حكايات تروى لأول مرة على لسان رواد «الغيوان» -19- عبد الرحمان باكو: الغيوان ليست فرقة موسيقية فقط بل نمط حياة بالنسبة لي

نعود بجمهورنا الكريم في هذه السلسلة الرمضانية، إلى بعض من المسارات التي عاشتها الأغنية الغيوانية، والتي إما مرت دون انتباه أو ستسرد لأول مرة، وهي مسارات ومحطات ندونها على لسان رواد المجموعات، والذين منهم من انتقل إلى دار البقاء ومنهم من مازال بين ظهرانينا يتمم الرسالة والمسير…

 

اخترت في هذه الحلقة أن أنقل بعض المقتطفات مما دونته مع صديقي حسن حبيبي، على لسان لمعلم عبد الرحمان، وما دوناه هو مشروع كتاب سنصدره في القادم من الأيام إذا أسعفتنا الظروف، هذه المقتطفات، يسرد فيها باكو بعضا من تفاصيل العيش وسط الغيوان وما تكبدته الفرقة من تعب وصعاب والطرائف التي عاشوها، ويعرج فيها على بعض الأعمال المشتركة مع فنانين عرب، معاتبا الإعلام لأنه لم ينقل ما صنعته الغيوان خارج أرض الوطن … كالعادة أترك السرد كما هو، أي كما حكاه في حينه لمعلم عبد الرحمان حيث جاء على لسانه ما يلي:
يصعب علي في كثير من الأحيان أن ألملم شتات الذاكرة، وأنا أعرض حياتي مع «ناس الغيوان»، إنها حياة طافحة بالعشق والذكريات الجميلة، وكم هو مؤسف الآن أن أجد نفسي أتكلم عن هذه الحياة في صيغة الماضي، لقد عشت إلى جانب أصدقائي في المجموعة ما يشبه الحلم· لم أكن أتصور في أية لحظة من اللحظات أنني سأغادر الغيوان حيا، هذه المجموعة التي لا تزال حاضرة في القلب والروح· إلا أن الظروف شاءت غير ذلك، لم تكن الغيوان بالنسبة لي فرقة غنائية فقط، لكنها كانت مدرسة ورمزا وطريقة حياة، رأت فيها الفئات المقهورة من الناس، ولأعوام عديدة، لسان حالهم، وما كان لنا أن نصل إلى ذلك المستوى لولا صدقنا وإخلاصنا لفننا وإبداعنا وجمهورنا· ولعل هذا ما جر علينا التعتيم الذي عانينا منه ولسنوات طويلة من طرف وسائل الإعلام المغربية، وهو الشيء الذي لم أفهمه لحد الآن، وأقول هذا آسفا، لأن الصحافة لم تقم بدورها الإعلامي تجاهنا· فأغلب المقالات التي كتبت عن «ناس الغيوان» خصوصا في سنواتها الأولى، كانت تظهر بالصحف الأجنبية· يصدق هذا كذلك على الإعلام السمعي البصري الذي كان مقصرا في حقنا· في بداية الثمانينيات أنجزت التلفزة الإسبانية فيلما وثائقيا عن تجربة ناس الغيوان من خلال الموسيقى الگناوية، قدمه الكاتب الإسباني الكبير»خوان گويتيصولو»، وقد لقي هذا الفيلم استحسانا ونجاحا في الدول الأوروبية، ومع ذلك لم يعرض في المغرب. حدث هذا في الوقت الذي كان الجمهور المغربي إلى جانبنا، ولولاه لما عرفت المجموعة ذلك التألق والنجاح الذي صاحبها خلال كل فتراتها. لقد كنا نمثل المغرب أحسن تمثيل حيث شاركنا في عدة مهرجانات عالمية لم يتكلم عنها أي منبر صحفي· كنا أينما توجهنا إلا ونجد شهرتنا قد سبقتنا إلى هناك، حصل هذا في الدول العربية كما في الدول الأوروبيةوأمريكا·
