حوار مع الشاعر والناقد عبد الغني فوزي:أنسحب في صمت،أعود في صمت، لا أحد ينتبه لأحد!

 

n اتفقنا على أن يكون حوارنا هادئا مفتوحا متمهلا، بوضع أسئلته وأجوبته على جمر خفيض، وأبدأ مما بلغته أقدامنا وأقلامنا: ما علة هذا الصمت المؤرق، الذي أعلنته قبل ما يناهز عقدا من الزمن تقريبا، خِيارا وموقفا، والذي يبدو جليا في نظراتك الشاردة واليقظة في آن؟

pp بالفعل، أحيا على قلق في علاقتي بالكتابة، باعتبارها خيار حياة ووجود، لكن وضع الكتابة في البيئات المعطوبة يضاعف من سؤال الجدوى، كما أن وضعها ضمن أحوال المجتمعات العربية متعدد الجراح، انطلاقا من سؤال القراءة وأعطاب المؤسسات بشكل عام، في علاقتها بالكتابة والثقافة؛ فكثرة أشكال الصد، يبدو معها الكُتّاب، كأنهم يمارسون الكتابة في كوكب آخر؛ هذه المعطيات وأخرى تجعلني في خصام دائم مع ما أكتب، لهذا أحيانا أتوارى خلف هذا الجبل من الركام المحروس، ليبقى كذلك، حفظا لنسل الضحالة؛ فالأمور الأدبية والثقافية تتراجع، وأوهام الكُتّاب أو الكتبة تتضاعف؛ فما معنى أن تكون كاتبا الآن وهنا؟ أتحدث هنا عن الكتابة التي تمتلك المقدرة على محاورة الاجتماع البشري.
الأعطاب لا تبالي بهذا السؤال، فحين نسعى لتشكيل الإنسان، يمكن ذلك ضمن مناخ من الحرية والديمقراطية، يمكن أن يحقق التفاعل البناء، كما عرفت تجارب بشرية؛ وفي المقابل، نحن في المجتمعات العربية في حاجة إلى عمل ثقافي جماعي، يتحرر أكثر من أوهام الأفراد وانتهازيتهم المفضوحة، المتمثلة في ميولات لا صلة لها بالثقافة ومؤسساتها التي غدت «مفروضة» أيضا، لأنها تشتغل بنفس منطق السياسيين المتحزبين والأنظمة في الرصد والحراسة للأركان؛ وهو ما اقتضى الإقبار والإبعاد، سعيا لمنافع آنية وظرفية؛ في نفس الوضعية يطغى الشعار والتلون و التزلف.

n تبدو منشوراتكَ مقتضبة، غير أنها بليغة المعنى والدلالة، تطالعنا بها من حين لآخر؛ هل هي الصيغة الأمثل والممكنة اليوم لإبداء الرأي والموقف مما يحيط بنا من ظواهر إنسانية وثقافية غير مقبولة بمنطق العقل؟

