جيوب الخوف» للقاصة سعيدة لقراري وتطور الفن القصصي الحديث»

 

تدور معظم قصص «جيوب الخوف» للقاصة المغربية سعيدة لقراري حول الخوف، وحول ذكريات الطفولة ومسارات الواقع وأحداث كورونا، وذلك بلغة طغت عليها اللهجة المغربية ومفرداتها، وعادات الناس في الطعام، والشراب والملابس، والحكي الممزوج باللغة الأدبية والشعرية..
ثمانية عشرة نصا يتسع للشعر وللقصة وللخاطرة ولكل ما يكتب، ثمانية عشرة نصا تدور مع الخوف ذهابا وإيابا، بداية من خوف ثقيل، مابين الزوج والزوجة ويوميات كورونا، والنفور، والأمان الذي تحول إلى خوف، وقلق وروتين يومي ممل والجلوس أمام التلفاز والحديث مع الأصدقاء عبر الميسنجر أو الواتس، كنوع من قتل الوقت، ثم تأتي القصة الثانية، “رياح على إيقاع كورونا” لتنتقل من الإنسان إلى الزمان، والمكان والإنسان الذي يرقص في صمت ويهمس في الأذن متسائلا، من كنس الزحام وأخرس الضجيج؟
أين كنت وهذا يحصل؟
إنه الهدوء الذي يلبس الشوارع، الساحات، الملاعب، المدينة القديمة، و”جامع الفَنا” والملاحظ أن اللغة الأدبية طاغية إلى حد الشعر أحيانا، بل وإلى حد نسيان النفس السردي و الوقوع في خطأ الصورة والبلاغة التي ليس، مكانها هنا. كما في ص 11، وص 55، وص 72 حتى إن نص (أنا اكتب) ص 71 /72 لا علاقة له بالقص مطلقا فهو نص نثري ينتمي إلى قصيدة النثر بامتياز. ثمانية عشرة نصا تدور مع الخوف محملة بنقد الواقع أحيانا والتعايش معه أحيانا أخرى مضطرا لأن هكذا تسير الحياة مع الاستشهاد بالحكمة أحيانا والفلسفة، وأقوال المشاهير التي بدأت بها قبل الدخول إلى عالمها، وعالم مجموعتها القصصية جيوب الخوف، كالاستشهاد بمحيي الدين بن عربي المسمى بالشيخ الأكبر1165-1240 صاحب التصانيف الشهيرة (الرسائل) و(فصوص الحكم) وله ديوان مشهور بعنوان “ترجمان الأشواق” .. الطريق إلى الحقيقة متعدد بتعدد السالكين “وقول «ماروخ» الفيلسوف الهولندي” أهم فلاسفة القرن السابع عشر 1632- 1677 ” لا يمكن أن يكون الخوف بدون أمل ولا يمكن أن يكون الأمل بدون خوف” وهو صاحب الكتاب الشهير” علم الأخلاق” ترجمة جلال الدين سعيد. مسلك التصوف الواضح منذ البداية في مواجهة الخوف والأمل طبيعي ومطروح ومطروق من قبل والسبب ببساطة أن الإنسان حين يقف عاجزا أمام الاشياء الخارجة عن إرادته وقدرته يلجأ إلى الغيب وإلى ما وراء المعرفة لديه ويتمسك بأهداب الأمل والمخلِّص سالكا طريق المتصوفة متوهما أن ذلك طريق النجاة، يحدث ذلك أثناء المرض وتفشي الأوبئة وأثناء الحروب والفقر، وهذه الفكرة، شأنها شأن المخلص ونزول المسيح والمهدي المنتظر ، وكلها أساطير لا علاقة لها بالواقع ، وليس هناك دليل علمي أو ديني يدل على صحة ثبوتها، ومع تداخل الماضوية والغيبية مع اللغة الشعرية التي تمكنت منها القاصة ومن لغة الأدب، فالقصة كالشعر حالة من اللاوعي مريحة في مقابلة الوعي الواقع الغير مريح بل والمزعج إلى حد كبير للحالمين والباحثين عن الأمل، مع الفارق بين الشعر والقصة.
