزامات جديدة».
وقد حرصت على أن أنبه حالا مواطنينا إلى أن عودة صحرائنا إلينا تغنينا روحيا وأخلاقيا، ولكن بغير الأسلوب الذي يتغنى به الباعة، فنحن لن نسترجع صحرائنا لأن فيها معدن الفوسفاط، بل استرجعناها لأنها من ترابنا الوطني، ولما تطرقت إلى الفوسفاط قلت بلا غموض ولا التباس: «اعلم شعبي العزيز، أن مايدره الفوسفاط في تلك الناحية لا يكفي أبدا لما نرمي إليه من أهداف وإنجاز وتخطيط، فمدخول الفوسفاط لا يوازي ربما الثلثين، من الشيء الذي نريد أن نستثمره كل سنة في تلك المنطقة من بلدنا.
علينا أن نبني المراسي ولا نكتفي بمرساة أو اثنين أو ثلاث، وعلينا أن نبني المصانع، وعلينا أن نرفع المعامل، وعلينا أن ننقب عن المعادن الأخرى، علينا أن نخلق ثروة فلاحية عن طريق تصفية ماء البحر من الملوحة، حتى يمكن أن نوجد الكلأ للماشية، ونوجد الشغل والفلاحة والقوت للسكان».
علينا شعبي العزيز، أن نبني المدارس ونعممها، علينا أن نبني المستشفيات ونعممها، علينا أن نبني البروج والقلاع للحفاظ على مكتسباتنا» و»لا يكفي أن تفكر شعبي العزيز في الصحراء، بل عليك أن تفكر في وسائل تنمية الصحراء، وفي وسائل الخير والبركة، واتساع المعيشة في الصحراء».
.
.
لا لم نعد إلى الصحراء قصد التجارة، ولكن لنشيد المدارس والمستشفيات، ولخلق وسائل الدفاع، وإشاعة الرخاء والطمأنينة والسلم، وهكذا فإن المغرب يرغب في أن يستعيد الإشعاع الذي كان له يوم أن كانت له في الماضي أوثق العلاقات مع ملوك أوروبا ورؤساء وملوك إفريقيا.
انتصار الحق والمشروعية، وأخيرا تلوت آية من القرآن الكريم هذا نصها، «وقضى بينهم بالحق، وقيل الحمد لله رب العالمين».
وإني أحب جدا هذا المبنى للمجهول، وقيل: «الحمد لله رب العالمين، ذلك أن الباب لا يزال مفتوحا وسيبقى مفتوحا لكل من يريد أن يقول معنا: الحمد لله رب العالمين.
مفتوحا في قارتنا وغير قارتنا، غير محصور بالوقت ولا بالزمان ولا بالمكان، ولا بالجنسية ولا بالدين ولا بالحوار ولا البعد ولا بالقرب، وقيل الحمد لله رب العالمين».
ونرجو أن يقولها أكثر عدد ممكن من الناس وأكثر عدد ممكن من الأصدقاء، أو ممن يزعمون أنهم أصدقاء».
هذا ما قلته في 59 نونبر 5791 ، وهذا ما أنا مستعد لإعادته مرة أخرى وإلى الأبد.
لقد كثر الكلام على الاتفاق الثلاثي الموقع في مدريد، وهذا ما احتواه: «بعد أن اجتمعت الوفود المعتمدة الممثلة لحكومة إسبانيا، والمغرب، وموريتانيا، اتفقت في مدريد بتاريخ 51 نونبر 5791 على المبادئ التالية: أولا تؤكد إسبانيا قرارها، الذي أعلنته مرارا في الأمم المتحدة، بتصفية الاستعمار في – الصحراء الغربية، وذلك بوضع حد للمسؤوليات والسلطات التي تتولاها في هذا الإقليم بوصفها الدولة المتصرفة.
ثانيا طبقا للقرار المذكور، ووفقا للقرارات التي أوصت بها الأمم المتحدة مع الطرفين – المعنيين، تشرع إسبانيا فورا في إقامة إدارة مشتركة في الإقليم بمشاركة المغرب وموريتانيا، وبتعاون مع )الجماعة(، وتسلم لهذه الإدارة المسؤوليات والسلطات التي تشير إليها الفقرة السابقة.
وبصدد ذلك وقع الاتفاق، على تعيين حاكمين مساعدين باقتراح من المغرب وموريتانيا، وذلك ليعاونا الحاكم العام للإقليم في مهامه.
وينتهي الوجود الإسباني .
في الإقليم فعليا ونهائيا، قبل يوم 18 فبراير 5797 ثالثا يحترم رأي سكان الصحراء المعبر عنه من خلال )الجماعة(.
– رابعا تخبر الأقطار الثلاثة الأمين العام للأمم المتحدة بما هو مقرر في الوثيقة، نتيجة – للمفاوضات التي جرت وفقا للمادة الثالثة والثلاثين من ميثاق الأمم المتحدة.
خامسا إن الأقطار الثلاثة الموقعة، تصرح بأنها قد توصلت إلى هذه النتائج المذكورة – مدفوعة بروح التفاهم والأخوة واحترام مبادئ الأمم المتحدة، وذلك كأحسن مساهمة منها في حفظ السلام والأمن الدوليين».
وفي 58 نونبر 5791 ، اقترح مجلس الكورتيس الإسباني على نص قانون فك الصحراء من الاستعمار، وما إن نشر هذا القانون في 12 نونبر صباحا بمدريد في الجريدة الرسمية، حتى دخل الاتفاق الثلاثي حيز التنفيذ.
أما المادة 00 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي هي كذلك جلية واضحة، فهذا نصها: 5 أن الأطراف المختلفة والتي من شأنها تطويل اختلافها، تعريض وتهديد السلام والأمن – الدوليين، عليها أن تبحث قبل كل شيء عن حل عن طريق المفاوضات، والتحقيق والوساطة، والتوفيق والتحكيم، وطريقة التصفية القضائية، واللجوء إلى المنظمات أو الاتفاقات الإقليمية، أو عن أي وسائل أخرى سلمية تتفق عليها.
1 إن لمجلس الأمن، إذا وجد ضروريا، أن يدعو الأطراف إلى تسوية اختلافاتها باتباع – مثل هذه الوسائل.
