حديث محبرة … الأدب الإسلامي: قريبا من الإيديولوجيا بعيدا عن الفن

الأدب أدبٌ، خيطٌ مُشِّعٌ يخرج رقيقا رفيعا بديعا ملونا من أعطاف الرؤية والرؤيا، والتجربة. شعاعٌ بنفسجي، بل شعاع قُزَحي بكل ألوان الطيف، ينبثق ـ فجأة ـ في مثل الحالة الإشراقية، والنزول الإلهامي، أو في مثل الحالة الأليمة المشبعة بالمكابدة، وإطالة النظر في الذات وهي تنوس بين الماضي والحاضر والآتي. وينبجس من عين الشعور، ومَسَامِّ الأحاسيس، وغُلاَلات الحلم ليبنيَ بيتا: حجارته الخيال، وزواياه الجمال، وسقفه الجلال، ومحيطه الحق والإبدال، إبدال بموازاة واقع آسن، طاحن، ينسحق فيه المرء انسحاقا، ويتسلع فيه تسليعا.
لاَ نَسَبٌ للأدب إلا اللغة، واشتعال الخيال، وبرّية الحرية والانطلاق كمثل مُهْرٍ نادَاه المضمار، وحقول النوار، وأفق لاَزَوَرْديٌّ يومض بلا قرار، ويغمر الفضاء والرحب بالأزرق والاخضرار.
لم يعرف تاريخ الأدب العربي ما سُميَ ب « الأدب الإسلامي « كدمغة واصفة في كل أطواره وأحقابه الذهبية، وتحولاته التجديدية المتفردة، إلا في وَجازَة زمنية انطفأت قبل أن تشتعل وهي زمنية الدعوة المحمدية. فقد ظل الأدب ـ والشعر في مقدمته ـ معنيا بالدرجة الأولى، باللغة والصورة والإيقاع، واجتراح البعيد والنائي من الاستعارات وهو يُشَكْلِنُ تعبيراته وأسلوبه كآنَق وأرْوَقِ، وأرفع ما تكون عليه الأقاويل الشعرية. هكذا، يعلن الشعر الجاهلي عن نفسه، والشعر الأموي، والشعر العباسي، والشعر الأندلسي، والشعر الإحيائي، والشعر الحديث والمعاصر. أما صفاته تلك: الأموي ـ العباسي ـ الأندلسي ـ الإحيائي .. الخ، فَلِداعٍ تحقيبي، وعِلَّة إبستيمية ليس غير. وأما الأغراض، والموضوعات والتيمات، فحدِّثْ ولا حرج. فمن المدح إلى الهجاء، إلى الفخر، إلى الغزل، إلى الوصف، إلى « التَّهَتُّك « عندما ارتبط بعض الشعر ـ حينا من الدهر ـ بالموجدة والشغف بالغلمان المُرْدِ. وعلى الرغم من إنكار واستهجان « المغالاة « الشعرية، والإغراق في اللعب واللهو والمُجون، من لدن علماء دين وفقهاء، وهي المغالاة، والبِدَع التي رحَّلَتْ الشعر إلى أنأى الأقاصي، فقد استمر الشعر سؤالا غنائيا، وجوديا، منبثقا من الذات، منبجسا من الخيال، يؤثث بالحرية واقعا مُكلَّسا، ويزركش بالصورة ما يراه قتامةً وحُنْدُساً، ومهاويَ.
إن إضافة الأدب إلى «الإسلامي»، ليس له من معنى سوى تَدْيينه، وإلباسه جُبَّة الداعية، ووضع سبحة « النظم « والوعظ في يده، وقسْره على أن يكون بوقاً زاعقا للدين، ومشروطا ـ بالحتم ـ في المناسباتية، ومنسلكا في رأسمالية السوق، والبيع والشراء. أيْ منسلكا ـ بإجمال ـ في العرض والطلب. من هنا، تَفَطَّنَ الأصمعي بنباهة اللغوي الفذ، والناقد الحصيف، إلى معاني هذه الحقائق لمَّا اعتبر أن « الشعر بابه النَّكَد، إذا دخل باب الخير لاَنَ وضَعُفَ «. ما يعني بتعبير معاصر: أنه تفطَّنَ إلى الإيديولوجيا والأدْلوجَة كقيد أثقل جناح القول في شعر حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة، وآخرين ممن سُمُّوا بشعراء الدعوة أو شعراء الرسول. فهو رَأَى ـ ونحن معه أن شعر ابْنِ ثابت الدَّعَوي، ضعف وارتبك، وتهلهل، ونزل وهَزَلَ قياسا بشعره أيام « الجاهلية». وما يعني، ثانيةً، أن الأصمعي ومن لفَّ لَفَّهُ من النقاد واللغويين، والبلاغيين، انتصر للخيال، وللحرية، وللغة وهي تحلق عاليا بأجنحة من ضوء وماء، واخْضِلال وغَضَارَة.