أعتقد أن ما ساعد المجموعة في نجاحها، هو الانفتاح على باقي الفنانين. كان من بين هؤلاء الذين رافقونا خلال مسيرتنا الفنية، الفنان أحمد السنوسي (بزيز) الذي كان يحضر إلى تماريننا وإعداداتنا، وغالبا ما يبدي بعض ملاحظاته ويناقش معنا أعمالنا. عاشرت شخصيا هذا الرجل مدة طويلة، حيث كنت أقطن بمنزله الذي اعتبرته، ولمدة طويلة، منزلي. كان هو أيضا يحب «السنتير» بحيث كلما حضر عنده بعض الأصدقاء المثقفين، مثل عبد اللطيف اللعبي وآخرين، إلا وطلب مني الحضور لأعزف لهم· كان بيته مثل الزاوية مفتوحا في وجه الجميع· كنت ومازلت معجبا بهذا الرجل، بطريقة كلامه وحركاته وتعليقاته على الأشياء، فبالإضافة إلى كونها ساخرة فهي جد عميقة في دلالاتها، لقد شارك معنا في معظم حفلاتنا الناجحة، وكنا نشكل معه ومع «بنياز» أسرة فنية واحدة، كان منزله مفتوحا في وجه الفنانين والمثقفين، وقد حضرت العديد من النقاشات داخله بين ثلة من مثقفينا المغاربة والعرب. طلب مني يوما أن آتيه بآلة «سنتير»، فأخذ كلما رآني إلا وسألني عنه، قلت له يوما :»راني كنزوق فيه» فرد بطريقته المعهودة:»جيب لي السنتير وبلا زواق»·
كان يحضر معنا كذلك الفنان «الحاج يونس» الذي اعتبره شخصيا فنانا كبيرا، قدمت إلى جانبه ذات يوم بمدينة المحمدية عزفا مشتركا، وكان لأول مرة يجتمع فيها السنتير بالعود، فحصل تجاوب كبير بين الآلتين، ولسوء الحظ لم نكرر هذه التجربة· كنت وما أزال معجبا بآلة العود، يعجبني كثيرا «مارسيل خليفة» الذي سبق أن التقيته بفرنسا، وقمنا بحفل مشترك، حيث استضافنا أحد الأصدقاء في بيته، وهناك عزفت على السنتير، فنال إعجابه كثيرا· قال لي إن سماعه عن قرب يختلف كثيرا عن سماعه على الشريط، كما نوه كثيرا بتجربة «ناس الغيوان» التي اعتبرها رائدة ومتميزة· كما شرحت له دلالة بعض الكلمات مثل «السنتير يزير، ونغامو على الحصير، سكب وتعبير»· عندما وصلت إلى هذا الشطر قال لي إن هذه الجملة فيها ما يكفي لتلخيص تجربة الغيوان·
على المستوي العربي انفتحت المجموعة على طاقات أخرى، ولعل تجربتنا بليبيا كانت جد غنية، حيث كتب لنا «علي الكيلاني» أغنية «لماذا يا كرامة»، وأديناها رفقة الفنانة جوليا بطرس في حفل حضره الرئيس الليبي «معمر القذافي» الذي كان يحبنا كثيرا· وقد نوه بالأغاني ذات الطابع القومي، خصوصا المتعلقة بالقضية الفلسطينية، ومنها أغنية «دومي دومي»· أذكر، وأنا استعرض هذه الأغنية، أن المرحوم العربي باطما كان قد طلب مني أن أجد لها تقديما موسيقيا بواسطة «السنتير»، لم أنم تلك الليلة حتى وجدت ذلك «التقديم» حين أسمعته للعربي، أخذني في حضنه وعانقني بحرارة، كانت تلك طريقته كلما أعجبه شيء·