لقد احترمت كل من إسبانيا وموريتانيا، والمغرب احتراما دقيقا الاتفاق الثلاثي، وعمدت حالا إلى تسمية السيد أحمد بنسودة الوزير مدير الديوان الملكي مندوبا لي وحاكما إقليميا للصحراء، وقد وجد الشعب كله في مدينة العيون في حالة فرح وابتهاج.
وفي أوائل فبراير 5797 ، وصلت إلى مدينة العيون بعثة الأمم المتحدة برئاسة أولاك ريدبك، سفير السويد لدى الأمم المتحدة، واستقبله السكان بحفاوة زائدة وهم ينادون ويهتفون: «الحسن الثاني ملكنا والمغرب وطننا»، وقد استقبل مبعوثو الكاتب العام، السيد كورت فالدهايم، وأعني بهم، المسيو ريدبك ومساعديه، وفود النساء الصحراويات، والتجار، والموظفين، والفلاحين، وأعربوا لهم عن سرورهم بالعودة إلى الوطن الأصلي.
وأخيرا تحدث السيد ريدبك، إلى أعضاء المكتب الدائم، ل) الجماعة(، التي هي المجلس التمثيلي، وكان في مقدمتهم، رئيس الجماعة الحاج خطري ولد سعيد الجماني، ونائب الرئيس الحاج أحمد ولد الرشيد، فأوضحوا له وأنقل عنهم ما قالوه:» أننا منتخبون لنكون – مفوضين من قبل سكان الصحراء ونتكلم باسم مواطنينا وأن موقفه الذي سبق نشره وهو – – كالتالي: «ياسيادة الوزير، لقد جئت إلينا ورأيت بعينيك، وسمعت بأذنيك وأنت تعرف أننا منذ الآن أصبحنا قادرين على التكلم بكل حرية، أنتم تشهدون الآن، أن العيون ليس مطلقا مرتعا للنار والدماء، كما يزعم البعض، وأن كل شيء هادئ والجميع منهمكون في أشغالهم، وأن التجار الذين زرتهم كانوا إلى أمد قريب قد روعوا من موفدي البوليساريو، وهاهم اليوم يعودون لفتح دكاكينهم، وعادت الحياة الطبيعية إلى مجراها، ولا يكاد يرى في الشوارع ولو جندي واحد.
لقد أصبحنا أحرارا، لأننا مغاربة نريد أن نبقى مغاربة، أما ما يتعلق بتقرير مصيرنا، فنقول لك أن هذا المصير قد قررناه بأنفسنا منذ أمد طويل.
وأن وطننا كان هو المغرب على الدوام.
ونحن عازمون على أن نعيش آمنين في ظل قوانين المملكة، ولن نسمح أبدا بعد أن تحررنا من الاستعمار، بأن نسقط ضحايا استعمار جديد نخافه، نحن المغاربة أكثر من أي شيء آخر.
ولمعرفة الحاج أحمد ولد رشيد، أن المستر ريدبك، يتكلم الاسبانية بصورة جيدة، آثر أن يتكلم بالاسبانية حتى لاتكون هناك أي مصاعب عن ترجمة أقواله، كما قال.
لقد كنت أنتظر مصاعب من نوع آخر، مصاعب تجلت في مواجهة نوع من حرب لم تجرؤ على الظهور بوجهها الحقيقي، ولا على أن تسمي نفسها باسمها الأصلي، حرب قام بها السيد الهواري بومدين.
رئيس مجلس الثورة الجزائرية.
فخلال شهر فبراير الماضي وحده، اضطرت القوات المسلحة الملكية، أن تطرد قوات جزائرية متنكرة في زي البوليساريو، من كل من أمغالة، وتيفاريتي، وبئر لحلو، وكلتة زمور، والمحبس، وقد كان وجود هذه القوات الأجنبية فوق التراب المغربي مدعاة لدهشة متزايدة.
لاسيما وأن الحكومة الجزائرية، كانت قد صرحت دائما بأنها غير معنية بعودة الصحراء المغربية إلى المغرب.
إننا لم ننو أبدا إلحاق أي نوع من الأذى بالثورة الجزائرية، وأكرر اليوم ما سبق أن قلته، «إننا نلتزم دونما مبدأ بعدم التدخل في شؤون الآخرين، كما أننا لا نريد أن يتدخل أحد في شؤوننا.
ومع ذلك فهذا ما صرح به بومدين لجريدة لومانيتي، إن عودة الصحراء إلى المغرب، تشكل تهديدا للثورة الجزائرية، وفي المصطلح التاريخي فإن ما قاله بومدين يرتبط كما هو واضح بتحديد معنى مفردة لغوية، فهذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يشكل فيها نظام ملكي تهديدا لثورة.
في العادة يكون العكس في الأغلب هو الصحيح.
ومن فاس، وفي 51 فبراير 5797 ، وجدتني مضطرا إلى أن أوجه إلى الرئيس بومدين الرسالة الآتية: سيادة رئيس الثورة.
لايسرني أن أوجه إليكم هذا الخطاب، ذلك أنه لا يرضيني أن أكون كاتب نصه، ولأنه لن يبعث لا محالة في نفسكم الرضا والارتياح، لقد سبق لفخامتكم أن أنبأتموني رسميا ثلاث مرات خلال صيف سنة 5791 ، بقولكم الذي أعيده عليكم، بالحرف الواحد:» قولوا لملك المغرب، ثم قولوا له بالتأكيد، أنه مهما كانت خلافاتنا، حول مشكل الصحراء، وكيفما ما كانت نهاية النزاع بينه وبين اسبانيا، فإنني أتعهد له بأنه لن يرى أبدا جنديا جزائريا أو عتادا عسكريا جزائريا فوق تراب الصحراء لمحاربة الشقيق المغربي».
هذه هي أقوالكم فخامة الرئيس، ومن كانوا إذن رسلكم الذين حملوا ذلك الخطاب؟ سأسرد أسمائهم حسب الترتيب الزمني: فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة، وفخامة الرئيس ليوبولد سيدار سنغور، وفخامة الرئيس المختار ولد دادة، فهؤلاء فيما أعتقد هم الشهود الذين لايحتاجون إلى التنويه بأخلاقهم المثالية وحكمتهم، ومن أجل إعطائهم بيانات أدق أضيف إلى ذلك أن هذا التعهد نفسه قد تم تأكيده لي من لدن وزيركم في الشؤون الخارجية خلال نفس الفترة، وأقول أيضا تأدية للأمانة التاريخية، أن سبق لكم أن صرحتم لمولاي أحمد العراقي الذي جاء لزيارتكم في الجزائر العاصمة، بقولكم، «قولوا لصاحب الجلالة بأن يثق فيما سيقوله عبد العزيز، لأنني وأباه كأخوين توأمين ملتصقين».