عوامل كثيرة يحياها الإنسان (المبدع) قد تؤدي به إلى هذه الثنائية التي يراها، الموت والحياة ، الداء/ الدواء، الفقر /الغنى، الصحة/ المرض، العدل/ الظلم، والبحث عنها قد يأتي عن الطرق الحقيقية لمن يريد أن يسلكها، وقد يأتي عن طريق التصوف أو فكرة المخلِّص، وأسبابها معروفة في الواقع وليس هناك مجال للغيبيات فعدم احترام الإنسان وتفشي الظلم والتعامل مع البيئة بجهل أدى إلى انتشار الأمراض، وتعامل الإنسان مع الإنسان دون احترام حقوقه، أدى إلى الظلم، وغياب الحرية التي هي في الأصل عليها مدار الإصلاح، الحرية في تداول السلطة والحرية في الاقتصاد، في العلم في النقد، غياب كل هذه الأشياء أدى إلى ضياع المجتمعات العربية، وهكذا لكل سبب مسبب، ولكل فعل رد فعل، إذا تعارض، أو إذا تغاضى عنه الإنسان، تفاقمت المشكلة وأصبح من الصعب عليه حلها، من هنا يلجأ صاحبها كفرد أو كشعب أو كدولة إلى الغيب أو إلى ما وراء العالم المرئي متسلحا بالأمل، وهذا الخوف الثقيل على حد تعبير الكاتبة جعلها تخاف وتتساءل وهي تلهي الصمت بالكلام، أحقا هي تدعي عشق الحرية، حالة تناقض، حرية تطرق القلوب بيد وتقطف الرؤوس بيد ..أخاف من دموع تستعير دموع التماسيح، أخاف من حب ينجح في جمع النقود القديمة ويتبجح بالإطاحة بالقلوب .. إلى آخر هذا الخوف الذي حوى كل شيء.. إنه شلال الخوف الذي أغرق صفحات الكتاب واليوميات والحياة.
تحاول القصة القصيرة في العصر الحديث أن تواكب الحياة اجتماعيا وسياسيا، وثقافيا وتتماشى مع متطلبات العصر وتتلاءم معه في الشكل والمضمون واللغة، والكاتبة حاولت من خلال جيوب الخوف أن تسجل أحداثا عاشتها وعاشها العالم برمته لكنها دارت مع الزمان والمكان بلغة بلدها وعاداتها وتقاليدها ومفرداتها كنوع من الخصوصية ، وإن كانت الكاتبة من خلال القراءة عربية بامتياز يلحظ ذلك القارئ من خلال الاستشهاد بمتابعة الأفلام والمسلسلات لا سيما المصرية وذكرها للمشاهير من أمثال عادل إمام وإسماعيل ياسين وكنوع من كسر الخوف عبر رسم البسمة على الوجوه، والاستماع إلى أغاني عبد الهادي بلخياط أحد رواد الأغنية المغربية، مواليد 1940 بمدينة فاس، ومن أشهر أغانيه: القمر الأحمر، قطار الحياة، والمقطع الذي ذكرته القاصة من اغنيته الشهيرة: كبرت المدينة، وفيروز وشعر نزار قباني الخ ..ثم إنها ليست منزوعة عن العالم الغربي بل تعرفه جيدا كنوع من الثقافة والتعايش من خلال مشاهدة الأفلام الأجنبية ومشاهدة شارلي شابلن مثلا.
وإذا كانت القصة تعبر عن حالة الفرد والمجتمع أو الفرد ودوره في المجتمع أو بروز دوره في المجتمع، كعنصر فاعل ومتفاعل مع الحياة، يفيدها ويستفيد ، إلا أن الحالة هنا مختلفة فالأحداث والزمان والمكان والشخصيات كلها محصورة ومجبرة أن تقبع خلف المرض والخوف من الموت الذي يلاحق الجميع، لكن الجوانب الفنية التي أظهرتها الكاتبة جعلت الحكي رغم الخوف والكآبة سلسا وسهلا ومعبرا عن لغة سليمة وسهلة تجمع بين العامية المغربية واللغة العربية الفصحى السهلة آخذة بيد القارئ وسط رحلة من الحكي الممزوج بالمعرفة والسياحة والتنقل بين الشوارع، الحدائق ، البيوت المغربية دون تجميل أو روتوش ، ثمانية عشرة قصة تعاملت فيها القاصة مع الأحداث والشخصيات عبر الزووم وعين الناقد وجعلت مقتضيات السرد تعبر عن نفسها ومجتمعها دون مواربه، عن حالتها وحالة عاشها العالم برمته.