كثيرة هي الطرائف التي زخرت بها مسيرتنا الغيوانية، كان أغلبها يحدث لنا خلال جولاتنا الفنية وفي عدد كبير من البلدان، من تأخرنا عن مواعد الطائرات إلى تيهنا أحيانا وسط المطارات الدولية الكبيرة، مرورا بكثير من المواقف الساخرة والتي كان «عمر السيد» بطلها في كثير من الأحيان· الغريب هو أن كل واحد منا كان يمتاز بخاصية تجعل الآخرين إما يحتاطون منها أو يتخذونها ذريعة «للتقشاب»· كان العربي، رحمه الله، مزاجيا أكثر من اللازم، قد يضحك أو يغضب لأتفه الأسباب، وقد كنا نحن الاثنين من يتسبب غالبا في تأخر المجموعة عن بعض مواعيدها، حيث كنا نسهر الليل كله، وبالتالي نجد صعوبة كبيرة في الاستيقاظ صباحا· خلال استعداداتنا للأسفار، كان علال هو «نفار» المجموعة، ومعه لم نكن محتاجين إلى منبه، يكفي أن يقول له عمر إننا نريد أن نستيقظ في هذا الوقت أو ذاك فينام الكل قرير العين· والواقع أن علال كان رجلا مسالما، إذا قلت له ستغني ثلاث ساعات، يرد عليك لنغني ثلاث ساعات أو أربع كما تريدون، إذا قلت سنذهب في حال سبيلنا غدا، يرد عليك لنذهب من الآن إن شئتم، رجل لا تجد معه أدنى مشكل في البرمجة أو الاستعدادات·
مرة ذهبنا إلى تونس من أجل جولة تتخللها مجموعة من الحفلات· عندما وصلنا إلى هناك، فوجئنا بحرارة مفرطة ومنقطعة النظير، شخصيا لم أعش مثلها لا في مراكش ولا في الصحراء ولا في أي مكان آخر· كان العربي باطما، رحمه الله، من الناس الذين لا يتحملون الحرارة، تراه من فرطها يذبل ولا يقوى على الحركة، لكنه، وبمجرد ما يطل الليل ويهب نسيمه الأول، حتى ينسى ما مر عليه خلال النهار، فتراه يستعد للسمر، رافضا أن ينام ليستغل هذا الطقس العابر، كنت غالبا ما أنام معه في غرفة واحدة، نقضي الليل في الحديث والغناء والضحك· كانت نوافذ الفندق الذي نقيم فيه بتونس كبيرة جدا، بحيث أن ضوء الصباح، ومع إطلالة أول شعاع من الشمس المصحوبة بشرارة الحرارة يتحول السرير إلى جمرة ملتهبة، كما أن الحرارة التي تقتحم الغرفة باكرا لا تترك لنا فرصة للاسترخاء· كنا حين يطل علينا نور الصباح أتوجه إلى العربي قائلا:» الله ينعل الشيطان آجي نعسو شوية» ثم لا تمضي أكثر من ساعة حتى يبدأ عمر في طرق الباب:»يالله آسيدي راحنا تابعانا ثلثماية كيلومتر أو أربعمائة كيلومتر»· حينها يأخذ العربي رأسه بين يديه وهو يصيح «واميمتي آميمتي خلينا نتساراحو شوية، فين غادي نمشيو تاني راني كنموت»· لا خيار لنا إذن سوى ركوب الحافلة، التي غالبا ما تكون مهترئة، فنشق طريقنا في الصحاري وكأننا في اتجاه المشنقة، كل أفراد المجموعة متعبون، العربي، الذي كان يطفح بالفرح والحبور خلال الليلة السابقة، تراه مقطبا حاجبيه لا يكلم أحدا، تارة ينام وأخرى توقظه ضربة من الكرسي الحديدي الذي أمامه، «حالة واش من حالة» الكل يقاوم نوما مستعصيا·