pp نقاوم التفاهة بالكتابة المتأملة والمنطلقة… ضمن الساحات المشتركة، ومن ذلك اللغة نفسها، اعتمادا على قلق السؤال الذي يتخذ خصوصيته في الشعر أو في المقالة. ومن المعلوم أن الكتابة نحت وقلق منثور،ولا يمكن أن تكون لها فعالية دون وجود مؤسسات ثقافية حقيقية، وتداول فعال لما تكتب الصحافة وما تعطيه المدرسة، وما توصله المؤسسة الثقافية… فهذا الفراغ يولد الطمس والخلط، فلا نعرف للشعر شعرا ولا للمقال مقالا، لهذا أبدو متأثرا فعلا؛ فالكتابة لا تقاس بغزارتها، بل بصيغها وأفكارها، بكيفية خلخلتها للسائد والنمط، على ضوء تجربة وأطر مرجعية؛ إنها غربة مركبة، من الواقع وتناقضاه، من المؤسسات بتلاوينها والتي تبعد الأدب بطريقة مقنعة، وصولا إلى الكتاب أنفسهم الذين انقسموا في الفتات فتاتا، فوصلنا إلى ضحالة «مخدومة»، لها مؤسسات تتحرك على قدم و ساق.. إنها الضحالة الجارية والتي تقتل الكتابة في مهدها، لهذا أنسحب في صمت، وأعود في صمت دون ضجيج العالم وادعاءاته، لكن الغريب، أن لا أحد ينتبه لأحد، حتى الذين غادروا الحياة؛فسؤال الذاكرة يطرح نفسه اليوم بإلحاح، مواجهة للطمس والتغييب، ضمن مجتمعات غدت استهلاكية وذات نزوع فردي بمعناه القريب دون رؤية أو أفق؛ لهذا وذاك، لابد من النهوض بأدوار، وهي أشغال المؤسسات الثقافية التي تنشط موسميا فقط، بهدف رد «الدين» قبليا، وهو ما يكرس الدائرية دون أعمال جليلة من قبيل الأرشفة والمساهمة في جمع الندوات التي تقام لهذا الغرض أي التجميع والتداول، لا أن تبث في الهواء بكامل الادعاء المصور.

n الإنسان في أبعاده الثقافية اليوم لا يبدو بألف خير؛ فقد الإنسان جوهر وجوده؛ من وجهة نظركَ ما العامل في هذه المحصّلة، التي تنبئ بكارثة فيما يتصل بالقيم الإنسانية؟

pp كثيرة هي العوامل التي تسعى إلى إفراغ الإنسان من حمولته الشعورية والعقلية، وتحويله إلى كائن مستهلك فقط، ضمن قطيع يصاغ على المقاس؛ قطيع لا يحلل، لا يقرأ، لا يتأمل… هنا تضيع الثقافة التي تؤنسن الإنسان و تهذبه، فتسود قيم السوق والاستهلاك ولو الإيديولوجي الذي يحافظ على المصالح والأشخاص الذين يدبرون السير دون نبل أو تخطيط مدني وحضاري؛ لذا، فالإنسان يعاني على كافة الأصعدة، فتضيع المعاني، معنى الحياة، معنى العلاقات الإنسانية، معنى الكتابة نفسها؛ وهذه المعاني في حاجة دائمة إلى البناء و العض عليها، على رغم من عماء السيل، أو بمعنى آخر النظر الأحادي. لا يمكن أن يضيع المعنى بأي شكل من الأشكال، فمع ذلك يضيع الإنسان عبر مسيرته؛ فالمبدع تحت الأرض ينتظر امتداده على هذه الأرض اعتمادا على صوته الضائع في هذا الكل المفرغ من معنى المعنى والحياة؛ وهو ما يؤكد وجود ميثاق سلالة الكتابة المبطن والساري في النصوص المؤسسة، فلا بد من التفكير في آلية حافظة للمتون، وتداولها بشكل واسع، لتتعاقب وتمتد في الزمان والمكان، لهذا ينبغي تدريب النشء على ذلك، من خلال التعرف على ما يؤسس ويبني قدرات الإنسان جماليا وعقليا وعاطفيا… وإلا غدت الحياة رتيبة وبليدة.

n ألا يبدو لكَ أن وجود الإنسان يتصل اتصالا وثيقا بالمعنى في شتى تجلياته، وحين افتُقِدَ المعنى فقد الإنسان عِلّة وجوده؟

