…هل يعيش العالم العربي الزمن الراكد؟ هل ستظل قضايانا هي نفسها لتعمّر طويلا ؟ هل سيظل حالنا على ما كان عليه إن لم يزدد سوءا ؟ هل سنظل نعوّض واقعنا بآخر لا نعيشه إلا على مستوى الوهم ؟ ففي الوقت الذي تعيش فيه الأمم الأزمنة المفتوحة على الأسئلة الجديدة والقضايا المستجدّة مواكبة للعصر، تظل أمتنا تتخبّط في نفس القضايا غير عابئة بتحولات الزمن. من هنا تأتي راهنية كتاب إبراهيم عبد العزيز « أوراق مجهولة للدكتور طه حسين « ، والتي جمعها وأعدّها عن «أحاديث رمضان» التي كان العميد قد نشرها متتابعة بجريدة «الجهاد» خلال شهر رمضان من سنة 1354هـ، الموافق للتاسع والعشرين من نونبر 1935م . فمن أحاديث رمضان» إلى «أوراق مجهولة للدكتور طه حسين» انبسط الجدال والحجاج والسجال بين مؤيد ومعارض ، بين مدافع ومهاجم ، بين بارّ و عاق ، فأسالت الأحاديث ، كما الكتاب ، مدادا كثيرا ، وما كان لها أن تثير الزوابع لو لم تكن صادرة عن صاحب « على هامش السيرة « و» في الشعر الجاهلي « الذي ملأ الدنيا وشغل الناس ، ولو لم تكن قد وضعت الأصبع على الجرح حتى في الأمور التي نعتقد واهمين أنها أمور عابرة و تافهة ، فمن البسيط إلى المركب تنبسط محنة أمة … هي الجراح الغائرة التي خلّفت ندوبا، فجاءت هذه «الحواشي» بين الجراح والندوب تحتجّ على خيبات الزمن الراكد.
تحت عنوان «من أسعد الناس وأشقاهم « يتحدّث العميد عن كتاب لمدير المطبوعات في مدينة بلغراد عاصمة يوغوسلافيا نشرته وزارة خارجيتها، ووزعته بالمجان على كل مثقفي العالم، وكان العميد ممن توصّل بالكتاب، وهو عبارة عن نشرة ضخمة تعريفية للبلد، ومكونات هذه الدولة الجديدة الناشئة برؤية علمية احصائية دقيقة، تقف مطولا على الخليط المتجانس للشعب اليوغوسلافي من أقليات متعايشة على أساس تبادل الاعتراف واحترام الخصوصيات، فإذا به شعب بلا شغب، سعيد بتنوع مشاربه. ثم يتساءل العميد كيف لمصر، وهي التي لا يؤرقها ولا يرهقها سؤال الأقليات لم تستطع بلوغ سعادة الشعوب المتعددة الأجناس. كذلك هي أغلب الشعوب العربية كانت أسعد الأمم بوحدة دينية ولغوية، ولكنها كانت أشقاها لأنها لم تستطع بلوغ ما بلغه غيرها بأقلياته المتعددة، وقد عمل على خلق تناغمها وانسجامها كما تناغم وانسجام الجوق الواحد، وقد تعددت آلاته وتنوعت، وإذا الايقاعات متحرّكة في سمفونية لا نشاز فيها، غير أن وحدة الشعب العربي ، تلك التي تغنّى بها المنشدون طويلا، ظلت وحدة مهددة باستمرار، وقابلة للانفجار في القطر الواحد فبالأحرى أن تظل جامعة لكل الأقطار، إذ الأقليات في مثالك، سيدي العميد، كما هو الحال في مجموعة من الشعوب الأوروبية المعاصرة، والأمثلة كثيرة، معترف بها ومصانة خصوصياتها، ومرسوم لها بالتساوي حدود اشتغالها في فسيفساء تغني ولا تفقر، تضيف ولا تنقص، يجمعها حب الوطن، ويحكمها قانون واضح حصل التصويت عليه بالإجماع أو بالأغلبية، إذ لا ينبغي، من جهة، بجرّة قلم حرمانها من خصوصياتها المتوارثة خلفا عن سلف بكل ما فيها من طقوس ولهجة وعبادات وأشكال تعبير، بكلمة واحدة بكل ما لها من ثقافة،ولا يجب، من جهة أخرى، أن يستحوذ طرف واحد على السلطة بالحديد والنار، ويطمس خصوصيات الأقليات الأخرى ويعتقد أنها ذهبت إلى لارجعة، حتى وإن سلك في ذلك أعتى أشكال التطهيرالعرقي .
في العالم العربي، حضرة العميد ، إنما نعمل جاهدين، منذ الفتنة الكبرى، فقط على إخماد الفتنة، فنكون بذلك إنما نمارس سياسة النعامة، ونترك الفرص الذهبية للحطاب أ|ن يوقدها متى شاء، ويخمدها متى شاء، لأن أسباب الاشتعال تظل كامنة تنتظرعود الثقاب، فأقسى الصراعات الصراع الداخلي الصامت، والذي يظل ينتظر الصراع الخارجي، بل يساهم فيه، ليفصح عن نفسه بقوة، ويكون الإفصاح بمكونات بنية قبلية عصبية ظلّ منطق « أخذ الثأر» يشتغل فيها منذ داحس والغبراء، وبني تميم وبني تغلب، تلك التي أسس عليها العلامة بن خلدون، وعلى أمثالها، العربية والإسلامية ، نظرية العمران بامتياز .
ليس هناك على الإطلاق ، سيدي العميد ، شعب صاف طيب الأعراق ، بل هناك أعراق وشرايين بحكم سنن التاريخ وفرائض الجغرافيا، إما أن تتكامل في تناوب محكم، أوتنصهر في ائتلاف لا شوكة فيه ولا غلبة، فأسنان المشط المتساوية قادرة على فكّ بطانة الضفائر الكرداء السيئة في تسريحة تتماشى والقيم الكونية، حتى لا نعيش باستمرار فتنة الإرهاب المحتملة، والكامنة بالقوة في ثنايا صمت عواصف الصحراء، وغضب البوارج القادمة من السماء، فلا سبيل لإخماد الفتنة إلا بنزع فتيلها لا بتركها نائمة بكل كوابيسها المزعجة ثم نلعن يوما من أيقظها يوم لا تنفعنا اللعنة . تلك اللعنة التي كان قد فات أوانها وأودت بآلاف الأرواح البريئة وحوّلت الإخوة إلى أعداء، تماما كما أرّخت لها رواية « اللعنة « للروائي الجزائري رشيد المومني رحمه الله .