ثمة أسئلة كبرى تطرح على النخب الثقافية العربية التي كانت تقف، في بعض نماذجها القوية، على محك التنافر القطري، غير قادرة على رسم طريق التكامل الثقافي الغربي. غير أن أطروحات كثيرة أنجزها مثقفون ومفكرون عرب ما زالت حتى الآن تطفو على السطح، لراهنيتها وقوة مضامينها، ذلك أن البلاد العربية ما زالت مستهدفة أكثر من أي وقت آخر، زمانيا ومكانيا، مع العلم بأن تلك النخبة تعلم يقينا أن الأحداث التاريخية العربية زاخرة بالصراعات، التى ما زالت تتكرر بصورة طبق الأصل فى تاريخنا الحديث- بغض النظر عن تلك المرحلة التي كان العرب يتبؤون فيها عالميا الهرم السياسي والحضاري.
في ما يلي حوارات فكرية مع بعض أعلام الثقافة والفكر في الوطن العربي.
بطاقة:
الدكتور حسن حنفي، أستاذ الفلسفة غير المتفرغ في جامعة القاهرة. من مواليد (1935م)، حاصل على ليسانس الفلسفة من جامعة القاهرة عام (1956م)، ودكتوراه الدولة من السوربون (باريس) عام (1966م). عمل أستاذاً زائراً في الولايات المتحدة (فيلادلفيا) (1971-1975م)، والمغرب (فاس) (1982-1984م)، ومستشاراً علمياً لجامعة الأمم المتحدة في طوكيو (1984-1987م)، وأستاذاً زائراً في العديد من الجامعات في فرنسا (تولوز)، وألمانيا (بريمن)، وأمريكا.
وهو صاحب مشروع «التراث والتجديد»، على مدى نصف قرن، ويتكوّن من العديد من الجبهات، منها: إعادة بناء التراث القديم في (من العقيدة إلى الثورة) (علم أصول الدين) 1987م، (من النقل إلى الإبداع) (علوم الحكمة) 2000-2002م، (من النص إلى الواقع) (علم أصول الفقه) 2005م، (من الفناء إلى البقاء) (علم التصوف) 2008م، (من النقل إلى الفعل) (القرآن، والحديث، والتفسير، والسيرة، والفقه) 2009-2010م. ومنها: الموقف من التراث الغربي في (ظاهريات التأويل) 1965م، (تأويل الظاهريات) 1966م، (مقدّمة في علم الاستغراب) 1991م، (فشته، فيلسوف المقاومة) 2003م، (برغسون، فيلسوف الحياة) 2008م، (رسالة في اللاهوت والسياسة لسبينوزا) 1973م، (نماذج من الفلسفة المسيحية للسنج) 1977م، (تعالي الأنا موجود لجان بول سارتر) 1977م. ويكتب الدكتور حسن حنفي في الثقافة الفلسفية، مثل (قضايا معاصرة) 1977م، (دراسات إسلامية) 1982م، (دراسات فلسفية) 1987م، (هموم الفكر والوطن) 1998م، (حصار الزمن) 2005م. وهو يكتب، أيضاً، في الثقافة السياسية: (من مانهاتن إلى بغداد) 2000م، (جذور التسلّط وآفاق الحرية) 2001م، (وطن بلا صاحب) 2008م، (نظرية الدوائر الثلاث، مصر والعرب والعالم) 2008م، (الواقع العربي الراهن) 2011م، (الثورة المصرية في عامها الأول) 2012م.