pp طبعا حين يضيع المعنى ولو في أبسط تجلياته، يضيع معنى الإنسان الذي لا يفكر، لا يتأمل، لا يحلل… خاضعا بذلك لكل العمليات السياسية المغلفة بالنوايا؛ فحين يقول الإنسان «لا « و»كفى»، بناء على بصيص من الشعور والعقل، يمكن أن يتطور إنسانيا وليس صناعيا مستنسخا. لهذا فالأوضاع القاتلة من فقر وأمية ومعاناة وغياب فعالية مؤسسات التنشئة كالأسرة والمدرسة والمجتمع المدني… بل الأدوار الغائبة للمؤسسات الثقافية والسياسية، لتشكيل هذا الوعي الذييموقع الإنسان في الحياة، بناء على الأفكار، ضمن مناخ من الحرية والإبداع؛ ويغلب ظني، أن حلقة «الإبداع» ظلت مفصولة عن التطور السياسي للبشرية، فينبغي القول بالحرية والدمقراطية والإبداع، فلا بد من المدخل الثقافي لكل عملية تفكير أو عيش، لتنفتح آفاق الخيال والاجتهاد بشفافية، وبكامل الكفاءة دون غصب أو إبعاد بكل الوسائل، كيف تصير وتكون؟ دون قولبة ومقاسات، دون دخل للآخر الذي يهندسنا على هواه أو على جبره المستدير، ويسوقنا في رحابه طبعا؛ وبالتالي فإننا مُصيَّرون على وجوه ما، ليس فقط وجوديا؛ بل داخل اليومي وآلاته الخفية، فكثيرة هي الأشياء التي تأتي إلينا دون الذهاب إليها، لتعيد بناءنا أو تكريرنا كأجساد خام يمكن أن تتقيأ في أي مكان كدفعة غيض تقول الحقيقة دون تقديم وتأخير…
أظن أن حجم السؤال عريض في المجتمعات المتخلفة والمختلة المسيرة، فلنقل مع المؤرخين المجتمعات السائرة في طريق النمو الذي طال واستطال، فأصبحنا معه كائنات نامية باستمرار، ذاك أن الذات في تشابكها العلائقي، معرضة للكثير من الاختراقات، ومكبلة بمواضعات عديدة؛ وفي المقابل، يكون فعلها على قدر كبير من الثقوب، ويغدو الأمر أكثر حدة هنا حيث لا تبدي الذات أي مقاومة أو تموضع عاقل.

n الساحة الأدبية، جزء من كل، تخبط اليوم خبط عشواء، وما عادتِ النصوص، نصوصنا ونصوص الآخرين، باعثا على الطرب في تحصيل المعنى الذي كان يرافق هواجسنا اليومية؛ لماذا فقَدَ النص الأدبيّ توهجه وتأثيره في النفس، دون الحديث عن غياب تأثيره في محيطة الاجتماعي؟

pp تتأثر هذه الساحة- غير الشرفية- بكل هذه الأعطاب المتنوعة السالفة العرض، انطلاقا من نسبة القراءة المتدنية، إلى عدم احتضان الأدب، إلى إتلاف مسار الثقافة… فحين نحارب الأدب، إننا نحارب الإنسان؛ لكن الأمر يزداد حدة في المجتمعات النامية، ومنها المغرب حيث الخلط وغياب آليات الضبط والاعتبار، بل غياب المشروع الثقافي، فالكتابة شروط وآليات وخصوصية، والنظر للأشياء من نقطة ما، وليست ترصيفا للكلام، و بحثا عن الانتشار بأي طريقة، مما أنتج تفككا في كل المستويات الدلالية والجمالية. فيبدو لي الأمر كلعب غافل بأشياء خطرة كاللغة والتخييل والتصوير… للأسف حتى المتغيرات التقنية لعبت دورا خطيرا في الانتاج الأدبي والفني، الذي غدا سريعا كتركيب دراجة أو سيارة دون روح أو رسالة؛ و هو ما حول بعض الكتاب إلى آلات تسجيلأمام فورة اليومي بمفارقاته وتناقضاته، ضمن «تخليطة» بدون طريقة.
أمام شارع لاهث، لا يلتفت، مدفوع بالرغبة المنتفخة والآنية الموصدة دون غد مهما كان الأمر، وفي نفس الآن موصد على نفسه الممرغة في وحله «اللذيذ».
ضمن هذا الحال، فالكاتب على مساحة خلقه، لا يملك غير جسده للتخيل وإعادة البناء والهوس بعالم داخلي متراخ في الرمز إلى ما لا حدود، لأن لا خيوط ممتدة لهذا الجسد حتى يكون له شارع؛ فالناس تلتفت وتنعطف حول مشعوذ أو دجال، وهم أعرف بهؤلاء أكثر من أسماء و أسمال أي كاتب؛ فليتحرر هذا الأخير من أوهامه، وليعلم أن الكل أفرادا ومؤسسات في غنى عنه، عن صوته الخفيض ومساحته، وفي المقابل،ترى الكتاب «الكتبة» يروجون لكتبهم/ سلعهم، بواسطة إعلام توزع بدوره إلى فرق وملل…