إلا أنه حدث ما يدعو حقا للدهشة والاستغراب، ذلك ياسيادة الرئيس أن القوات المسلحة الملكية، وجدت نفسها يوم 17 يناير 5797 في مواجهة الجيش الوطني الجزائري الشعبي في أمغالة التي هي جزء لا يتجزأ من الصحراء، وسال الدم بين شعبينا لأنكم لم توفوا بوعدكم.
وها أنتم ترون أيضا بالأمس القريب، أن الحامية العسكرية المغربية أخذت غدرا – لأنني أجعل ضباطي وجنودي على بينة من سياستي لكي يقدروا تبرير الموقف الذي يتطلب الاستماتة والتضحية في أسمى درجاتهما وقد أخذت غدرا من لدن وحدات من – الجيش الجيش الوطني الشعبي الجزائري، متوفرة على أسلحة ثقيلة، ومعدات يكشف نوعها ومستواها عن النية المبيتة للقيام بعملية تدمير تسببت في عشرات الضحايا من بين أبنائي والمكافحين من أجل بلدي، وهكذا ففي مرتين اثنتين خلال مدة تقل عن عشرة أيام، ناقضَت أفعالكم يا سيادة الرئيس تعهداتكم.
فمن أجل شرف بلدكم وشعبكم اللذين تطبعهما الكثير من النعوت التاريخية، أناشدكم أن تجنبوا المغرب والجزائر مأساة أخرى، وأطلب منكم كذلك أن تعلموا بحرب مكشوفة ومعلنة جهارا، إما بسلام مضمون دوليا، على جعل حد في المستقبل للقول السائد في بلدي وبين أفراد شعبي:» أن الجزائر يعادل مدلولها، مدلول التقلب وعدم الوفاء بالعهود».
فصل من كتاب «ذاكر ة ملك»، حول المسيرة الخضراء سؤال: بالنسبة لقضية الصحراء، يبدو أنه كان هناك مستويان : النزاع مع إسبانيا من جهة، والمواجهة، مع الجزائر من جهة أخرى.
جواب: أجل، ففي ثالث مارس 5771 ، وبمناسبة عيد العرش استقبلت السيد صوليس مسؤول حزب الكتائب الإسباني الذي جاء ليمثل الجنرال فرانكو في الاحتفالات، وقلت له يا سيد صوليس، أبلغ الجنرال أنه لو رفض فتح حوار معنا، فإنني سأبتليه بفيروس تقرير المصير في الصحراء، وسأطلب من الأمم المتحدة تقرير المصير في هذا الإقليم.
وبما أننا لم نتلق أي رد على ذلك طرحنا رسميا في سبتمبر 5771 ، قضية تصفية الاستعمار بالصحراء.
سؤال : وبضع سنوات بعد ذلك بعثتم برسالة شديدة اللهجة إلى الجنرال فرانكو ذهبتم فيها بعيدا إلى درجة التهديد بالتدخل العسكري.
جواب : أستغرب أن يكون قد صدر عني ذلك، فأنا أتذكر جيدا ما أتفوه به، وليس من طبعي أبدا أن أكون بهذا الوضوح عندما يتعلق الأمر بتهديدات.
فقد بعثت بالفعل خطابا إلى الجنرال فرانكو، وما زلت أحتفظ بمسودته، لأنني حررته بنفسي، فالخطاب في جوهره كان حقيقة قاسيا، ولكن كان مهذبا ولبقا في شكله، على كل حال فرانكو رجل مسن، وكان له تجاهنا بعض الود وإن لم يكن ذلك الود في مستوى ما كنا دائما نتوخاه، غير أن ذلك ليس بالسبب الذي يجعلنا غير مهذبين وغير لبقين معه.
سؤال: وهل لقيتموه بعد ذلك؟ جواب: بالضبط، وعند ذلك فقط أدركت لماذا أكد هتلر بعد أزيد من أربع ساعات من التفاوض معه لكي يسمح للقوات الألمانية بعبور إسبانيا في اتجاهها إلى إفريقيا الشمالية – – بأنه كان يفضل الذهاب عند طبيب أسنانه للعلاج بدون بنج، على أن يذهب للتفاوض مع فرانكو، حيث أني لقيت هذا الأخير سنة 5795 بمدريد عندما كنت أقوم بزيارة عمل، لقد كان إنسانا مهذبا للغاية، من الأنصار المتحمسين جدا للنظام الملكي، كما كان يكن احتراما كبيرا للملوك، وكنت أول من تناول الكلمة محاولا أن أشرح لفرانكو أن مصلحة إسبانيا تكمن في أن يكون لها تعاون في المنطقة يطمئنها على الحماية الاستراتيجية لجزر الخالدات ويضمن لها ذلك التعاون الاقتصادي الذي تتطلع إليه، سواء تعلق الأمر بالخيرات الموجودة على سطح الأرض أو بما في باطنها، أو بثروات البحر.
وبالنسبة للصحراء ذهبت حد اقتراح إقامة قواعد عسكرية بها في إطار اتفاق يتم بيننا على قدم المساواة.
واسترسلت في الحديث ساعتين دون انقطاع، في حين التزم فرانكو طيلة هذه المدة بسكوت وهدوء مثيرين للدهشة.
ولم يكن يتحرك في جسمه سوى العينين وأهدابهما .
وبعد أن أنهيت عرضي استلقيت بظهري على الكرسي ، وأنا أقول مع نفسي : «الآن وقد عرضت عليه وجهة نظري، فسأسمع لرده «، وقد أجابني عن ذل ذلك بعبارة واحدة هي « إن ما تطلبونه منا يا صاحب الجلالة عملية انتحارية، فلا أنا ولا إسبانيا مستعدان لذلك».
هذا كل ما قاله .
