حوارات حول الدين والحداثة -2- الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشي (2/3) : الفرق بن مناهض الحداثة والرجعي

منذ بداياته الأولى، ظل الفيلسوف الفرني مارسيل غوشيه Marcel Gauchet ينتظر لحظة ما للخروج من «المياه الراكدة» للفكر الفرنسي.. التقط فرصته المنتظرة، بانطلاق حركة الشبيبة عام 1968 ودخل من خلالها عالم الفكر الناقد الذي تمثل آنذاك بـ «المدرسة البنيوية»، وهي المدرسة التي سيطرت على مفاصل واتجاهات التأثر لدى الانتلجنسيا الفرنسية من خلال عدد من كبار المفكرين أمثال جان بول سارتر، جاك لاكان، ميشيل فوكو وسواهم… غير أنه بعد زوال «حركة التمرد»، وتداعي آمال التغيير، وتفرق صفوف «الرفاق»، لم يطرح غوشيه جانباً كل ما في جعبته، إنما أبقى عى «برنامج علم موحد للانسان يتكون من علوم اللغة واللاوعي والتاريخ». منذ ذلك الحين لم يعد برنامجه الفكري منحصراً في نقد الحداثة، وانما، تكرّس لفهم صيرورتها، ومستقبلها.فيما يلي حوار معه أضاء فيه أهم أطروحاته المتعلقة بالحداثة وصلتها بالدين والعلمنة. وقد أجراه معه الكاتب ماثيو جرو Matthieu Giroux في مجلة «فيليت» الفرنسية.

 

ما الفرق بن مناهض للحداثة ورجعي؟ في أيامنا هذه يجري وصف الجميع بالرجعية، فماذا عنك؟

 

نعم! وأنا من ضمنهم (ضحك)… الكاتب الذي تتحدث عنه ليس سوى دمية متحركة في يد متلاعب يعرف وحده إلى أين هو ذاهب. الخطيئة المميتة الحقيقية التي ارتكبتُها هي أنني انتهكتُ المحرّمات المتمثلة بأسياد التخريب: ميشال فوكو وبيار بورديو. منذ اللحظة التي تتجرأ فيها عى القول أن هذا النوع من الأفكار لربما لا يتضمّن التسلسل المنطقي الأفضل، تُصنَّف إلزاميّاً عى أنك رجعي مغالٍ في رجعيتك.

 جيرو: علينا إذاً أن نسأل هؤلا ء الأشخاص عمن يقصدون بهذا النعت (الرجعية)…

غوشيه: لم يفكّروا أبدا في الموضوع. فهم غر قادرين عى وضع تعريف لأي شيء (ضحك)… لكن بالعودة إلى الفرق بن الرجعي والمناهض للحداثة..أعتقد أن هناك فرقا حقيقيّاً بن الاثنين، وأن هذا الفرق مثير جداً للاهتمام. فالرجعي بمعناه الدقيق هو شخص متعلّق بنمط مجتمعي قديم، ويعتقد أنه من الممكن العودة إليه سواء كان ذلك النمط ملكية، أو تسلسات هرمية اجتماعية، أو نظام عائي متمحور حول صورة الأب… هناك إذاً شكل مثالي أبدي في أعين الرجعين. هو نمط تفكر بالغ النبل نشأت عنه تعبيرات بارزة. من يجهل هذا الموضوع لا بد أن يكون ساذجاً وأميّاً. الحجة الأقوى هي أن جميع المجتمعات البشرية كانت، حتى تاريخ حديث، منظّمةً عى هذا النحو. ينبغي إذاً أن نرّر أنفسنا ببراعة إذا ما كنا نعتقد أن هذا النظام قابل للتغير. بالنسبة إلى الرجعين، فإن الحداثين هم عبارة عن أفراد يعيشون ضالاً تامّاً ويسعون إلى القيام بتجربة انتحارية.
أما مناهضو الحداثة، فهم أكر تشكيكاً من الرجعين، أولاً بالنسبة إلى فضائل هذا النموذج القديم للمجتمعات. في الواقع، مناهضو الحداثة هم حديثون للغاية، بمعنى أنهم يجدون أن الوضع الآن أفضل (ضحك)…فهم لا يؤمنون بإمكانية العودة إلى المجتمع الأبوي الذكوري، الأشرافي، الديني، الملكي…بيد أن ذلك لا يمنعهم من كره العالم الذي حلّ محلّ ذاك المجتمع. فهم معترضون عليه من الناحية الجمالية. فان الفاني ليس مناهضاً للحداثة، بل هو حداثي، مناصر للتقدّم، داعم لفكرة كسب مبلغ أكر في خواتيم الشهر. بالنسبة الى الرجعين، فإن القيمة الكرى تكمن في الجال، في الفن. إذاً هي جمالية الوجود في المعنى العام، الأمر الذي يشمل طريقة الترّف.

 «الغندرة» هي إذاً، نزعة تأنّق..