n بالحديث عن صيغة الكتابة، ألا يبدو لك أنالنموذج الشعري الذي ساد في المغرب منذ ثمانينيات القرن الماضي، هو نموذج أسس له شعراء المؤسسة الثقافية والسياسية ذات التوجه الحداثي اليساريّ بالمغرب؛ اتحاد كتاب المغرب والاتحاد الاشتراكي تحديدا؟

pp يغلب ظني أن الشعر، في المغرب في فترة الثمانينيات، انعطف نحو فضاء مفتوح علي الكتابة، يعيد الاعتبار لسؤال الشعر الذي خرج من فترة الرصاص الايديولوجي منهكا. فتنوعت الصيغ الممركزة للذات. لكن بأي شكل تحررت القصيدة؟ و هل بنت خصوصيتها؟ يغلب ظني، أن القصيدة المغربية المعاصرة خرجت منهكة الصوت والتشكيل الجمالي من فترات الستينيات والسبعينيات من القرن السالف، نظرا للإرغامات الاجتماعية والإيديولوجية، التي كانت تجذب إليها كل شيء وتقولبه وفق مقاسها. وانطلقت هذه القصيدة مع الثمانينيات باحثة كتجارب ورؤى عن صوتها الشعري الخاص، ضمن رحابة إنسانية وثقافية، تعمق المفاهيم ومفردات الحياة. فكان أن فتحت نوافذ واجترحت ممكنات لغوية وجمالية عديدة. وبالتالي فالنص الشعري المعاصر خلق مساحات مستحدثة في القول والنظر دفعت القصيدة العربية ومنها المغربية إلى تمثيل تقنيات جديدة، وفق بلاغات مغايرة متخففة من الحمولات الثابتة والجاثمة، باستلهام تقنيات عديدة في إطار تطور النوع؛ وانفتاحه على حقول معرفية وإبداعية أخرى. وهو ما دفع إلى إعادة النظر في مقولتي الشكل والمضمون. وكذا التراجع عن قوانين نقاء النوع واستلهام التراث بإعادة تكوينه في انفتاح على تبدلات العصر والثقافات الإنسانية . نستحضر هنا الملمح الأتوبيوغرافي في الشعر المغربي المعاصر الذي غدا زاخرا بأنفاس عديدة (سير ذاتي وسردي، درامي..) . ويمكن أن نستحضر بعض المجاميع الشعرية التي احتفت بدفء المكان وامتداداته أو بالشخوص المذوتة، والإعلاء من شأن التفاصيل. نذكر على سبيل التمثيل هنا ديوان «أياد كانت تسرق القمر» لعبد الله راجع، و»عاريا أحضنك أيها الطين» لمحمد بوجبيري، و»حياة صغيرة» لحسن نجمي، و«المكان الوثني» لمحمد بنيس، و»شرفة يتيمة» لصلاح بوسريف… لكن السؤال الذي يطرح هنا: كيف تقول الذات سيرتها الأولى؟ وبأي بلاغة؟
غير خاف أن الممكنات الجمالية والتخييلية تتخذ لمسات خاصة تبئر أساسيات الذات كالذاكرة والرغبة والحلم… ومحاولة سرد سيرة ذاتية، عبر تحقق شعري، دون وهم المطابقة للعناصر الفارقة بين الشعر والسرد. لكن التجارب في حاجة إلى الدراسة والضبط أولا دون نوايا مسبقة أو عموميات؛ مثلما هو مطروح في دراسات بعينها لها الفضل في التناول أولا. لكن طغيان العموميات من خلال تصنيف جيلي دون معايير جمالية تنتصر للشعر دون الأشخاص والمؤسسات. نعم هناك مشترك بحكم اللحظة التاريخية لكن هناك الخاص، كون أن كل تجربة شعرية ترقب العالم من نقطة ما. وهذا الخاص هو أكبر من أي توجه خلفي، إن وجد ـ لأي مؤسسة ثقافية وسياسية؛ فاتحاد كتاب المغرب في فتراته الأولى، أي الستينيات حتى الثمانينيات، كان واجهة من واجهات الصراع السياسي، لذا كان تابعا بشكل مقنع لقوى اليسار ومنه بالأساس الاتحاد الاشتراكي بحكم انتماء الكثير من الأعضاء للاتحاد برأسيه وغيره.لكن السؤال الذي يطرح هنا:هل كان لاتحاد الكتاب توجه شعري؟ أو روائي..؟ إنه ينتصر لكل شكل جديد وحداثي. وفي المقابل: هل للمؤسسة الحزبية تصور ثقافي متكامل وبالأحرى شعري يمكن فرضه ؟ الأمر يتعلق بمبادئ عامة، خلقت لنا كتابة عامة أيضا، مما أدى إلى تشابه النصوص. بل امتد ذلك حتى للخطابات الموازية التي تردد نفس المقولات، لذا على المؤسسات الثقافية أن تنهض بأدوار كثيرة ظلت مغيبة؛ منها دراسة التجارب الشعرية وتقديمها للمجتمع، وفي ذلك تلقين دروس للجامعة و المؤسسات الحزبية، لخلق نقد يتحرر من الاجترار والببغاوية.