وبعد ثلاث دقائق أضاف، « إذا سمحتم هيا لتناول طعام الغداء، لقد أعددت لكم إقامة بالجناح الشمالي للقصر، فهل تودون غسل يديكم؟ وفعلا نهضنا.
والحقيقة أنني لا أنسى هذه الازدواجية في معاملة فرانكو لي.
فقد أفضت في عرض وجهة نظري حوالي ساعتين، فيما كان رده في منتهى الإيجاز.
كما أن رفضه لاقتراحاتي لم يمنعه من أن يكون معي في غاية الود واللطف طيلة مدة إقامتي بإسبانيا.
وقد تجاذبنا أطراف الحديث لفترة طويلة، كما ذهبنا للقنص معا، لكنه ظل على موقفه ولم يتزعزع عنه قيد أنملة.
سؤال : وما هو الانطباع الذي خرجتم به من لقائكم مع فرانكو؟ جواب : لقد خرجت بانطباع أولي ألا وهو وجود هوة بين جيلين ترتب عنها عدم التفاهم في التحليل.
كما أدركت أنه كانت تخونه القدرة على استشفاف المستقبل.
إن الأمر في ميدان السياسة شبيه إلى حد ما بتصمصم «بيغ بن»، إذ يتعين القيام بقفزة أنطولوجية كبرى، )كما يقول كانط(، لكني أدركت أن سن فرانكو لا يتيح القيام بهذا المجهود، وآنذاك قدرت مدى الخطورة التي قد يأخذها تطور الأحداث بين إسبانيا والمغرب.
وعدت إلى بلدي قلقا جدا وأنا أتضرع إلى الباري « يارب قنا شر بعضنا البعض، وجنبنا أية مواجهة بيننا» ذلك أني كنت واثقا من أن الحوار أصبح مستحيلا.
سؤال: لكنه مع ذلك تم الإبقاء على الاتصالات والمفاوضات؟ جواب: لقد جاء السيد لوبيز برافو وزير الشؤون الخارجية الإسباني لزيارتي، ثلاث مرات، واكتشفت في النهاية أنه إنما كان يراوغ فقط وأنه يطعننا من الخلف، وفي المرة الأخيرة التي استقبلته فيها قلت له : « ياسيد برافو، تعهدوا لي بأنكم لن تمنحوا الاستقلال الذاتي للصحراء.
ورغم أنني سأبدو صلفا، فأنا مستعد لأن أفضل مرة أخرى استمرار الاحتلال الإسباني إلى أن نتوصل إلى اتفاق ) لأن هذا الإقليم جزء من المملكة(، على أن أراكم – تسلمونه لآخرين»، فرد السيد برافو»، بالطبع اطمئنوا فأنا أعدكم وسأبلغ فرانكو بذلك».
واكتشفت فيما بعد أنه في الوقت نفسه يتفاوض مع الجزائر، بشأن صفقة غاز عن طريق وساطة شركة «ماتيسا» التي كانت في ملكية أخيه، الذي كان وراء أكبر فضيحة مالية عرفتها إسبانيا، وباختصار وجدت نفسي في وضعية لا يخرج منها إلا من كان بارعا في الكذب.
سؤال : لقد كانت الصحراء بمثابة مباراة غريبة الأطوار في الشطرنج مع بومديان.
جواب : إن تكويني القانوني علمني أنه على المرء أن يتحلى دائما بحسن النية ، فبكل صراحة لم أكن أعتقد أبدا أنني أمام محاور ذي شخصية مزدوجة، فقد كان بومدين يظن أنني أوقعت به ، ففي سنة 5791 ، كنا مجتمعين في أكادير وبمعيتنا الرئيس الموريتاني ولد داده، والحقيقة أنني لم أكن مرتاحا ، فحدسي كان ينبئني بأن هناك تواطؤا ما يدبر في الخفاء، ومكثنا يومين وليلة، وفي المساء قلت لضيفي، لقد ضحيت بالكثير من أجل إقامة علاقات صداقة مع بلديكما، وتوخيت من ربط هذه الصداقة ضمان استقرار المغرب والمنطقة، وعملت على نسج خيوط التعاون بين دولنا الثلاث، فإذا كان من شأن قضية الصحراء أن تحدث شرخا في هذا النسيج القائم بيننا، فأقترح حفاظا على هذه الصداقة أن – ينكب كل واحد منا على الشؤون الخاصة لبلاده، دون أن ينخر مشكل الصحراء جسم هذا الثلاثي.
واعتقد بومدين أن كلامي كان موجها إليه.
وفي المساء ونحن على مائدة العشاء بدا بومدين مقطب الجبين.
فانحنيت اتجاهه بكل لطف وهمست في أذنه « لماذا يبدو على محياكم هذا العبوس.
إنكم ترددون أينما حللتم وارتحلتم في شتى المناسبات أن لا أطماع لكم في الصحراء.
وإذا كان منا من يتعين عليه أن يحس بالحرج فهو صديقنا الموريتاني الذي يطالب بهذا الإقليم.
خذوا إذن راحتكم وابتسموا ولا تستاؤوا من أقوالي.
فأجاب : « لا لا، فأنا لا أشعر أبدا أنكم قصدتموني بكلامكم»، ثم انتقل بما عرف عنه من تملص إلى موضوع آخر.
لكنني أحسست أن الرجل انقبض كما تنكمش المحارة عندما تصب عليها نقطة من حامض الليمون.
سؤال : في يوليو 5791 ، قرر الإسبان قبول نقل السيادة للصحراء، كيف كان رد فعلكم؟ جواب: لقد احتج المغرب على ذلك وعرضنا القضية على محكمة العدل الدولية بلاهاي ووجدت إسبانيا نفسها مضطرة لانتظار الرأي الاستشاري للمحكمة.
سؤال: واصلت المحكمة النظر في القضية حتى نهاية شهر غشت 5791 ، وأصدرت رأيها في 57 أكتوبر، فماذا فعلتم في غضون ذلك؟ جواب: في 12 غشت كان علي أن ألقي خطابا بمناسبة ذكرى الملك والشعب، وهي الذكرى التي تخلد تاريخ نفي الأسرة الملكية.
