في بداية هذه الكلمة لا بد من القول إنّ المقارنة التي نرسمها بين “حفريات في الذاكرة(من بعيد)” لمحمد عابد الجابري(1935م-2010م) و”الذاكرة والمصير(محطات في سيرتي الذاتية” لفتحي التريكي(1947م) ليستْ من جنس المقارنات الفكريّة أو النقديّة أو الفلسفيّة، بل إنها لا تتجاوز في هذه الورقة الاحتفال بمفكرين عربيين الأول مغربي والثاني تونسي.
إننا سنترك لكلّ واحد منهما فرصة الحديث عن مشاغله السياسيّة والنضاليّة والثقافيّة والاجتماعيّة، حيثُ يكون تدخلي في استدعاء النصوص والقطوف من سيرتهما التي قد تبدو لي مناسبة وملائمة. فالذي يجمعُ بين الرجلين أكثر مما يفرقهما، فالقواسمُ المشتركة كثيرة في سيرتهما- حفريات في الذاكرة للجابري، والذاكرة والمصير لفتحي التركي- من قبيل “تيمات”: التعليموالمرأة والوطنية والسياسة والموت…إلخ. وهي التي سوف نعمل على الاقتراب منها في هذا المعرض.
إنّها “تيمات” ننتخبها حتى تكون منصة يتقدم كلّ من الجابري والتريكي للإدلاء بما استحضرتهُ ذاكرتهما من الماضي الذي ما زال يحيا في الحاضر. إذا كنّا قد قررنا عدم خوض غمار المقارنة بين السيرتين الذاتيين للجابري والتريكي وعلاقتها بالمشروع الفلسفي، فلا بد من القول هنا بأنّ مجريات الأحداث والوقائع التي كانا يتحدثان عنها هي من جنس واحد: مقاومة الاستعمار والمطالبة بالتحرر والاستقلال، تأسيس مدارس وطنية…
لعل هذه الـ”التيمات” أو المقدمات كافيّة في أن نجد بين الرجلين قواسم مشتركة كما ألمحنا لذلك، لاسيما وأنّ القاسم الذي يجمعهما هو قاسم الفلسفة والاشتغال بالفكر، وهذا ما يجعلنا نقول بكلمة جامعةٍ إنّ سيرتهما هي سيرة نقد للواقع السوسيولوجي والسياسي. وبالتالي، تكون “حفريات في الذاكرة”، و”الذاكرة والمصير” ذاكرة سياسية وثقافية تؤرخ لجيل كامل.
1.التعليم… المرأة والوطنية
لقد أكد الجابري في حفرياتهِ بأنّ المرأة كانت لها أدوار رياديّة في المجتمع المغربي، إذ استطاعت أنْ تحظى بفرصة التعلم والتمدرس في ظل مجتمع تقليدي محافظ. يقول الجابري:” على أنّ ما يثير الانتباه بصورة خاصة في هذا المجال هو أنّ الآباء الفجيجيين المعروفين بسلوكهم المحافظ سمحوا لبناتهم بالالتحاق بهذه المدرسة، حيثُ بدأتْ تدرس مع البنين في أقسام مشتركة وكنّ يتقدمنّ التلاميذ الذين يصطفون مثنى مثنى لقراءة الأناشيد الوطنية جهراً كلّ صباح قبل دخولهم إلى أقسامهم”. نفهم أن فتح المدارس هي وسيلة لنقل الوطنية “بكلّ ما تحمله الكلمة من معان سياسية واجتماعية وثقافية إلى الأسر والبيوت”. تلك هي التيمة ذاتها التي تحضرُ بصورة قويّة ودالةٍ في “الذاكرة والمصير” لفتحي التريكي يقول:” كانتْ عائلتنا محافظة مثل جلّ العائلات الصفاقسية الكبرى ولكن جدّي كان سباقاً في تعليم أبنائه. كذلك ساهمتْ المرأة الصفاقسية في النضال الوطني من أجل الاستقلال وعرفتْ السجن على فطومة نملة…”؛ وهذا ما عبّر عنه كذلك:” الجديد هو أن المرأة في تونس أصبحتْ هي التي تقود النضالات الاجتماعية والسياسية منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا…في تونس البنات والنضال شيء واحد”، ثم يقول بعد أحداث الاعتقال :” وفي الحقيقة ورغم الصدمة، كان أبي يحسبهم بأن شرفهُ يزداد قوة عندما