n ألا ترى، معي،أننا ونحن نحاول تكريس هذا النموذج الحداثي، لم نكن سوى أرقامٍ وآلياتٍ وظفتها المؤسسة الثقافية والسياسية في مواجهة خصومها؟

pp كيف يمكننا إعادة النظر في مسيرة الشعر العربي المعاصر؟ طبعا لا بد من الاضطلاع على التأسيس والامتداد على انعطافاته الدلالية والجمالية؛ فالسؤال على حدته لا يقتضي التشكيك في هذه المسيرة، لكن في ما يبدو لي أن تلك المسيرة تحمل الكثير من الغثاء أمام نصوص تأسيسية، وبالتالي نجد أنفسنا أمام نماذج شعرية على ارتباط بشعراء، يمكن الحديث هنا عن شعرية السياب، وشعرية أدونيس وشعرية درويش… وفي المقابل يمكن الاقرار بالأتباع والتائهين… فتلك التجارب التي لها مقدرة على الحوار مع الشعر في ظل مشهدية العالم أسست لحداثتها. كأننا أمام حداثات تمر عبر حلل شعرية، أعني قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. ويبدو أن هذه الأخيرة أكثر صعوبة في الكتابة على الرغم من استسهالها والركوب عليها كمطية غافلة، مما أدى إلى سوء الفهم الكبير لها. قصيدة النثر تشظي له روحه وخفته، لذا فهو متكامل المدلولات التي في حاجة إلى إبداع وتجريب ومنها الإيقاع الذي ينتصر للشعر وليس للإطار.
أكيد، لقد مر الشعر العربي المعاصر من منعطفات ومحطات. فحصلت إضافات على مستوى الذات والمتخيل الشعري والتركيب والصور.. هذا التطور يوظف بمقدار دقيق مع البعض، لكنه أدى إلى خبط وتيه مع قطيع «شعري». فكانت الكثير من النصوص متشابهة ومفككة، وفي المقابل لسنا أمام نموذج حداثي واحد؛ هناك نماذج، ودون الوعي بذلك، سيضيع النص ككيان وسلالة مع هذا التعدد الذي لا يؤسس ولا يضيف.
س: بالعودة إلى هذا النموذج، سواء ما اندرج منه في إطار شعر التفعيلة أو قصيدة النثر؛ يبدو لي أحيانا أن انعطاف الشعر العربي إليهما لم يكن موفقا، ولا أملك تبريرا منطقيا لهذا الإحساس؛ هل لكَ أن تُضيء، معي، ما عجزتُ عن توصيفه؟