وعشية ذلك اليوم، كنت أتساءل مع نفسي: «ترى ماذا عساي أن أقول في هذا الخطاب؟ وفي المساء وبعد أن أديت صلاة العشاء، أخلدت إلى النوم، فاستيقظت فجأة في منتصف الليل، تراودني فكرة نفذت نفوذ السهم إلى ذهني وهي: «لقد رأيت آلاف الأشخاص يتظاهرون في جميع المدن الكبرى مطالبين باستعادة الصحراء، فلماذا إذن لا ننظم تجمهرا سلميا ضخما يأخذ شكل مسيرة؟ وهنا أحسست أني قد تحررت من عبء ثقيل للغاية.
وقد اكتفيت في خطابي في اليوم الموالي بالتطرق لبعض القضايا العامة.
إثر ذلك استدعيت وزير التجارة ووزير المالية وقلت لهما: «إن شهر رمضان قد يكون قاسيا، إذ المحاصيل الزراعية كانت متوسطة، فهل يمكنكما من باب الاحتياط، تخزين كمية من المواد الغذائية؟ حتى إذا وجدنا أنفسنا في حاجة إلى عرضها في السوق أمكننا المحافظة على سعر ثابت لها، فأجابا، « بكل تأكيد، وماهي الكمية التي يتعين تخزينها؟» قلت لهما، «تموين يكفي لشهر أو شهرين»، ولم يفطنا لشيء، وهذا ما كنت أرغب فيه.
واستعديت بعد ذلك أولئك الذين سيصبحون إلى جانبي المسؤولين الثلاثة عن المسيرة وهم: الجينرال أشهبار الكاتب العام لإدارة الدفاع، والجنرال بناني من المكتب الثالث، والكولونيل ماجور الزياتي من المكتب الرابع، وبعد أدائهم اليمين بعدم إفشاء السر حتى ولو لم يكونوا متفقين على ذلك، شرحت لهم أن عدد المشاركين في المسيرة سيصل إلى ثلاثمائة وخمسين ألف نسمة.
فقالوا مستفسرين «لماذا كل هذا العدد؟» فأجبتهم، « إن المسألة في غاية البساطة.
فهناك ثلاثمائة وخمسون ألف مغربي ومغربية يولدون كل سنة، وبالتالي فإن هذا العدد ليس بالأهمية التي تؤثر على عدد السكان».
وقد ألهبت الكرة على التو حماسهم وشرعوا في العمل بدون كاتبات أو أجهزة حاسوب، وكانوا يحررون كل شيء بأيديهم، حيث كان يتعين إحصاء كمية الخبز اللازمة لإطعام ثلاثمائة وخمسين ألف شخص، وعدد الشموع الضرورية لإنارة الخيام.
وهكذا عملنا نحن الأربعة في سرية تامة حتى مطلع – – شهر أكتوبر، وهنا كان لابد من الإسرار للحكومة بذلك، وكذا لعمال الأقاليم حتى يفتحوا في الوقت المناسب المكاتب لتسجيل المتطوعين.
سؤال: لماذا تأخرتم كل هذا التأخير في إخبار الحكومة؟ جواب: لأن كتمان السر كان أسهل بين أربعة أشخاص، أكثر منه بين ثلاثين.
فما بالكم إذا أفشي السر لأزيد من أربعين عامل إقليم سيما وأن تسرب هذا السر كان سيكون مميتا وستكون له انعكاسات وخيمة على الصعيد الدولي.
وبحلول 57 أكتوبر، أصدرت محكمة العدل الدولية بلاهاي رأيها الاستشاري واعترفت فيه بأن روابط البيعة كانت قائمة على مر العصور، بين المغرب والصحراء.
فوجهت خطابا إلى شعبي أعلنت فيه عن تنظيم المسيرة الخضراء.
وقبل أن أتم خطابي، وكان ذلك في الساعة الثامنة ونصف مساء في بهو مفتوح النوافذ، بدأت أصداء الصيحات المتعالية من الأحياء المجاورة للقصر بمراكش تصل إل مسامعي.
ففي كل مدن وقرى المملكة خرج الناس إلى الشوارع يهتفون ويصيحون: «نحن متطوعون»، لقد تجمهرت في كل مكان حشود تفيض حماسا منقطع النظير، وكان بالإمكان لو أردنا ذلك أن نعبئ مليونا أو مليوني شخص لهذه المسيرة .
وقد شكلت النساء عشرة في المائة من العدد الإجمالي للمتطوعين، واكتشفنا فيما بعد أن منهن من كن حاملات، وإن إحدى عشر وضعن حملهن إبان المسيرة، ولم تحدث خلال شهر ونصف أي وفاة.
سؤال : ألم يبد بعض الزعماء الأجانب انزعاجا من مبادرتكم؟ جواب : على الصعيد الرسمي لم يكلف أي منهم نفسه عناء استفساري.
على أنه إذا كان علينا خوض حرب فتلك قضية ترجع إلينا.
وبما أن المغرب كان معبأ أحسن تعبئة، فإن طرح سؤال من أي كان سيبدو سخيفا، كما أنه لم يحصل استفساري لمعرفة وجهة نظري من أي رئيس أجنبي.
لقد انهمكنا في إعداد الأغطية والمواد الغذائية، والأدوية اللازمة لثلاثمائة وخمسين ألف شخص، كما اشترينا لهم خزانات مطاطية لحفظ الماء حتى لا يعانون من أي نقص فيه.
ولم يحدث في أي وقت من الأوقات أن عرفت الأسواق خصاصا بسبب عدم التمكن من نقل الطماطم أو اللحوم مثلا.
وكنت أنام قليلا، لكنني كنت أشعر بحيوية ونشاط، ربما لم أحس بهما من ذي قبل.
لقد كنت فخورا بشعبي.
كما كنت في نفس الوقت أعي جيدا أنه لو سارت الأمور على خلاف ما كنت أتمناه لكان ذلك بمثابة كارثة أتحمل تبعتها وحدي.
سؤال : على أي شيء كنتم تراهنون وأنتم تعلنون عن هذه المسيرة؟ جواب : كان الأمر يتعلق برهان سيكولوجي يتوقف عليه كل شيء، حيث كنت أعرف أن فرانكو وحاشيته عسكريون، فإذا تصرفوا كعسكريين حقيقيين فما كنت أخالهم يطلقون النار على ثلاثمائة وخمسين ألف مدني عزل.
