حديث محبرة … مرثاةُ صغيرنا الملاك ريَانْ

 

بعدك، الكل محزونٌ: أهلك، مدشرك، دوارك، أقرانك، المغرب بلدك الكبير الذي لم تره، ولم يستوعب ذهنك الغض أنك فيه، فلا وجود لشيء بعد دوارك، باحة منزلك، فجغرافيتك مكانك وحسب. والإنسانية جمعاءُ ترقبت، وظلت تراقب قوْمَتَكَ، قيامتك، خروجك من الجُبِّ الذي ازْدَرَدَك.
الأنفاس انقطعت، والزفرات تعالت، والنياحات تصادت في كل الأمصار .. لدى الصغير والكبير، ذي العزم والصلادة، وذي الضعف والهشاشة. فالكل دعاء وانحباس أنفاس، وإشفاق على بنيتك التي تُعارِك الحجارة والتراب، والاختناق، والظلام الدامس الغِرْبيب الذي يلفك ليل نهار.
هل صِحْتَ، هل بكيت؟ هل توجعت، هل آلمك عضو فيك انكسر، وشكوت ضعفك وقلة حيلتك لترفع صوتك صارخا في البئر الزَّهوق، البئر الغادرة، البئر ـ البومة، طالبا عون أبيك، وحنان أمك وأخيك، وصحبك الذين افتقدوك تلك العشية العشواء السوداء التي أخفتك ووارَتْك خلف سُجُف الحلكة السميكة؟ آهٍ.. كيف قفزت إلى البئر؟ أم هي ما أغواك وجذبك، وزين لك أن الأمر لعب ولهو فقط؟، وأن لا خوف عليك من غرق أو سقطة تفضي إلى ما أفضت إليه؟. آهٍ ثم آهٍ ما أشرسَ الوحشةَ، وما أقسى الوحدةَ !!
تُراها نادتك ملحة أن تتكئ على أحد أحجارها، أو أخشابها، وأمسكتَ بأحد أشْطانها المهترئة، منحنيا متدليا تتَنشَّق ترابَها، وتتشمم رطوبتها وسخونتها، وتتسمع خطىً خفيفة كأنها خطى أترابك تناشدك بالهبوط سريعا لتلتحق بها. وها قد التحقت بالجوقة الكاذبة الموهومة التي تَرِنُّ كصليل الحصى في الوادي الهادر، لتلعب كما أَلِفْتَ، وتقفز كالجندب اللاّهي، أو كالشادن الرشيق كدَأْبِك، وتتمرغ في التراب ( ألست بدويا ؟)، كما تتمرغ الأنعام والدواجن التي تربي أمك، ويتعهدها أبوك بالتبن والفَصَّةِ، والشعير ، والماء المستحيل. هي ذي المصيدة. هو ذا الشرك اللعين. هو ذا القدر المقدور الذي لم ينتبه إليه أبوك، وصحب أبيك بالدوار، وهم يصلون على النبي، ويحفرون البئر، ويعمقون حفرها يوما عن يوم، وأسبوعا بعد أسبوع، طلبا وتوسلا للقعر أن يطفر فجأة ويجود بالماء، يجود بالحياة. الماء الذي كنتم في حاجة إليه: أسرتك ودوابها، وزيتونها، وحشائشها، وأحواض خضرتها التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
وفات أبوك، وجيران أبيك، أن البئر النَّزْحَ أشبه ما تكون بفم اللوثان، بحطام وخراب يسرح فيهما البوم والغربان. فاتهم أن صبيا ملاكا اسمه ريانْ سيصير يوما قربانا، وقد صارَ.
وآهٍ ثم آهٍ، كيف تحولت البئر من حقيقة مرئية إلى استعارة للفقدان والطمر والموت؟ كيف صارت بئرا ميتافيزيقية؟ وكم مات فيها من حفّار، لكن الأقدار وقفت عند ابننا ريان.