علم أنّ بناته يناضلن من أجل الحرية والعدالة والمساواة”. وبهذا، فتحقيق الحرية لا يكون إلاّ بالوطنية وحب الوطن الذي كان ينمو في وجدان الجابري والتريكي. يقول الجابري:” إذا سألكم أحد كيف يعرب الفاعل فقولوا دائماً الفاعل مرفوعٌ، حتى لو كان الذي يسألكم هو الزعيم علال الفاسي وكان ذكر علال الفاسي ينطوي على معنى”. ثم يقول أيضاً:” لجنة إجراء امتحانات هذه الشهادة(الابتدائية) في هذه المدينة النائية، لجنة تتألف من السادة الأساتذة: مولاي مصطفى العلوي الذي كان مدير المدرسة الوطنية بمكناس، ومحمد العربي الأسفي الذي كان يعمل معه أستاذاً في نفس المدرسة، ومحمد التسولي مدير المدرسة الوطنية الحرة ببركنت(عين بني مطهر جنوب وجدة)وبلحسيني العلوي مدير المدرسة الوطنية الحرة بآزرو. وكان هؤلاء جميعا رجالات الحركة الوطنية البارزين، ويدل مجيئهم إلى فجيج كأعضاء في لجنة الشهادة الابتدائية مكلفين بتصحيح الأوراق وإعلان النتيجة، على المكانة التي كانت للحاج محمد فرج في قلب الحركة الوطنية المغربية…”.
إذن، جاءت الوطنيّة عند فتحي التريكي في سياق الحوار السياسي والنقدي لبناء العيش المشترك. إذ يقول:” وكان لنا طموح ثقافي نضالي رغم اختلاف نظرتنا للشأن السياسي. ففينا من كان ناصري التوجه ومن كان أيضا من البورقيبين والماركسيين وكنّا نتحاور تارة بهدوء وتارة أخرى بتشنج، ولكن دائماً بمحبة صادقة” كلّ ذلك كان يعبر عن صوت واحد لجيل عاش” فترة المنع والحجر والحرام والضرب على الأيادي..”. فضلا عن ذلك أنَّ العداء الكبير كان للاستبداد و”مقاومة الرجعية في الفكر والممارسة…لذلك شرعنا في قراءة البيان الشيوعي لكارل ماركس وفريدريش انجلز(…) وبدأت آفاق تفكير تتوسع بمطالعتنا وبعلاقاتنا المستمرة في مادة العربية والفرنسية”.
2- “تيمة” الاعتقال..
يتحدث الجابري عن وقائع سياسية وتطورها في المجتمع المغربي التي كانت قد خيّمت بظلالها على الشعب كلّهِ. يقول:” كانتْ أزمة 1983-1955م عامة شاملة. لقد سجلتْ هاتان السنتان منعطفاً تاريخياً ومرحلة انتقالية من عهد “الحجر والحماية” إلى “عهد الاستقلال والحرية” بالنسبة للشعب المغربي كلهِ(…) والحق أن المرحلة التي نتحدث عنها كانتْ أيضاً بالنسبة لمسار صاحبنا “منعطفاً تاريخياً””. نفهم من هذا أنَّ القمع الممنهج الذي مارسته السلطات الفرنسية على الحركة الوطنية بخلع ونفي محمد الخامس” كان من آثاره كذلك نظام الإقامة الاجبارية على والد محمد عابد الجابري . ثم، إن صاحبنا يتذكر جيداً أنه احتاج ذات يوم إلى مسمار في غرفته فخرج لشرائه من دكان قريب، غير منتبه إلى أنّ الوقت كان الساعة السادسة مساء، وهو الذي كان يبدأ فيه آنذاك نظام منع التجول.
وهكذا فما إن غادر الدكان حتى وجد نفسه مطوقا بستة جنود فرنسيين يشهرون بندقياتهم عليه من مسافة بضعة أمتار[…] قضى صاحبنا نحو أسبوع في كوميسارية(مركز الشرطة) في حالة اعتقال احتياطي ولم يشفع له إلا كونه كان يجيب عن أسئلة الشرطة بالفرنسية لغتهم.”، وهذا يجري على رجالات الحركة الوطنية الذين تعرضوا “ما بين سجون ومناف وأشكال أخرى من العسف وخنق الأنفاس” ورغم كلّ أشكال التضييق ومنع الحريات استطاعوا أن يستمروا في فتح المدارس الوطنية الحرة.