قلت سابقا إن الأدب عموما يحمل بين مفرداته المتعة والفكر، والفكر لا بد أن يكون تنويريا وداعيا للتغيير والإضاءة على مناطق الخلل بهدف التقويم قدر الاستطاعة وكأن الأديب مصلح رغم أنفه لأن الأدب في الأساس يعبر عما يؤرق صاحبه لأنه يدل على نفسية الأديب، والأديب يحيا بين الناس هو واحد منهم وإنتاجه الأدبي ليس بمعزل عنهم. والقاصة هنا رغم طبيعة اللهجة المغربية إلا أنها عربية قومية تحب العرب والعروبة، وخاصة مصر في إشارة واضحة لفكرها القومي. من هنا كان القارئ لجيوب الخوف يلاحظ ما يلي: نقد الفساد والرشوة وتعامل الشرطة مع الناس بفوقية مثال نص ص 87 الفوريان* نقد الواقع المتمثل في عدم النظافة في الطرق المؤدية إلى القرى من انتشار القمامة، أكوام الزبالة، ص 81 نص الوادي الناشف انتشار الأمراض وخاصة بين الأطفال بفعل الفقر والإهمال وتدني الخدمات الصحية وندرة وجود المستوصفات الطبية، نقد وزارة الصحة وعدم توفير المستشفيات في كل المناطق. فعلى سبيل المثال إذا أردت أن تأخذ حقنة، فعليك قطع مسافات طويلة، ورحلة معاناة التصحّر وجفاف الأنهار على حدّ تعبير القاصّة (نهر جفّ ماؤه) تراكم النفايات التي تستقطب الكثير من القطط والكلاب الضالة
المحافظة على التراث الشفهي.. يجد القارئ اللهجة المغربية بجيوب الخوف حاضرة، لكن القاصّة باحتراف وذكاء، شرحت معظم المفردات في الهامش متحمّلة عناء البحث بدل القارئ. واللهجة المغربية في الأصل خليط بين العربية والأمازيغية والفرنسية، وفي المغرب كما في الدول العربية لها لهجتها الخاصة حيث تختلف من منطقة إلى أخرى ومن مدينة إلى أخرى. ففي فاس وجزء من مدينة مكناس وجزء من مدينة الرباط، تنتشر اللهجة الإدريسيّة نسبة إلى الأدارسة التي حكمت المغرب من 788إلى 974 وهي سلالة يرجع أصلها إلى آل البيت، وفي الحوز والشاوية تنتشر اللهجة الهلالية أو العروبية البدوية، والمجموعة القصصية تشير إلى ذلك، وعلى سبيل المثال، ساحة جامع الفنا كَتْصَفَّرْ ، أي خالية وفارغة من روادها ، خَلَعْتينا تعني قلقنا بشأنك، ديتاي البيع بالتقسيط، تراباندو: سلع مهرّبة ، العروبية ، الخامية الستار.. واللهجة المغربية في الحقيقة صعبة بالمقارنة مع اللهجة المصرية واللبنانية … الغناء والشعر، والذي يلاحظ معظم الروايات والمجموعات القصصية الحديثة يجد فيه أنّ أصحابها يلجؤون إلى الاستشهاد بالشعر والأغاني كنوع من كسر المألوف أو كنوع خلق عالم موازٍ للكآبة؛ فالشعر الذي هو بالضرورة في اللغة يعني ( الغناء) وهو لون من الفرح والمرح والسعادة والمطّلع على جيوب الخوف، يجد ذلك واضحًا في مقابل حالة الفزع ووجود شبح كورونا ص34 و 43 الفوريان كلمة الفوريان كلمة فرنسية، وتعني المخفر أو بالمغربي الحجز البلدي. فعندما تقوم بركن سيارتك بطريقة غير قانونية، فإنّك تعطي الحق للشرطة بتسجيل المخالفة وحجز السيارة ب “الفوريان”. وفي هذه العملية، تتمّ الاستعانة بخدمة جرّ السيّارات أو “الديبناج” التي تعمل تحت إمرة الشرطي الذي يشرف على العملية من بدايتها حتّى وضع السيّارة في الحجزوقبل نقل السيارة إلى “الفوريان”، ينبغي أن يحرّر الشرطي بيانًا تفصيليًّا بحالة السيارة، وأن يتمّ أخذ صور لهذه، وعندما تأتي لاستلام سيّارتك، تؤدّي أوّلا مبلغ المخالفة وتكلفة نقل سيارتك …
في النهاية استمتعت بجيوب الخوف وخرجت من الخوف إلى الأمل، ومن الكآبة إلى السعة. تحيّاتي للشاعرة والقاصّة المبدعة سعيدة لقراري.

* عضو اتحاد كتاب مصر
رئيس ملتقى الشعراء العرب


الكاتب : ناصر رمضان عبد الحميد

  

بتاريخ : 23/08/2024