على الرغم من أن العمل على محاولة الكشف عن الظواهر الفلسفيّة في النثر العربي القديم يستدعي الجدل، نظرًا لما يمكن أن يترتب عليه من تفسيرات وتأويلات جديدة، فإن الباحث الأردني طاهر رشاد صبح لم يتوان عن رصد ظاهرة الاغتراب، وتحليلها، في «الإشارات الإلهيَّة» لأبي حيان التوحيديِّ.
ويوضح المؤلف أن اختياره لـ«الإشارات الإلهيَّة» يعود لثلاثة أسباب: أولًا؛ لأنَّه كتاب يجمع بين النَّثر الصُّوفيِّ وأدب الرَّسائل على المستويين الفكريِّ والأسلوبيِّ، وثانيًا؛ لأنَّ مؤلّفه من أبرز أعلام الأدب والفلسفة، وأمَّا السَّبب الثّالث؛ فلأنَّه يمثِّل مختبرًا نموذجيًّا للاغتراب على الصَّعيد الإنسانيِّ وعلى صعيد تجربة التَّوحيديِّ بشكل خاصٍّ.
كتاب الباحث صبح، وقد صدر حديثًا عن «الآن ناشرون وموزعون»، في الأردن (2025)، جاءت في مقدِّمة، وتمهيد، وفصلين، وخاتمة؛ تناول في التَّمهيد كتاب «الإشارات الإلهيَّة» للتوحيدي بالمعنى الَّذي أعانه على استدراك جماليَّات ظاهرة الاغتراب فيه، كما عرض في التمهيد موجزًا من جماليَّات المضمون والأسلوب المقصودة في هذه الدِّراسة.
وقد أفرد الباحث الفصل الأوَّل للحديث عن جماليَّات المضمون والأفكار الَّتي دخلت في باب الاغتراب في «الإشارات الإلهيَّة». وبالاستناد إلى القراءة الفاحصة والتَّحليل الحثيث، ومنعًا للتَّشتت؛ وجد أنَّ الاغتراب في «الإشارات الإلهيَّة» يقع في أربعة مواطن، هي: الاغتراب الوجوديُّ، الاغتراب الاجتماعيُّ، الاغتراب الصُّوفيُّ، والاغتراب النَّفسيُّ. ولم يدَّخر جهدًا في تنظيمها وتنسيقها وفق ما جاء في مضامين الكتاب دون التَّصرُّف في النُّصوص وتأويلها إلى معانٍ بعيدة عن المقصد.
وخصصّ الفصل الثّاني للحديث عن جماليَّات الأسلوب والشَّكل في «الإشارات الإلهيَّة»، كما أنَّه أفرد جزءًا خصصّه للحديث عن تقنيّات شكل الرِّسالة عند التَّوحيديِّ، واستعان على ذلك بضروب من التَّحليل في ضوء المنهج الخطابيِّ وفي ضوء البلاغة الجديدة. فلم يدَّخر جهدًا في تنظيمه وتنسيقه وفق المتطلَّبات الرَّئيسة في هذا الفصل.
أستاذ الأدب والنقد، وعميد كلية الآداب والعلوم التربوية في جامعة فيلادلفيا الأستاذ الدكتور غسان إسماعيل عبدالخالق يقوم في تقديمه للكتاب: «طالما حيّر التوحيدي القدماء والمحدثين، بأدائه المعرفي الشاهق، وسلوكه الشخصي الغامض؛ فإن أنت ركّزت على خطابه علا وتعملق، وإن أنت ركّزت على سلوكه تضاءَل وكاد يتبخّر، ولا مناص والحال هذه من التركيز على الاثنين، والعمل قدر الإمكان على رصد العلاقة المؤلمة بين الكاتب والمكتوب.
وقد تجشّم الباحث طاهر صبح في هذه الدراسة، مشقّة الاشتباك مع أكثر كتب التوحيدي عمقًا وتحليقًا وشفافية؛ فلم يدّخر وسعًا لمقاربة ملامح الاغتراب في «الإشارات الإلهية» شكلاً ومضمونًا، إلى درجة أنه فاجأ أساتذته الذين أشفقوا عليه، جرّاء إصراره على ركوب هذا المركب الصعب. كما لم يدّخر وسعًا أيضًا لتسليط الأضواء على مفهوم الاغتراب، ماضيًا وحاضرًا، أدبيًا وفلسفيًا.
وإذا كان التوحيدي قد مثّل بخطابه وسلوكه، شكلاً معمقًا من أشكال قلق المبدع، فإن طاهر صبح قد مثّل في هذه الدراسة، نموذجًا للباحث المخلص للحقيقة، المنغمس معها وفيها، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
ويختتم الباحث كتابه بخاتمة قال فيها: «في ضوء تطوافنا بشخص التّوحيديّ وإشاراته الإلهيّة، وما اجتهدنا للتأشير عليه من جماليّات المضمون والشكل عنده؛ يمكننا أن نوجز أبرز النتائج والتوصيات الّتي تمخَّضت عن هذه الدّراسة فيما يلي:
أوّلًا: أوضحت هذه الدراسة، أن أدب الغربة في النثر العربي الإسلامي حقل حيوي، ويستحق المزيد من البحوث والدراسات الفكرية والجمالية.
ثانيًا: تمحورت بنية الحوار في «الإشارات الإلهيَّة» حول مراسلة التوحيدي لمخاطب مجهول الهوية، فظهر أن التوحيدي في كثير من الرسائل كان يخاطب نفسه.
ثالثًا: اتسمت بلاغة المضمون بعدد من ملامح الاغتراب مثل: الاغتراب الوجودي، الاغتراب الاجتماعي، الاغتراب الصوفي، الاغتراب النفسي.
رابعًا: اتسمت بلاغة الأسلوب بعدد من الملامح البارزة مثل: البنية الحوارية القائمة على أسلوب الترسل والرد، والمناجاة، والدعاء، وبروز أنماط من أساليب الإنشاء، وبروز أنماط من المحسنات البديعية التي ساهمت بشكل ملحوظ في توضيح معاناة التوحيدي.
خامسًا: أظهرت هذه الدراسة، أن مقاربة «الإشارات الإلهيَّة» انطلاقًا من منهجيات النقد الراهنة مثل: تحليل الخطاب/ الاغتراب والبلاغة الجديدة، يمكن أن تثري الدرس النثري بوجه عام.
سادسًا: يوصي الباحث بإيلاء النثر الصوفي في العصر العباسي، مزيدًا من عناية الباحثين، ويدعوهم لمقاربته من منظورات متعددة.
سابعًا: يوصي الباحث، بإيلاء «الإشارات الإلهيَّة»، مزيدًا من عناية الباحثين، ويدعوهم لمقاربته من منظورات متعددة.
ثامنًا: يوصي الباحث، بإعادة تحقيق وتنقيح وطبع «الإشارات الإلهيَّة»، نظرًا لأن النسخ المتوفرة ما زالت تعاني من وجود الأخطاء في التحقيق والطباعة».
جماليَّات الاغتراب في «الإشارات الإلهيَّة» للتوحيديِّ

بتاريخ : 29/07/2025