مارسيل غوشيه: طبعاً. «الغنادرة» مناهضون للحداثة. قد يكون أمثال هؤلاء سبّاقين في بعض الأصعدة، وهو ما يولِّد الالتباس، لكنهم يعترون أن الإنسان الوسط يدير ظهره لقانون الجمالية الوجودية. هناك إذاً أرستقراطية خاصة يجب إعادة تشكيلها. يرى مناهضو الحداثة أن العالم الحديث هو عالم القبح والرداءة والابتذال، فينصّبون مقابل ذلك جميع قيم الاستثناء، من هنا الطابع الأدبي جداً للسلوك المناهض للحداثة. هُوَ ليس أدبيّاً فحسب إنما هُوَ كذلك فني وحرفي. لا مجال للمقارنة بن خزانة من صناعة أندريه شارل بول وخزانة من تصنيع شركة «أيكيا »! إن قيمة العمل تكمن في التحفة الفنية. لقد اضمحلّت أهمية العمل المتقَن في عالم اليوم.

 جرو: هل من فرق في الدرجة أو في الطبيعة بن الحداثة وما بعد الحداثة وما يسمى فرط الحداثة؟

غوشيه: جميعها برأيي كلات لا معنى لها. فلنميّز الأسباب المشروعة التي تدفع الناس إلى تحليل أدق الأمور في التسلسات الزمنية وقيمة هذه الفئات. فهذه الأخرة لا تملك أي قيمة مفاهيمية غر أنها تدلّ عى حسّاسيّات إزاء لحظات انقطاع حقيقية.
نعم، حصل انقطاع عام 1980 حن بدأنا بالتحدث عن فلسفة ما بعد الحداثة في الفن وهندسة العارة والسياسة والمعتقدات الجماعية…أما أن نسمي هذه المرحلة بما بعد الحداثة فهذا أمر سطحي للغاية، ليس خاطئاً لكنه سطحي. فالموقف الفكري السليم يكون بتلقّف هذا النوع من الأمور بهدوء والتساؤل حول الأسباب التي تثبّتها. هي ليست بالحماقات لكنها سذاجة. هي مفاهيم صحفية سطحية. ما أن نغوص فيها حتى نكتشف أنها الحداثة نفسها التي تتفاقم.

 جرو: بالنسبة إلى بيغي، العالم الحديث هو العالم الذي يلعب دور «الماكر»، عالم متعالٍ وسيّء. هل توافقه الرأي؟

غوشيه: أعتقد أن هذه الصيغة تمس بيء بالغ الأهمية لا بد من بلورته. في الواقع، العالم الحديث مغرور ومتبجّح: «نحن الحديثون مختلفون عن الحمقى الذين لم يكونوا يعرفون أنهم حديثون» (ضحك). بعد بيغي، لم تصطلح الأمور بل أخذت منحًى دراماتيكيّاً. الحداثة هي التاريخ البري الذي يُفهَم وبالتالي يستحصل على وسائل ليبني نفسه بشكل كامل. من هنا، نشأت فكرة الثورة كا مورست عمليّاً في القرن العشرين. بفضل العلم، يعتقد مناصرو الحداثة أنه بالإمكان إنهاء التاريخ. هذه هي الفكرة الرئيسية التي طغت عى القرن العشرين، الفكرة التي تسبّبت بأكر الأضرار.
العالم الحديث لا يلعب إذاً دور «الماكر» فحسب إنما هو ضحية غلوّ فظيع في الادّعاء. مُذَّاك، قمنا باكتشاف صغر، متواضع للغاية لكنه مسؤول جزئيّاً عن التخاذل النفي الذي غصنا فيه. إننا نعلم الآن أنه مع حلول كل عر، نفهم بشكل أفضل العصر الذي سبق، ما يعني أن ذريتنا ستفهم عى نحو أفضل ما كنّا عليه وكيف كنّا نفكّر وماذا كنّا نفعل. نحن مجرَّدون بفعل الماضي من أفعالنا ومن الفهم الدقيق لحالتنا. وهنا يكمن بنظري سر اكتئاب مجتمعاتنا. وهذا للأسف منظورٌ جدُّ محبطٍ. هناك إذًا دكٌّ للثقة الجماعية بالفعل يبدو لي أنه أحد أهم عناصر الاضطراب المعاصر.

 جرو: آلان فينكلكروت يكتب في «الهوية الشقية»: «التغير لم يعد ما كنا نقوم به بل ما يحصل لنا». وهذا يتاشى مع ما تقوله.

غوشيه: لقد حصل فعليّاً انعطاف في هامش مجتمعاتنا فاجأنا تماماً ولم يتوقّعه أحد علاً أننا كنا نحن من تسبّب به من دون أن ندرك ذلك. نحن المعاصرون نفهم الماضي بشكل أفضل لكن هل يعطينا ذلك عناصر لفهم حاضرنا؟ الإجابة بالطبع هي كلا. فالعالم الحديث يتّسم بالجهل. هو لا يفهم ويسوده إحباط فظيع يحول دون قيامنا بأي فعل. نحن متشائمون ولا نعرف بذلك. يتملّكنا نوع من الأنا الأعى يقول لنا:
«أنتم لا شيء عى الإطاق». وها نحن قلقون بسبب عن المستقبل المسلّطة علينا.