n ثمة أسئلة لا نهائية يطرحها حوار مع مفكر كبير مثلك؛ وهَبَ مشروعه للإجابة عن أسئلة عصية، لكن دعنا نبدأ من سؤال جوهري طرحتَه في مقدمة كتابك «من النقل إلى العقل»: هل يمكن أن تنجح عقلانية عربية مستمدة من العقلانية الغربية أو الرياضية ومقلدة لها بينما العقلية العربية مغروزة في العلوم النقلية»؟
pp القدماء صنفوا العلوم إلى ثلاثة أنواع. علوم عقلية خالصة لا دخل فيها للنقل مثل الرياضيات، والصيدلة، والفلك، وعلوم الحيوان والنبات، وهي علوم لا تخضع للبرهان. هذه العلوم هي التي تُرجمت إلى اللاتينية وأثرت تأثيرًا بالغًا في العلوم الأوربية الحديثة. وللأسف نحن انقطعنا عن هذا التيار. ولو ذهبت إلى قرطبة ووقفت في ميدان الغافقي وسألت: من الغافقي هذا؟ لعرفت أنه واضع علم البصريات وهو الذي حلل العين واكتشف مجالات الرؤية. وهناك علوم نقلية خالصة لا دخل فيها للعقل وهي للأسف العلوم التي تسيطر على الأزهر وأحيانًا على دار العلوم وأقسام اللغة العربية وهي خمسة: القرآن والحديث والتفسير والفقه وعلوم التصوف. وعلوم تجمع بين العقل والنقل وهي أربعة: علم الكلام أي أصول الدين، علم الفلسفة أي علوم الحكمة، وعلم أصول الفقه، ثم علوم التصوف.
n لكن مؤسساتنا العلمية وجامعاتنا لم تكن في أي لحظة عند هذا الوعي. كيف تفسر ذلك؟
pp تفسير هذا أننا أكثرنا في جامعاتنا من تدريس العلوم النقلية؛ لكن أين العلوم العقلية؟ لماذا نخشى من تناول العلوم النقلية ونتركها في أفواه الخطباء والدعاة وكل من يريد أن يتاجر بـ«قال الله وقال الرسول». لقد وضعت كتابي «من النقل إلى العقل» لكي أحاول أن أعيد بناء هذه العلوم الخمسة ليس باعتبارها علومًا عقلية خالصة ولكن على الأقل باعتبارها علومًا تجمع بين العقل والنقل. صحيح أن القدماء تكلموا فيها ولكن ما يهمني أنا ليس الوحي وجبريل وكيف نزل على الرسول. ما يهمني فيها هو أسباب النزول. فالوحي لم ينزل إلا بناءً على سبب. «ويسألونك عن الأنفال» أي في كيفية توزيع الغنائم فتنزل الآية لتنظيم الأمر. الأشياء العامة هي التي سأل عنها الناس وقتها، أما الأشياء التي لا يستطيع الإنسان أن يصل إليها مثل: «ويسألونك عن الروح» فهذه تمثل القيمة الإيمانية، لذلك ليس من الملائم الإفراط في الأسئلة حولها. لكن هذا للأسف ما يحدث الآن. نسأل عن كل شيء غيبي عن عذاب القبر وعن الروح وعن كل شيء ونختلف ونُكفِّر ونخرج عن الدين، في الوقت الذي يجب أن تكون أسئلتنا عن الأشياء التي تهمنا.. الفقر والاستبداد والاحتلال والغش والنهب والسلب وغلاء الأسعار وتفتيت الأمة والحروب الأهلية بين أعراقها. هذا هو التحدي.