سؤال: ولو حدث أن وقعت مواجهات ومذابح؟ جواب: في عديد من الخطب التي وجهتها آنذاك، كنت أحذر المشاركين في المسيرة من « أننا قد نجد حقول ألغام ومصفحات، وقد نواجه مدفعيات فوهاتها مصوبة نحونا».
فخلال الشهرين اللذين كنت أهيئ فيهما للمسيرة الخضراء كان هاجس واحد هو شغلي الشاغل وكان يتمثل في ذلك السؤال الذي ما فتئت أردده على مسامع جميع محاوري» ترى هل سيشبه الشباب المغربي المدلل الآن بمظاهر التقدم، آبائهم؟ وهل ستكون لهم كامل الشجاعة لمواجهة الدبابات؟ وكان كل من طرحت عليه السؤال يرد قائلا، « أن الشباب المغربي لم يتغير، إنه من طينة نفس الشعب».
سؤل: هل كان خوان كارلوس مشاركا في المفاوضات؟ جواب : كلا، لم يكن في الواقع مشاركا، فقد تم إيفاده إلى جزر الخالدات لكبح جماح العسكريين، وإفهامهم أن الأمر يتعلق بقضية اتخذت منحى سياسيا وليس عسكريا.
وكان الجنرال فالديز قائد القوات الإسبانية بالصحراء رجلا في غاية الانضباط، كما أنه لم تصدر عن إذاعتنا الوطنية طيلة المدة التي استغرقتها المسيرة ولو كلمة واحدة نابية تجاه – – إسبانيا، وما كنا نردده باستمرار هو» أن محكمة العدل الدولية قد أنصفتنا».
سؤال : في أي وقت بالضبط قررتم وقف المسيرة؟ جواب : في الوقت الذي أدركت فيه جميع الأطراف المعنية أن يستحين أن تحل الدبلوماسية محل الوجود بالصحراء، ولم يكن إرسال المغاربة في مسيرة إلى الصحراء، بالأمر الأكثر صعوبة، بل كان الأكثر من ذلك هو التأكد من أنهم سيعودون بانتظام عندما يتلقون الأمر بذلك وهم مقتنعون أن النصر كان حليفهم، وذلك ما حصل بالفعل، وبهذا الخصوص قد روى لي الملك خوان كارلوس فيما بعد واقعة طريفة، هي أن صحفيا إسبانيا استقل سيارة أجرة من مدينة أكادير للإلتحاق بالمسيرة الخضراء في طرفاية، وعلى بعد مائة كيلومتر من أكادير سمع السائق خطابي الذي أعلنت فيه أن المسيرة قد أدت مهمتها، وطلبت من المشاركين العودة، وتوقف السائق على الفور وعاد على أعقابه.
فسأله الصحفي وهو في غاية الاندهاش، ترى ماذا دهاك؟ فأجابه السائق: «لقد أمر ملكنا بالعودة وعلي أن أمتثل لأمر سيدنا».
سؤال: كيف كان رد فعل بومدين تجاه المسيرة الخضراء؟ جواب: لقد أوفدت له الحاج محمد باحنيني وزير الدولة الأمين العام للحكومة الذي كان صديقي وأستاذي والذي كان بحق ذاكرة المغرب، وبعد عودته، روى لي أن بومدين في حالة غير طبيعية، حيث بادره القول، « إنها حماقة أن تجمع 012 ألف شخص ليس أمرا هينا، إذ تصعب السيطرة على الوضع، لاسيما وأن ذلك يحدث على حدود بلادي وأنا معني بهذا الأمر».
والواقع أن بومدين كان يبحث عن أي سبب يمكنه من الزعم أنه معني بالموضوع.
فهو لم يخف محاولته هاته.
.
إذ كان يردد مطالبته على الدوام بتقرير المصير، في فيتنام والكمبودج انطلاقا من اقتناعه الراسخ، لذلك كان يرى أنه من الجور الصارخ أن لا يطالب بنفس الشيء للبوليساريو الذي كان يوجد على حدود الجزائر، إنه لغريب حقا أن يقول بومدين عن نفسه أنه مولع بالديمقراطية ومناصر لتطبيق مبدأ تقرير المصير.
سؤال : ومتى التقيتم به بعد المسيرة الخضراء؟ جواب : لم أره قط منذ المسيرة الخضراء.
ففي سنة 5797 ، كنا قد اتفقنا على الالتقاء في سرية تامة في بلجيكا، وأشعرنا بذلك السيد»راس»، رئيس المخابرات البلجيكية الذي بحث الموضوع مع العاهل البلجيكي والوزير الأول ووزير العدل، وقد هيأ البلجيكيون قصرين متجاورين، واقترح علي بومدين تاريخ 52 يوليو، فقلت له «إنني في تاسع وعاشر يوليو أكون دائما منشغلا بعيد الشباب، ألا نلتقي بعد بضعة أيام من ذلك؟ إلا أنه بعدد أيام قليلة سقط طريح الفراش ونقل إلى موسكو، تم أعيد إلى الجزائر وهو في غيبوبة تامة، إلى أن وافاه الأجل المحتوم، وعلى أية حال كان من الأفضل عدم التقائنا.
سؤال: لماذا؟ جواب: لأنه كان سيسفر عن لقائنا بدون شك، اتفاق وتسوية لقضية الصحراء، وكان سيتوقف عن أي تدخل في شؤوننا الداخلية، لكنه لم يكن ليقبل مطلقا أن نسترد النصف الآخر من الصحراء، الذي كان يريده إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
غير أن هذا الجزء من الصحراء رد إلينا بعد شهر من ذلك، وبالضبط في 57 غشت 5797 .
وإذ ذاك تنفست الصعداء وقلت مع نفسي» من حسن الحظ أن اللقاء على انفراد مع بومدين لم يتم»، وكان جليا أنه لم يكن في مقدور الموريتانيين، الحفاظ على الجزء الجنوبي من الصحراء، وإنهم كانوا سيتخلون عنه ذات يوم.
كما كان باديا للعيان أيضا أن للبوليساريو سيستغل الفرصة لينقض على الداخلة، وجميع ضواحيها.