لقد طال الاعتقال فتحي التريكي، وهو مازال في عنفوان شبابه، كأيّ مناضل سياسي ومدافع على الرأي والسبب يرجعُ إلى محاضرة ألقاها عن الاشتراكية:” في محاضرتي أبديت رأيا وأكدت أن الاشتراكية الماركسية هي الوحيدة التي يمكن أن تكون علمية وهو رأي قابل للنقاش ولا للتعذيب والايقاف والاعتقال”. إذ على إثرها تعرض فتحي التريكي للاعتقال واصفاً سراديب القوة القامعة:” لم يمض على المحاضرة يومان حيث تحرك البوليس السياسي(…) أدخلوني قاعة الانتظار وأنا لم أنبش بشفة.. قررت أن لا أتكلم كثيراً وأن أستعمل طريقة الصمود والهدوء…هذه أول مرة تطأ رجلي مكاناً مثل هذا. كلّ شيء فيه حزين، مكان مظلم رغم نور الشمس الذي يحرق باحتشام نوافذه، مكان رمادي أسود بمكاتبه القديمة التي تشهد على أبشع أعمال الانسان الممكنة ويؤكد أن الحب والرحمة والكرامة، لا تقطن مثل هذه الأمكنة”.
كما أن شارع بورقيبة كان له رمزيّة كبيرة في ” الذاكرة والمصير” فهو يمثلُ لفتحي التريكي ورفاقهِ موقعاً للنضال السياسي والمساجلات الفكرية. يقول في هذا السياق:” أصبحتْ شقتنا الجديدة قبلة المناضلين من الطبلة. هناك نتجاذب أطراف الحديث في الواقع العامر للبلاد وهناك نتناقش حول الماركسية والاشتراكية و”التحريفية” كما نتناقش في مواضيع فلسفية وثقافية متعددة وكان يزورنا أحيانا في هذه الشقة ميشال فوكو وبعض الأساتذة من أصدقائنا”.
3. تيمة “اليهود”..
تحدث الجابري عن اليهود في مدينة فجيج المغربية الذين كانوا يعبرون بوجودهم عن التنوع الثقافي والعرقي فضلا عن قيم التسامح والعيش المشترك. يقول الجابري في موضعين مهمين من “حفريات في الذاكرة”. الموضع الأول:” والواقع أن اليهود كانوا يعيشون في فجيج حياة عادية تماماً. كان الذين يقطنون في قصر زناكة منهم يسكنون في حي وسط البلدة، قريباً من المسجد الكبير والساحة المركزية على جانب الحي”التجاري”(تميزرت) يزاولون التجارة والحدادة والصباغة وصنع الأحذية. وكانت متاجرهم قريبة من منازلهم التي كانتْ جدرانها تطلى بالجير الأبيض أو الملون على عكس منازل المسلمين التي كانتْ بدون طلاء إلا ما كان غرف الضيوف. وكان أطفال اليهود يلعبون مع بقية الأطفال…لا فرق”. أما الموضع الثاني من قوله: “وعلى العموم كان اليهود في فجيج يعيشون في هدوء وطمأنينة أيام طفولة صاحبنا.. ولكنهم غادروا بعد ذلك خصوصا خلال الحرب العربية الاسرائيلية 1947-1948”.
أما فتحي التريكي فيتحدث في الفصل الأول “الجبنان والبرج الكبير” من سيرته الذاكرة والمصير عن اليهود بالقول:” وقد أسفرتْ هذه الغارات على خسائر بشرية كبيرة، إذ عدّد المؤرخون أكثر من 1200شهيد من المدنيين بين عرب وفرنسيين ويهود كما تم تدمير كامل للمسرح البلدي يوم 30 ديسمبر 1942، وتدمير الكنيسة اليهوديّة والكنيسة الكبرى والكنيسة اليونانية ومعهد الإناث وكذلك لحقت أضرار كبيرة بعدّة جوامع ومنها الجامع الكبير بقلب المدينة العتيقة”. وهذا ما دفع عمر أزراج في مقدمة سيرة التريكي للقول:” في هذا الشأن نجد صور التنوع الإثني والعرقي، مثلاً، مسقاة من مسرح طفولته في مدينته “صفاقس” التي يروي عنها بأنها كانتْ السقف الذي تجمع تحته العربي والأمازيغي والمالطي والفرنسي والايطالي واليهودي وهلم جرا رغم تعقيدات وملابسات الشرط الاستعماري الفرنسي لتونس في ذلك الوقت الذي تؤرخ له هذه السيرة الذاتية “الذاكرة والمصير”.