قضينا هناك أزيد من أسبوعين، وكأننا نمر على «الصراط المستقيم» كل منا بدأ يشتكي من مرض معين· لكن المفاجأة الكبرى هي حين سنعلم مع نهاية برنامج الجولة، أنه يتعين علينا أن ننتظر أياما أخرى ريثما يهيؤون لنا مستحقاتنا من الحفلات· قال أحد المنظمين:»شكون هاد الصبار اللي غادي يبقى حتى ياخذ الفلوس»· انزوى العربي في مكانه وكأنه ليس معنا، علال أصلا لا يتكلم مع أحد، أما أنا فلم أتمالك نفسي، حتى وجدتني انفجر ضاحكا· «عمرالسيد» المسؤول الأول عن الفرقة أدرك أنه الإداري الذي يتوجب عليه أن يتكلف بمثل هذه الأمور، كان المسكين قد أخذ منه التعب مأخذه، نظر إلينا وهو يقول :» آش كاتشوفو في··؟زعمة نبقى أنا؟ لهلا يخلص شي واحد گاع»· وفي الأخير اتفقنا أن نبقى كلنا بتونس، وانتظرنا المنظمين، أسبوعا آخر نلنا خلاله ما نلنا من تعب وإرهاق وكأننا ارتكبنا جرما لا يغتفر·
مباشرة بعد عودتنا إلى المغرب، وقبل أن نسترد أنفاسنا، فوجئنا بـ»استدعاء» من أجل إقامة ثلاث حفلات في الصحراء المغربية لصالح جنودنا المرابطين هناك· لا مجال إذن للحديث مع العربي في هذا الموضوع، فما إن سمع المرحوم الخبر حتى صاح بأعلى صوته:»وا عباد الله راني حمق، ها وراق الطبيب، وانا هبيل آعباد الله»· ذهبنا نحن الثلاثة بدون العربي، قلنا لبعضنا البعض، ثلاث حفلات ستمر «بالعاطي الله»· تسلحنا بالصبر ثم توجهنا إلى الأقاليم الصحراوية، كانت الرحلة بدورها لا تخلو من متاعب، لم تمر الأيام الثلاثة إلا بمشقة الأنفس، وبينما نحن نستعد للعودة حتى فوجئنا بالمسؤولين «يأمروننا» باستئناف الحفلات، لم يكن باستطاعتنا أن نمانع، لا مجال هناك لمثل هذا الكلام، وهكذا بدأ حفل يتلو الآخر، كنا كلما أحيينا سهرة لصالح جنودنا، نقول هذه هي الأخيرة، فنفاجأ ببرمجة سهرة أخرى وفي مكان يبعد عن المنطقة التي نحن فيها بمائة أو ثلاث مائة كيلومتر، وكلما وصلنا إلى منطقة يستقبلنا بعض مسؤولي الجيش، يقولون لنا «يا الله لقيتونا قتلنا ثلاثة العقارب»· كنا نغني فوق الشاحنات، وكان الجنود لا يتركوننا ننام في الليل، يستعطفوننا كي نسهر إلى جانبهم، شخصيا لم أكن أمانع لأنني لم أكن أنام من شدة خوفي من سم العقارب· تطور عدد حفلات هذه «الجولة!» من ثلاثة إلى إحدى وعشرين حفلة·
رافقنا خلالها، الفنان حميد الزاهير وفرقته، المسكين بدوره أخذ منه التعب مأخذه· وصلنا إلى مكان لا أذكر اسمه، فقيل لنا لديكم الحق فقط في لتر ونصف من الماء، نشربه أو نغتسل به أو نفعل به ما نشاء· استمرت الحفلات حتى وصل عددها إحدى وعشرين حفلة مرت كلها في أجواء صعبة، الحرارة والخوف من سم العقارب والنوم في الخيام··لم نتنفس الصعداء حتى عدنا إلى مدينة «طان طان»، هناك فقط أصبحنا ننام في راحة نسبية·
«غرائب وخلاص» تبدو الآن بعيدة وجميلة ويظل فيها شخص العربي، رحمه الله، حاضرا بقوة·

 


الكاتب : العربي رياض

  

بتاريخ : 02/04/2024