ج: يغلب ظني، أن التطورات والانعطافات الجمالية في الأدب عموما، تخضع للسياق المركب، إضافة إلى العلاقة بالآخر ثقافيا، فضلا عن جهد الذات وعرقها؛ لهذا فتحولات منتصف القرن العشرين عربيا: من احتلال لفلسطين وسؤال الوطن والكينونة، وحصول الأقطار العربية على استقلالها وسؤال الاستقلال والحرية، إضافة إلى أعطاب البنيات والأوضاع من فقر وأمية.. وفي المقابل تطور النظريات وأشكال الأدب، ومن جانب الذات هناك طاقة من الرفض للتقليد والسلط العتيقة؛ هذا كفيل بظهور شكل شعري جديد؛ هل بتلك الصيغة؟ المسألة فيها نظر؛ لكن، لا يمكن للأمر أن يصل إلى حد التشكيك، بل هناك ملاحظات حول التأسيس والامتداد.
يمكن الحديث في هذا السياق، عن تبعية إبداعية في الشعر أيضا، فالأمة تكتب فقط، دون التأمل في أدوات الاشتغال على مستوى اللغة والتركيب والتخييل ومقامات التداول، و يطغى المشترك. نتساءل: كيف يتعامل الشعر مع المرجع (الواقع ـ الشعر ـ الفكر) في صيرورته و امتداده؟ طبعا لا يمكن أن يحصل التفاعل الحقيقي دون نقاش وسجال. وهذا الأخير معطوب في البيئات العربية، حتى لا نقول: مفتقد، إضافة إلى التفاعل غير النقدي مع الشعر في جغرافيات متنوعة. كل ذلك أعطانا شعرا باردا أو متشابها ومستنسخا؛ وهو ما أفرز حركات وبيانات خالية من الإبداع وخصوصية السياق، إنها مجرد اجترار نمط، أو قل التنظير في واد والمنجز الشعري في واد آخر؛ فالمسافة غير مرتبة فكريا بين التنظير والكتابة، كما أن الدراسات الأدبية والنقدية ظلت تجري وراء المنجز من خلال توصيف، يكون معها النص مجرد تعلة، لتبرير مفاهيم ونظريات.
أعود، هل كان الشكل الشعري العربي «الجديد» على امتداده وتنوعه (شعر التفعيلة، قصيدة النثر) استجابة حقيقية للمرحلة عربيا،كخصوصية شعرية؟ لا بد من تحفظات، و لكن يقتضي الأمر تأمل معطيات ثلاثة، تصوغ المنعطفات الجمالية الجديدة:علاقتنا وكيفية تفاعلنا مع الثقافة الغربية والنماذج الشعرية، فلا يعقل أن تبنى القصيدة الحرة العربية على نموذج أو نماذج محدودة؛ وعلاقتنا غير مرتبة فكريا وشعريا بالحركات العربية الشعرية والبيانات؛ وعلاقتنا بالمرجع في الصيرورة، سواء أتعلق الأمر بتشعبات الواقع العربي الفائض عن كل قبضة نظرية أو الفكر نفسه.وبعد، وبناء على ما سبق، نتساءل: هل الشعر المعاصر امتداد طبيعي للشعرية العربية القديمة؟


الكاتب : حاوره: الشاعر عبد الله بن ناجي

  

بتاريخ : 11/08/2023