لقد فطنت لذلك، وقمت أنا ووزيري في الداخلية إدريس البصري والأركان العامة للقوات المسلحة الملكية بإعداد إدارة محلية انكبت على دراسة الخرائط الجغرافية.
وذات صباح باكر، وبعد أن غادر آخر جندي موريتاني برج المراقبة بالداخلة، أقمت جسرا جويا تم عن طريقه نقل جميع السلطات العسكرية والمدنية والقضائية ومسؤولي الأشغال العمومية.
سؤال: أود أن أعود مرة أخرى إلى المسيرة الخضراء، فكيف يشعر المرء أن أمرا هاما يتم الإعداد له وأن هناك فرصة سانحة يجب انتهازها؟ جواب: إن الأمر شبيه إلى حد ما بحالة الطقس شريطة أن لا يعيش المرء في بلد ذي فصلين فقط.
حيث يكون نصف السنة شتاءا والنصف الآخر صيفا.
وحيث يحس المرء بقرب تغير الجو، وعندما تتلبد السماء يتعين عليه اتخاذ قرار إما باللجوء إلى أقرب ميناء للإحتماء به أو مواصلة الإبحار مع تلافي الصخور، والواقع أنني استشعرت تلك الأشياء، لكن لا أستطيع أن أشرح لكم ذلك بمزيد من التفصيل.
سؤال: ومع ذلك في سنة 5797 ، و 5782 ، كان يبدو أن الملف المغربي حول الصحراء لم يكن بالشكل المطلوب على الصعيد الدبلوماسي؟ جواب: أبدا فلا يجب أن نغفل أن العالم كان آنذاك مقسما إلى مجموعتين، فهناك الغربيون الذين كانوا ينتمون إلى ناد، وهناك الإتحاد السوفياتي ومن يدور في كنفه الذين يكونون معسكرا.
ففي النادي ليس هناك تضامن مطلق سواء على المستوى الأفقي والعمودي أما في المعسكر، فإن التضامن يكون فيه مطلقا عن كل قيد.
ومن هذا المنطلق، فليس صحيحا أن الملف المغربي حول الصحراء لم يكن مسيرا بالشكل المطلوب، كل ما هنالك أن الملف الجزائري كانت تتكفل به أزيد من ستون دولة.
ففي كل مرة كان يذهب فيها مبعوث جزائري إلى إحدى العواصم الخاضعة لنفوذ الإتحاد السوفياتي كان يحصل على كل ما يطلبه من دعم لوجيستيكي سوفياتي.
أما بالنسبة للمغرب فلم يكن يعتمد على بلد واحد أو بلدين من النادي الغربي وحتى هذا الاعتماد كان مرتبطا بمزاج ما، في حين أن الجزائر كانت تتلقى السند من جميع الدول التي تدو ر في فلك الاتحاد السوفياتي، بما في ذلك سفاراتها وشبكاتها الإعلامية.
سؤال : وعندما تم سنة 5797 اعتراف خمس وثلاثين دولة بالجمهورية الصحراوية، ألم يكن ذلك برهانا على كفاءة المعسكر السوفياتي؟ جواب : بكل تأكيد، وسأقدم لكم مثالا آخر.
لقد ذهبت في زيارة رسمية للإتحاد السوفياتي، وكنت أعرف معرفة جيدة الوزير الأول السيد أليكسي كوسيغين، الذي أعتبره من أبرز الشخصيات التي قابلتها، وقد كان ملما بملفاته أكثر بكثير من بريجنيف، وكان يتميز بسعة صدر مدهشة.
وهنا أسوق لكم رواية : فقد كنت أتناول معه طعام الغذاء بحضور بريجنيف وبودغورني، وحين حمل إلى كبير الخدم الشاي الذي أعده بالنعناع مال نحوي كوسيغين وهمس في أذني: «كيف تودون تقديم الشاي لهذين الفلاحين الروسيين، وهما لا يعرفان إطلاقا حتى ما تعنيه كلمة شاي.
دعهما يحتسيان الفودكا».
وخلال مقامي بموسكو حاولت التوصل إلى اتفاق بشأن إحدى القضايا، ذلك أن المغرب كان يستورد 82 أو 72 في المائة من مادة السكر وكان يتعين عليه فضلا عن ذلك تسديد ثمن هذه المادة بالدولار، فتقدمت بالإقتراح التالي إلى كوسيغين: أن الاتحاد السوفياتي ينتج السكر، فلماذا لا نبرم اتفاقا بهذا الشأن، بحيث يستورد المغرب السكر من الاتحاد السوفياتي، ويستورد الاتحاد السوفياتي من المغرب الحوامض والفوسفاط اللذين هو في أمس الحاجة إليهما، نظرا لأنه لا يستطيع استغلال منتوجاته بحكم ما يعرفه طيلة نصف سنة من صقيع وجليد، فرحب كوسيغين بالفكرة أيما ترحاب لأنه وجدها فكرة ممتازة.
إلا أنه عاد لمقابلتي بعد الزوال وهو في غاية الحرج والضيق قائلا لي :» لقد أبلغتني المصالح التابعة لي أن هناك بندا في الاتفاقية المبرمة مع كوبا يمنعنا بتاتا من مضايقة أسواق هفانا، وهنا أيضا يطفو المعسكر على السطح، فكوسيغين كان يعرف جيدا أنه سيخسر الكثير بعدم إبرام هذه الصفقة معي، لكن لم تكن بيده حيلة، إذ لايستطيع مضايقة كوبا.
سؤال : هل سبق أن التقيتم بكاسترو؟ جواب : في سنة 5707 ، وبعد قضية الصواريخ جاء كاسترو إلى الأمم المتحدة، ، حيث كنت موجودا ، فاستمعت له وهو يوجه السب والشتم إلى الولايات المتحدة الأمريكية طيلة أربع ساعات.
وكانت الخطوط الجوية السوفياتية تؤمن الرحلات بين موسكو وهافانا تتوقف في الرباط، وذات يوم أشعرت أن كاسترو يود وهو في طريقه إلى موسكو، الالتقاء بي أثناء توقفه بالرباط.
وفعلا اجتمعنا لمدة ساعتين، وتناولنا طعام الفطور معا.
وكان يرتدي الزي العسكري دون نياشين، وكان بسيكاره المعهود يتمتع بكياسة وثقافة مدهشتين.