 جرو: أنتَ تعرّف العالم الحديث عى أنه عالم «الخروج من الدين »، لكن يبدو أننا نعيش اليوم عودة إلى التزمّت الديني. كيف تفرّ هذه المفارقة؟

غوشيه: هذه ليست مفارقة. فحركة الخروج من الدين، التي كانت حتى ذاك الحين تعني الغرب فقط، غدت كونية. فقد قدمت من الخارج بشكل هو أبعد ما يكون عن اللطف (استعماري، إمبريالي، رأسالي) لتفرض نفسها عى شعوب لم يعرفوا نسق تنظيم جماعي سوى تلك البنية التنظيمية الدينية التي سادت في البشرية منذ عرفناها.

 هي ردّة فعل…؟

هي بكل بساطة ردّة فعل. وهنا يكمن الفرق بن الأصوليات الجديدة والأديان التقليدية. ترى الأصولين يستخدمون أسلحة العالم الحديث للمحاربة ضد هذا العالم الحديث نفسه. وعند الاستيلاء عى الأسلحة، نستولي كذلك عى أنماط التفكر. مذاك، هناك مزايدة. إنّ اعترافات الرهائن السابقين عى خاطفيهم مثرة جدًّا للاهتمام. فنحن بعيدون كل البعد عن الشفقة. الأصوليون يدمّرون التديّن التقليدي الذي يزعمون أنهم يريدون اسرجاعه. وهم بالفعل يُنظَر إليهم عى هذا النحو. فكل من لديهم إيمان تقليدي حقيقي يكرهون الأصولين ويعتبرونهم عدمين مجانين.

 أنت ترى أن الجسم السياسي حل محله فكرة مجتمع لم تعد السياسة فيه سوى موضوعاً ثانويّاً. هل بالإمكان قلب هذه الحركة؟

هذا يُعَد أحد أكر تغرّات العالم المعاصر. لن أعيد رسم التاريخ الكامل للأشكال التي كان من الممكن للمجتمعات الدينية في الماضي اتخاذها لكن أحد أكبر معالمها وضوحاً هو أنها كانت محكومة بشكل عام من سلطة سياسية قادمة من الأعلى (الإله، الأجداد…)، سلطة عاموديّة تنظّم العالم لأنها تتواصل بنفسها مع النظام في العالم الآخر. ونجت هذه البنية من الدين واستمرّت لفرة طويلة جدّاً في العالم الغربي تحت اسم «الدولة» التي شكّلت جهاز سيطرة وإكراه. بالطبع هذا الجهاز ليس مناطاً بموافقة الآلهة إلا أنه يسيطر عى المجتمع باسم عِلم أسمى خاص بالنظام الذي يرعاه. منذ الثورة الفرنسية، راحت السلطة تصبح شيئاً فشيئاً تمثياً للمجتمع وصورة عنه. فصرنا ننتخب الأفراد أصحاب السلطة. وينفصل هذا المجتمع عن السلطة ويصر مستقلاًّ. وحصل عندذاك ازدهار الاقتصاد. ومنذ ذلك الحن، لم يعد النظام المستوحى من السياسة هو المهم بل الديناميكية الاجتماعية الخاصة بالمبادرة الفردية. وانتقلنا من سيطرة السياسة إلى سيطرة الاقتصاد الذي صار رمزاً لاستقلال المجتمع. المجتمع، كما يعلّمنا علم الاجتاع الّسياسي، هو مفهوم لم يُفرَض فعليّاً إلا في نهاية القرن التاسع عشر. هذا المجتمع الذي يعيش تحت جناح الاقتصاد راح يغدو أكر استقلالية وتنامى تطويعه للجهاز السياسي أكر فأكر. وها هم رجال السياسة اليوم خدّامون للمجتمع.

 وهنا نلتقي مع نقد بيغي…؟

نعم، كان قد لمس بداية هذه الظاهرة. هل يمكننا قلب هذه الحركة؟ لا أعتقد أنه ينبغي التفكر في الموضوع وتناوله بهذا الشكل. فالنظام السياسي لم يعد منظِّماً من الأعلى بل بات منظِّماً من الأسفل. البنية التحتية لمجتمعاتنا هي النظام السياسي، لا سياسة السياسيين وباعة أربطة العنق، بل النظام السياسي بمعنى الجهاز الذي يحافظ عى المجتمع لا من الأعى، بالقوة، بل بفضل بنية تحتية هائلة. هناك إذاً ترتيب جوهري متسرّ للمجتمع. المشكلة السياسية في مجتمعاتنا بنظري بسيطة للغاية: الحكّام الذين يتلاعبون بهذا الجهاز من الأعى لا يدرون ما يفعلون والناس يلحظون ذلك. ليست المشكلة إذاً في عكس الحركة وإعادة إطاق يد النظام السياسي كي يحكم من الأعلى، بل في وجدان أشخاص مناسبين للحكم، أشخاص يفهمون دور النظام السياسي في مجتمعاتنا.


الكاتب : حاوره: ماتيو جيرو

  

بتاريخ : 24/03/2023