4. تيمة” الموت”..
تحضرُ “تيمة” الموت في حفريات في الذاكرة كتعبير عن اهتزاز الذات أمام فقدان الأحبة والأقارب.. كتعبير عن لحظة مأساوية وقاسية عاشها الجابري في حدوث الموت إن جاز القول، مع الجد، والأب والأم) تلك التي يصورها تصويراً مؤثراً: “مشهدان تحتفظ بهما ذاكرته عن هذا المرض(الطاعون).الأول هو كثرة الموتى. لقد غدا الموت في تلك الأيام-وربما الشهور-عنصراً عادياً من عناصر الحياة اليومية يدخل ضمن “الكائنات” التي تعمر المكان والزمان مع كل ما يسم الحياة في ذلك البلد من رتابة وتكرار. لم يكن الناس يتحدثون عن الموت آنذاك كما يتحدثون عن “الغائب” أو النادر أو المخيف، بل كانوا يعيشون الموت في كل لحظة. لم تكن الحاجة إلى المآتم قائمة فالبلد كله مأتم. مأتم رتيب صار جزءاً من المألوف اليومي”. و المشهد الثاني هو أن الجابري سقط طرح الفراش جسما صغيرا ممدودا على الأرض مغطى بإزار أبيض، ومن حين لآخر تهجم عليه موجات من الحمى فيغيب عن رشده”. ثمَّ، يقول الجابري مستذكراً تلك اللحظات الأليمة:” لا شك أن قارئ هذه السطور يعتريه شيء من الانفعال، شيء من الشعور بالمأساة أو بما شبه المأساة: طفل في الثالثة عشرة من عمره يراجع دروسه ليلاً على ضوء قنديل مستلقياً على الفراش بجانب جده المريض ويده مشتبكة مع يده…ثم يأتي الموت بكل هدوء، بكل مكر الهدوء، ليختطف روح جده دون أن يستطيع هذا الأخير حراكاً ولا دفاعا سوى شخير كشخير النائم يودع به الحياة(…)تماماً كما فعل أبوه ساعة قبيل وفاته في مستشفى الدار البيضاء، بعد ذلك باثنين وثلاثين سنة(1981)”. والمشهد الآخر الذي يذكره هو واقعة موت أمهِ:” كانت الساعة حوالي الرابعة بعد الظهر، وكان جالساً في الفصل يستمع إلى الأستاذ(في السنة الأولى من الاعدادي عام 1951) حينما دق المدير على باب الفصل وفتح الباب ونادى صاحبنا باسمه بهدوء وجدية قائلاً: “فلان…تعال، أبوك يريدك”…خرج التلميذ من الفصل، وإذا بأبيه وراء الباب يباغته بالقول: “محمد…تعال…لقد توفيت أمك قبل قليل…اذهب إلى منزل خالك”[…] لقد فاجأته وفاة والدته مفاجأة وجد نفسه معها في موقف شبيه بموقف من يباغته حيوان مفترس مخيف فيواجه الخطر بقوة وسرعة، دون تفكير ولربما دونما إحساس، إذ تتجند كل حواسه وجميع طاقة جسمه لمواجهة الخطر، بالقفز وبالجري بقوة وسرعة خارقتين. حتى إذا نجا وزال الخطر بدأ حينئذ، في إدراك هول الموقف. وحينئذ فقط، يصفر ويرتعد وتخور قواه…ويستسلم لانفعال بعدي يفعل فيه فعله”. على حين تجد تيمة الموت في سيرة فتحي التريكي في الذاكرة والمصير حضوراً كمشكلٍ فلسفي وأنطولوجي، يقول:” من الصعب جدا كتابة السيرة الذاتية لأنّ ذلك يتطلب استنطاق الذاكرة واستحضارها لتتأقلم مع حاضر لم تكن فيه وتأوّل حاضرا غادرته…هناك توتر بين حاضر مضى وحاضر سيمضي… وهو توتر بين نقط الاستهراب التي تميز الاحداثيات ونقط التجذر التي تشدّ القول والفعل إلى سمات الماضي والأصل(…)وهنا أيضا تكون الذاكرة هي الحياة والذاكرة هي الحب وهي المصير وهي الموت…”.