n ولكن المناخات المحيطة بالعقل العربي بطبيعته التلقينية تُعزِّز فكرة التشدد كما أشرت. فكيف لنا أن نتجاوز ذلك؟
pp في علوم القرآن شيء مهم يتجاهله الوعاظ والدعاة هو الناسخ والمنسوخ، ويعني أن القرآن تدرَّج في أحكامه طبقًا للزمان حتى يراعي قدرة الناس على تنفيذ نواهيه. وأشهر مثال على ذلك تحريم الخمر كما يعلم الجميع. فقال في البداية: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى. ثم قال: فيهما إثم كبير ومنافع للناس، إلى أن وصل إلى وصفها بأنها رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه. إذن هناك أحكام، ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها. ونحن الآن نريد أن نطبق كل شيء في اللحظة ونعد الناس بالمستقبل ولا نحقق شيئًا. فهل معقول غلاء الأسعار بحيث يضرب السعر في أربعة أضعاف؟ هل هذا تقدير منطقي في الحفاظ على موارد الدولة؟
تقديس الشخصي
n ثمة رغبة قديمة في تقديس ما هو شخصي في التاريخ الإسلامي على حساب الانتصار للتاريخ الموضوعي. وربما يكون عِلْما الحديث والتفسير يمثلان دليلًا على هذا الالتباس. هل ترى ذلك؟
pp أما علم الحديث فقد أبدع العلماء في دراسة السند من المقطوع والمُرْسَل والرواية، لكن المتن نفسه لم ينقده أحد. حتى إن بعضًا قال قد يكون السند صحيحًا والمتن غير صحيح، وقد يكون المتن صحيحًا والسند غير صحيح. أليس علينا أن نقول شيئًا في المتن والسند؟ ولو أخذت تطور الرواية في علم الحديث لوجدت تغليبًا لحديث الرسول على شخصه، وكذلك السيرة. لكن مشكلتنا الآن أننا نغلب شخص الرسول على حديثه، بمعنى أدق نقدم الشخصي على الموضوعي. وأصبحنا نطلق استغاثات غير مفهومة مثل: أغثنا يا رسول لله، حبيبي يا رسول لله. وأخيرًا فيما يتعلق بعلوم التفسير فهي حتى الآن تمثل إشكالية. انظر إلى الطبري وابن كثير وسيد قطب وتفسيراتهم من الفاتحة إلى الناس، وانظر كيف تتكرر الموضوعات نفسها. هذا ما دفعني لعمل تفسير موضوعي للقرآن، وهو تفسير يقوم على تجميع الآيات التي تدور حول موضوع واحد. الظلم، العدل، الحرية، حتى نعرف رأي الإسلام في أيديولوجيات العصر. وقد طبعت هذا الكتاب على نفقتي؛ لأن الناشرين معظمهم يأخذون الكتاب ولا يعودون إليك. يجعلونك تدفع قيمة الورق ويعدونك بردِّ ما دفعتَ ولا يرجعون، فقلت: إذن لماذا لا أطبع الكتاب على نفقتي. ولكنني لا أدري ما أفعل في التوزيع.
n ولماذا لم تطبعه في إحدى هيئات الدولة؟
pp هيئة الكتاب طبعت الأجزاء الأول والثاني والثالث من كتاب «من النقل إلى العقل» بعد ست سنوات مع أنني تنازلت للهيئة عن جميع حقوقي في سبيل أن يخرج هذا الكتاب جزءًا كل عام. في بيروت طبعوا الجزء الأول فقط، ومكتبة مدبولي طبعت ثلاثة الأجزاء ثم توقفت.
n روى الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه «نقد الخطاب الديني» أنك في أحد اجتماعات الجمعية الفلسفية قدمت بحثًا انتهيت فيه إلى تقديم الواقع على الوحي، فهاج معظم أساتذة الفلسفة من الحضور وتحدثوا عن أن الوحي يمثل الحقيقة المطلقة ومن ثَمَّ لا مجال لمناقشته تحت أي ظرف، وأن أي جدل فيه يمثل نوعًا من المروق.. كيف تفسر هذا؟
pp نعم هذا ما قلته. وهو أولوية السؤال على الجواب. فهل الوحي ينزل بلا سؤال؟ تأمل مثلًا آية قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها. الوحي نزل عندما وجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يبحث عن قِبْلة. هذا لا يقلِّل من شأن الوحي، بل هذا ما يزيد عظمته. لماذا نتحدث فقط عن الواقعية عند ماركس وإنغلز ويوسف شاهين ونجيب محفوظ؟ النص يعالج واقعًا. النص يأتي تلبية لحاجة.