…هل يعيش العالم العربي الزمن الراكد؟ هل ستظل قضايانا هي نفسها لتعمّر طويلا ؟ هل سيظل حالنا على ما كان عليه إن لم يزدد سوءا ؟ هل سنظل نعوّض واقعنا بآخر لا نعيشه إلا على مستوى الوهم ؟ ففي الوقت الذي تعيش فيه الأمم الأزمنة المفتوحة على الأسئلة الجديدة والقضايا المستجدّة مواكبة للعصر، تظل أمتنا تتخبّط في نفس القضايا غير عابئة بتحولات الزمن. من هنا تأتي راهنية كتاب إبراهيم عبد العزيز « أوراق مجهولة للدكتور طه حسين « ، والتي جمعها وأعدّها عن «أحاديث رمضان» التي كان العميد قد نشرها متتابعة بجريدة «الجهاد» خلال شهر رمضان من سنة 1354هـ، الموافق للتاسع والعشرين من نونبر 1935م . فمن أحاديث رمضان» إلى «أوراق مجهولة للدكتور طه حسين» انبسط الجدال والحجاج والسجال بين مؤيد ومعارض ، بين مدافع ومهاجم ، بين بارّ و عاق ، فأسالت الأحاديث ، كما الكتاب ، مدادا كثيرا ، وما كان لها أن تثير الزوابع لو لم تكن صادرة عن صاحب « على هامش السيرة « و» في الشعر الجاهلي « الذي ملأ الدنيا وشغل الناس ، ولو لم تكن قد وضعت الأصبع على الجرح حتى في الأمور التي نعتقد واهمين أنها أمور عابرة و تافهة ، فمن البسيط إلى المركب تنبسط محنة أمة … هي الجراح الغائرة التي خلّفت ندوبا، فجاءت هذه «الحواشي» بين الجراح والندوب تحتجّ على خيبات الزمن الراكد.
تحت عنوان « عبرة للوطنية المصرية من موقف لبرناردشو « يقف العميد على نواة الأخلاق الوطنية في ما تناقلته الصحف من حديث الكاتب الإنجليزي برناردشو، وسيرته مع ديكتاتورها التاريخي في حثه الإيطاليين على رفض الإنجليز ، وسخطهم عليهم، حتى إن الإيطاليين، في ضيق نفوسهم بالانجليز وسخطهم عليهم ، دعوا الى مقاطعة الادب الإنجليزي ورجالاته باستثناء أديبين اثنين : « وليام شكسبير» لعالميته وأدبه الكوني ، و» برناردشو» لمخاصمته للحكومة الإنجليزية وموقفه المعارض لها . فما كان من الكاتب الكبير «برناردشو» إلا أن عبّر عن تبرّمه وسخطه الشديد على هذا القرار موضحا أن مخاصمته للحكومة الإنجليزية لا تعني مخاصمته للشعب الإنجليزي، ولا تعفيه من تعلقه الشديد بوطنه وحبّه الكبير له، وأعلن صراحة مقاطعته التامة للساحة الثقافية الإيطالية . هكذا يخلص العميد إلى العبرة من موقف برناردشو المعروف بنقده اللاذع والمستمر للحكومات الإنجليزية المتعاقبة إلا أن الغرور وحب النفس اللذين عادة ما يصاحبان الكاتب والفنان لم يحولا دون إعلان برناردشو عن موقف وطني خالص ، لا يفصل إطلاقا بين المواطن الحق ووطنه ، موقف راسخ يتقن تمام الاتقان الفصل الجيد بين الاشياء ، ولا يسمح له لا طموحه ولا غروره أن يتآمر على وطنه بأي شكل من الأشكال .
إن العبرة، سيدي العميد ، من مثالك عبرة مزدوجة، ما دامت « العبرة « عبور من معنى ظاهر إلى معان خفية، أولاها أنك تضرب المثل من ثقافة المستعمر نفسه لما بين الإنجليز والمصريين من عداء، وما للإنجليز من تجبّر وقوة وبأس، وكأننا بك تريد القول إن عظمة الدول من حب وإخلاص ووفاء مواطنيها . وثانيها أن العيب كل العيب إنما صادر منا ، نحن المهووسون بمنطق المؤامرة، فكم من مصائب، بعدك بقرن، علّقناها على مشاجب الغير، وفي أحسن الأحوال على رؤوس الخصوم، حتى أمسينا كلما حلّت بنا الهزائم التي ألفناها ، قال المتعلّم منا كما الأمي :» هذا من فعل اليهود « ، وكأننا كنا ننتظر من العدو أن يرمينا ورودا … لم نمارس إطلاقا نقدا ذاتيا نرسم به طلائع القطيعة مع ماضينا البئيس ، والالتفات الحقيقي لما نحمله بداخلنا من أعطاب نتحمّل بها، وحدنا دون غيرنا ، مصيرنا البئيس . فحب الوطن، سيدي، ليس شعارا أجوف، والوطنية ليست خطبة على منبر نزايد بها على بعضنا البعض، والتآمر تآمران : تآمر صريح يهز كيان الوطن ، يقوده انفصاليون من أبناء الوطن أنفسهم يهددون به وحدته، مروّجين لأطروحاتهم المنفعية الخاصة، بتكالب على المصالح الشخصية الضيقة، وبفطام قيصري عن مسقط الرأس وثدي الأم ليشكلوا، آخر المطاف، أصبعا باهتا في المحافل الدولية . وتآمر ضمني، وهو الأخطر، عناوينه الكبرى استشراء الفساد الإداري، وانتشار الزبونية والمحسوبية، وذيوع الريع الاقتصادي، واتساع رقعة أكل المال العام بالباطل، والمضاربات والاحتكارات … أما فواصل فقراته الطوال فالحديث فيها ذو شجون …
أتساءل معك، سيدي العميد ، وقد توالت علينا بعدك بزهاء مئة سنة آلاف الخيبات، ألم يحن الوقت بعد لنستفيد من درس «حب الوطن « لدى أبناء الكيانات الخصمة والدول المعادية، فدروس الخصم أفيد الدروس في تاريخ العبر.