5. تيمة “السياسة”…الفلسفة
بعد حصول الجابري على البكالوريا في حزيران/يونيو 1957م، والتي كانت” المرة الأولى التي تعقد فيها دورة للبكالوريا المغربية المعربة بصورة رسمية” فقد اشتغل في قسم الترجمة بجريدة “العلم” المغربية لكن صاحبنا لم يكن ينوي المكوث بها إذ كان يطمح الذهاب إلى سوريا للدراسة في جامعاتها(1957-1958).يقول :” أجل، كانت السنة التي عاشها في دمشق مليئة بالأحداث السياسية والقومية، أحزاب سياسية متصارعة متنافسة، مناقشات برلمانية صاخبة، وصحافة حرة تزخر بأنواع من المقالات السياسية والفكرية والأدبية…”.
وبذلك اختار الجابري الفلسفة، بعد عودته إلى المغرب، عند التحاقه بكلية الآداب بالرباط في تشرين الأول/أكتوير من سنة 1958. إذ ولم يكن” الاختيار” هذه المرة ،عملية سهلة،- أقصد اختيار البقاء في المغرب بدل الرجوع إلى سورية – بل كان لابد من معاناة قلق الاختيار مرة أخرى وكان لابد من اتخاذ قرار “حاسم” “.
أما فتحي التريكي فهو يستذكر سفره إلى السوربون لدراسة الفلسفة والتي كانت مليئة بتجارب فكريّة وفلسفيّة غنيّة بدروس ألتوسير وديريدا مما دفعه إلى تسجيل رسالة الدكتوراه في موضوع:” فكرة الحرب في الفكر السياسي الحديث” والتي نوقشت سنة 1974م، فضلا عن ذلك كانتْ لفتحي التريكي تجربة تحرير كتاب حول “نضالات الطلبة التونسيين من الاستقلال إلى ذلك الحين”. والذي يُعبّرُ عن حسرة ضياعه وحيرة فقدانه، يقول:” أنا لا أتذكر الآن مضمون الكتاب ولا أعرف قيمته العلمية. كان مفقوداً بالضياع واليوم أصبح مفقودا بالإرادة.. كان يمكن أن يكون وثيقة هامة للذين يريدون دراسة هذه الفترة الصعبة من تاريخ تونس”.
كما لصاحب “الذاكرة والمصير” تجربة مع منظمة اليونيسكو التي كانت فرصة مناسبة لاشتغاله على قيم العيش المشترك وفلسفة التنوع…يقول:” بدأتْ المغامرة في أواخر الثمانينات عندما دعتني منظمة اليونسكو للمشاركة في مؤتمر بمراكش حول وضع الفلسفة في تونس، وكان صديقي الفيلسوف المغربي علال سيناصر هو المدير لقسم الفلسفة بالمنظمة. قمتُ يومها بعرض مفصل بالأرقام حول تدريسها والبحث فيها في تونس فنال إعجاب الجميع واعتبره المدير ورقة رسمية في اليونسكو. ومنذ ذلك الحين أصبحت الورقة مرجعاً أساسياً في ميدان الفلسفة باليونسكو وشاركت في ملتقيات وندوات عديدة نظّمتها اليونسكو بباريس أو في بلدان عديدة”. وقد رصد التريكي أجواء تونس الثورة بتأثر كبير: ” أجهشت بالبكاء…نعم تأثرت كثيراً وبدأت تتراكم في ذاكرتي مقتطفات مبعثرة من أحداث متنوعة لكنها بقيت كلها في خانة التسلط والاستبداد”.
تلك هي سيرة “حفريات في الذاكرة” لمحمد عابد الجابري، وهذه هي سيرة “المصير والذاكرة” لفتحي التريكي، التي تروم كلّ واحدة منهما العمل على تأسيس واقع مغايرِ لما وقع في الماضي، واقعٌ يتطلعُ إلى مستقبل مشرق يتأسس على “معقولية جديّة للفلسفة تتخذ من التنوع والاختلاف أرضية، ومن الفلسفة منهجاً ومن الحياة اليومية ميداناَ، ومن التآنس والعيش المشترك في كنف الكرامة غاية سامية”. هذه هي المعاني الفلسفيّة الرفيعة التي تقتضي منّا العمل بها، والتفكير في دلالاتها ورهاناتها.