بين الظهر والعصر، صرختَ صرخة لم تصل آذان أحد، تبخرتْ في الوقت اليابس، وتَشَتَّتَتْ كريش الطريدة في الهواء. لأنك أمسيت يا ريانُ حبيس حفرة ضيقة على مسافة عمودية تقدر بأكثر من ثلاثين متراً بعيدا من الأرض، عن السطح الذي يا كم دككته بقدميك الصغيرتين، ويا كم لعبت فيه الكرة و» الغماية « مع أترابك، وهربت من سوط أبيك، وصوت أمك بعد أن تكون شيطنتك قد فعلت فعلها كأنْ تكسر جرَّةً أو صحنا، أو تسرق بيضة، أو تهرق زيتا، أو تتبول في سروالك من فرط البرد والصقيع الجبلي. وما بين منزلك / الطوب، وساحة لعبك، والبئر الفاغرة المنتظرة التي نسي أبوك أن يغلق فوهتها المصوبة نحوك، ما بينها أقل مما تحسبون: أمتار فقط، أمتار ملأى بالحصى للتراشق، وبالأحجار الكبيرة لصد الغرباء عن الاقتراب من الدار. أحجار بمثابة سور دائري وسياج يحيط بها، ويحدق بالأحواض.
وما للطيور يا ريان، مالها واجمة جاثمة لم تبرح وُكُناتها منذ أن نما إلى غريزتها الخَطْبُ الجلل؟ وما للأشجار مطرقة منحنية يلف عليها الحزن لفائفَ حدادٍ سوداً؟، والدجاج، دجاجك الذي لطالما نقنق وزَقَا، وهو يراوغك وأنت تصده عن القمح المعروض للشمس، والتين للتيبس، والزبيب، والقديد، وغيرها، ماله ساكن في خُمِّه سكون اللحد كأنه تشمم سكونك ورحيلك بعد أن افتقد صوتك وتوعدك وزجرك له؟
وما لأصحابك الصغار الأغرار وقد اصطفوا وتتابعوا كالكتاكيت الجميلة، بُكْمٌ خُرْسٌ بعد أن أعياهم صياحهم ونداؤهم عليك لتقوم فتكملَ فريقهم إذ هو ناقص واحداً، والواحد رقم رئيس في الشَّلَّة، فكيف به وقد غاب؟ ( ألم يقل بذلك إنجيل مَتّى )؟
والدوار، وقرى، ومدن المغرب من أقصاه إلى أقصاه، تبكيك، وتنتظر بلهفة الظمآن، خبراً يشفيها مما حل بها؟، خبرا يرد لحشاشة الروح قوتها، ويطمئنها ويزكيها. خبراً يُنْبيها بخروجك سالما من الجب كما خرج النبي يوسف عليه السلام؟ والعالم العربي، كل العالم العربي، يتابع دقيقة بعد دقيقة، آخر أخبارك، وأنت راقد هامدٌ في قرارة الجب الغائض، في أغوار البئر النزوح، لعل يدا إلهية، وقدرة ربانية، تنقذك، وتعيدك إلى أبويك، إلينا، إليهم بعد أن تنتشلك من الوهدة المظلمة الظالمة، فتخرج مشقشقا كطائر ملون، أو كفراشة خفيفة بديعة الأجنحة.