سؤال : وماهي المواضيع التي تطرقتما إليها؟ جواب: تحدثنا عن إختلافنا الايديولوجي.
ولقد ترك لدي الانطباع بأنه ليس ماركسيا متشبعا بالفكر الماركسي فحسب، ولكن أيضا كان رجلا مصمما على عدم الاقتناع سوى برأيه، مصما أذنيه عن كل المحاولات، وأعتقد أنه ذهب بعيدا في تعهداته، وكان يدرك أن الإخلال بالإلتزامات يكون أحيانا أكثر أذى من مجرد التمسك باختيار معين.
ومهما يكن الأمر ، ولما أنه كان يستعصي علي أن أجعل منه مسلما غير شيوعي ملحد، فقد أضعنا وقتنا، ولكن بذكاء.
سؤال : لقد كانت وضعية المغرب بالصحراء سنتي 5797 و 5782 صعبة للغاية وهو يتعرض لهجومات عنيفة؟ جواب: أن ما كان يفقد الأمور توازنها هو أننا لم نكن أبدا نرد على كل هجوم مكثف بهجوم مضاد، بحيث حرصت على الدوام على احترام أراضي الدول المجاورة، ولو فعلنا خلاف ذلك لعمت الحرب إفريقيا الشمالية.
سؤال : كيف تفسرون الموقف المتصلب لخلف بومدين الشادلي بن جديد؟ جواب :يتعين في البداية العودة لظروف الجزائر آنذاك، فبعد وفاة بومدين كان هناك خمسة مرشحين لخلافته، وفي آخر لحظة قرر الجيش من يخلف بومدين يجب أن يكون عسكريا أولا، وفي نفس الوقت متوفرا على أسمى وأقدم رتبة عسكرية، فتوجهوا إلى الشاذلي الذي لم يكن له أي طموح، وكان شديد الحرص على الإقامة بوهران، وأفهموه أن مستقبل الجزائر واستقرارها رهينان بقبوله تولي السلطة، وفي الحقيقة فقد أجبر على تولي رئاسة الجزائر.
سؤال : ومن كانت له اليد الطولى على السياسة الجزائرية : هل العسكريون أم المدنيون؟ جواب: لقد أحدث المدنيون متاعب لنا أكثر مما خلقها لنا العسكريون.
فقد أبان الحزب الوحيد في الجزائر عن تصلب يفوق بكثير تصلب القادة العسكريين، فهؤلاء كانوا سيختارون طريق التراضي، لكن رأي الحزب هو الذي تغلب في الأخير.
سؤال : رغم ما كان للجيش من وزن؟ جواب : لا تنسوا أن حزب جبهة التحرير الوطني، كان آنذاك في أوجه، وكانت سياسة التصنيع المفرطة، تبدو وكأنها حققت نجاحها في مجال إحداث مناصب الشغل، كما أن العملة الصعبة كانت تتدفق على البلاد بسبب ارتفاع أسعار البترول، وأمام تماسك الحزب، أبى العسكريون إحداث مشكل للدخول في نوع من الإنشقاق، غير أنه في سنة 5775 ، وبعد أحداث الجزائر العاصمة انسحب الجيش من الحزب الوحيد، وذلك بمبادرة من الرئيس الشاذلي بنجديد.
متى تم أول لقاء بينكم وبين الشاذلي؟ جواب : بمحض الصدفة، وكان ذلك بمكة المكرمة بمناسبة القمة الإسلامية بالطائف.
فجميع رؤساء الدول والوفود قرروا أداء مناسك العمرة.
والطواف حول الكعبة المشرفة.
وبما أنني كنت أديت هذه المناسك، فقد صعدت إلى قلب الكعبة للتعبد، بينما كان الآخرون يطوفون حولها، وفي الوقت الذي خرجت فيه من الكعبة المشرفة، صادفت الشاذلي أمام الباب، ووجدنا أنفسنا مضطرين لتبادل الابتسامة، تم تصافحنا.
والحقيقة أن القدرة الإلهية شاءت أن نلتقي.
سؤال : وماذا جرى بعد ذلك؟ جواب : لقد التقيت مع الشاذلي بعد بضع سنوات بمبادرة من الملك فهد.
وتم اللقاء على الحدود قرب وجدة، وجاء لتناول طعام الغذاء معي تحت خيمتي، وتباحثنا طويلا لكن دون جدوى، وترك لدي انطباعا بأنه لا يؤذي، وأنه طيب وليس فظا ولا مغرورا.
وكنت على علم أنه سبق للشاذلي أن ذهب مرارا لمقابلة بومدين ليقول له : « إنك لست على صواب في قضية الصحراء، وأنا ضد ما تفعله»، غير أنه للأسف ترك لدي انطباعا بأنه قد جرفه تيار نظام الحزب الوحيد الذي كان الجيش ينتمي إليه آنذاك.
سؤال : ميزتم قبل قليل بين النادي والمعسكر، من هم أعضاء النادي الذين كانوا أكثر تحفظا تجاه المغرب في قضية الصحراء؟ جواب : لقد كان الإسبان الأكثر تحفظا، وقد أساؤوا إلينا كثيرا ، ومارسوا لعبة مزدوجة ، إلى أن جاء الاشتراكيون إلى الحكم فأبانوا عن قدر كبير من الواقعية، والآن فإن اتفاقية صداقة تربطنا، ونحن نعيش في صفاء تام.
سؤال : وماذا كان موقف «خوان كارلوس؟ جواب : يحق لي أن أفتخر وأعتز بأنني كنت أول من كاتبه بصفته ملكا، وعلاقتنا جد حميمة، ونتخاطب بصيغة المفرد، وقد اعتدنا أن يتصل بي هاتفيا أو أتصل أنا به كلما حدث مشكل.
لم تكن له سلطة تغيير مجرى سياسة حكومته.
، لكنه اعتبر على الدوام أن الصحراء مغربية، وأن هناك بلدا يتعين إرجاعه إليه، هو المغرب دون غيره.
كما أن العديد من العسكريين الشباب المستنيرين كانوا يشاطرون خوان كارلوس هذا الرأي وجميعهم ينتمون للجيل الجديد.
جلالة الملك الحسن الثاني يتحدث عن المسيرة الخضراء في كتاب«التحدي»
بتاريخ : 06/11/2019