وكان الشاعر الفحل، لبيد بن ربيعة من الفطنة والذكاء حين امتنع عن نظم الشعر في الدعوة الإسلامية، وكان حديث العهد بالإسلام، إبقاءً على اسمه الكبير الذي كرسته معلقته الشهيرة زمن الجاهلية.
تنبغي الإشارة إلى أن دَمْغَةَ الأدب الإسلامي، كان نادى بها، ودعا إليها سيد قطب، ومصطفى صادق الرافعي، في ما كتبوا ونَظَموا، وتبعهم نجيب الكيلاني، وخَلْقٌ متأدب كثير، إلى أن طرحت الفكرة على بساط الجد والدعوة الإيديولوجية السافرة كخاصية ومخصوصية، فالْتَأَمَ جَمْعُ الدعاة إلى هكذا « أدب «، فيما سموه ب: ( رابطة الأدب الإسلامي العالمية ). إذ رأوا أن الأدب ـ شعرا ورواية وقصة ومسرحا ـ يجب أن يجسد عواطف الأمة ومشاعرها وأحاسيسها، وتصوراتها للذات الإسلامية، للكون والإنسان والحياة. ورأوا أنه أدبٌ ربَّاني يقوم على تصور عَقَدي ثابت هو: التصور الإسلامي السليم.
ألاَ نقول بعد هذا: إن « الأدب الإسلامي « توصيف إيديولوجي، وقيد حديدي في أقدام الأدب الذي خلق حافيا ليتحسس رهافة الورد تحت قدميه، أو يتلظى بالجمر وهو يَشْوي مُشط رجليه، ويتألم من أفلاق الزجاج وهي تُدْميه. الأديب المبدع حرٌّ، وحرٌّ، وحرٌّ. مُطَالَبٌ بالجميل والماتع والمِفَنّ والبديع، والجيد. وليس مُطَالَباً بالدعوة إلى العمل الصالح، وإرشاد القوم إلى الطريق الأقوم. فتلك أشياء مكانها وصدرها الدين، والمقالات الدَّعَوية، والخطابات الوَعْظية، والضمير الخُلُقي العام. إن الجمالَ في حده القريب، ومعناه العميق: أخلاقٌ، لكنها أخلاق من نوع خاص، وصنف مخصوص. أليس الجمالُ نقيضَ القبح، ونقيضَ الموبقات والشرور؟. أليس قيمةً ومَثَلا، وهدفا ومبتغى؟ لم يظهر حتى الآن ـ في تقديري ـ أديب إسلامي كبير، جليل الخطر إلاَّ ما كان من الشاعر الباكستاني محمد إقبال. غير أن الرؤية الفنية، والخيال المديد، والنَّفَس العُلْوي، هنَّ ما رفع أدبه وشعره، لا تَبَطُّنَهُ الدعوة بحال.
لا يوجد أدب إسلامي، ولا أدب مسيحي، ولا أدب يهودي، ولا بُوذي، ولا زَرَادُشْتي بحصر المعنى، وبما يفيد الهتافية والتقريرية. وإذا كان، فلا يمكن بحال إدراجُه في مجال الفن والإبداع والأدب.
إنما هناك أدب جيد، وأدب رديء.
لا أخلاقَ في الفن والأدب بالمفهوم الديني الضيق. كما لا تَهَتُّكَ فيه ولا خلاعة، إذ هو حرية، بَيْدَ أنها حرية مسؤولة في الأول والأخير.
كِدْتُ أقول: بدأ الأدب وثنيا، وسيظل كذلك: أَيْ « لا دينيا «، وتلك ميزته وتفرده، ونجاحه في عبور الأزمنة، واختراق الأمكنة.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 06/05/2022