الإنسانية جمعاء أجمعتْ على حزنها مما اقترفت في حقك بئر غادرة، وقَدَر غَشوم. هل يكون غشوما والحال أنه مكتوب، مقدر في الأزل؟ أوّاهُ.. كم يَخِزُنا الألم، كم يمضنا الشوق إليك، وكم يضنينا الشك، ويعذبنا اليقين؟
أرأيتَ؟، هل كنت يا ريانُ تسمع الآلات المختلفة الهادرة المزمجرة وهي تشق التراب، وتفتت الحجر، وتقلب الكومة على الكومة، مفسحة الممر إليك، والطريق إلى حفرتك العصية البعيدة وهي على قرب؟، وخلفها فرق شتى من أبناء وطنك، يصلون الليل بالنهار من دون أن يناموا لحظةً، في سباق مع عقارب الساعة اللاسعة القاتلة عسى أَنْ يَسْترِدُّوك قبل أن يخطفك طائر الموت؟ هل ران ببالك يوما ـ وكيف يرين يا صغيري وأنت طفل غض الإهاب، هش العظام والأطراف، رخو البنية والأعصاب ـ أنك ستصبح ذاتا متفرقة في ذوات وجسوم وأرواح كثيرة عبر العالم، فردا ضعيفا أعزلَ يضحى جَمْعا قويا شديدا مؤزراً، محط أنظار وأبصار، وقبلة عيون وقلوب وعقول، وأفئدة انفطرتْ لما وقع لك وحل بك، وانكسرتْ لِما أصابك؟ هل مر بخيالك الملائكي يوما أن البئر ستأخذك إليها لاَ لتحضنك كأمك الرؤوم، بل لتخنقك، وتزهقَ روحك الأخف من ريشة؟ وهل مر بخيال أبويك المفجوعين، وأهلك وأصحابك وجيرانك، ومواطنيك في البلاد كلها، أن ابنها ريان سيُجْمِعُ عليه القلوب المنفطرة، والعيون الدامعة، والابتهالات المتقدة، والعقول النابهة، وذوي الشأن من أعلى وأكبر إنسان في البلاد الذي هو العاهل المغربي الأب الحنون، إلى آخر إنسان يدب على قدمين فوق هذه الأرض، وغيرها في مشارق المعمورة ومغاربها، في العالمين؟ هل هي مَكْرمة ومجدٌ رياني ما بعده مجدٌ؟. نعم، مختنقةً أقولها، بحسرة لأن ريان غابَ، وصار طائرا فردوسيا يسبح بجناحيه النورانيين في الملكوت الأعظم. ولأن ريان وقد صار أيقونةً ورمزا، وصورة للعذاب والتضامن الإنساني العظيم غير المسبوق، لم يعد بيننا. ستذكره أمه ـ بالأساس ـ وتبكيه آناء الليل وأطراف النهار ـ بكاء ظاهرا، وبكاء خفيا مريرا بدون قياس، ولو قَنْطروا والديه ذهبا وفضة، وملأوا أصابع أمه بالألماس والأحجار الأثمن الكريمة. فما في الدنيا شيء يعوض إنسانا ضاع، فكيف بصبي مغدور كان أمل الأهل والوطن؟
والإعجاب كل الإعجاب بالاستبسال الذي أتاه، وأبان عنه، وبرهن عليه، رجال المغرب الأشاوس المتواضعون، كل من موقعه، وبصفته، وصفه، وفريقه، مخاطرين بأرواحهم وقد تركوا عوائلهم وأبناءهم هم بدورهم، في سبيل إنقاذك، وإعادتك إلينا سليما معافى كما لو كنت طيلة الأيام الخمسة التي قضيتها في الجب، داخل مشيمة أمك الوقور. وقد نسينا في غمرة العاطفة والاندفاع، والدعاء، والأمل ، والمعجز الممكن، أن عمرك وجسمك وجوعك وعطشك، ووحدتك، وخوفك، وأنتَ مُكِبٌّ على وجهك أو مستلقٍ على جنبك، ليس في مقدورها / مقدورهم أن يسعفوك، ويُبْقوا عليك، متنفِّسا ومتحديا، وصامدا، وقد صارت حفرتك لحداً؟ فنمْ يا صغيري، نم قرير العين. فروحك الأصفى والأنقى من بحيرة ماء في أحضان واد لم يطمثه إنس ولا جان، ترفرف في الملكوت كالملإ الملائك تماما. ألستَ ملاكاً؟ أليست براءتك هي ما رمى بك في البئر وقد ظننتها حضنا رحبا ناعما، وسريرا وثيرا؟
فسلامٌ عليك ـ يا ريانُ ـ يوم وُلِدْتَ، ويوم متَّ، ويوم تبعثُ حيّاً.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 11/02/2022