منذ بداياته الأولى، ظل الفيلسوف الفرني مارسيل غوشيه Marcel Gauchet ينتظر لحظة ما للخروج من «المياه الراكدة» للفكر الفرنسي.. التقط فرصته المنتظرة، بانطلاق حركة الشبيبة عام 1968 ودخل من خلالها عالم الفكر الناقد الذي تمثل آنذاك بـ «المدرسة البنيوية»، وهي المدرسة التي سيطرت على مفاصل واتجاهات التأثر لدى الانتلجنسيا الفرنسية من خلال عدد من كبار المفكرين أمثال جان بول سارتر، جاك لاكان، ميشيل فوكو وسواهم… غير أنه بعد زوال «حركة التمرد»، وتداعي آمال التغيير، وتفرق صفوف «الرفاق»، لم يطرح غوشيه جانباً كل ما في جعبته، إنما أبقى عى «برنامج علم موحد للانسان يتكون من علوم اللغة واللاوعي والتاريخ». منذ ذلك الحين لم يعد برنامجه الفكري منحصراً في نقد الحداثة، وانما، تكرّس لفهم صيرورتها، ومستقبلها.فيما يلي حوار معه أضاء فيه أهم أطروحاته المتعلقة بالحداثة وصلتها بالدين والعلمنة. وقد أجراه معه الكاتب ماثيو جرو Matthieu Giroux في مجلة «فيليت» الفرنسية.
– يعتبر البعض أن الحداثة تبدأ مع الذاتية والكوجيتو الديكارتي، بينا يرى البعض مثل بيغي، أنها أبصرت النور حوالى العام 1880، فيا يؤكد آخرون مثل آلان دي بنوا أنها تتزامن مع ظهور المسيحية. برأيك متى بدأت الحداثة؟
– هي مشكلة قواعدية تعب كثرون لأجل حلّها. الاقتراحات في هذا الصدد كثيرة. وقد ذكرتَ في سؤالك بعضاً منها، لكن يوجد غيرها الكثير. هناك أصل مسيحي للحداثة، ذلك أؤمن به حقّاً، لكن الأصل ليس بالضرورة أن يكون المدخل إلى بيان مقترحات الحداثة. ثمة بداية للحداثة تم رصدها بشكل حدسي منذ فترة طويلة.
نحن نتحدّث عن «الأزمنة الحديثة»، نسأل: ما هو التاريخ الفعلي الدقيق الذي يسمح بتمييزها؟ المقرح الأكثر عبثية بنظري هو سقوط القسطنطينية. لا شك أنها مرحلة انقطاع هامة غير أنها لا تدل عى أي شيء جوهري مما سيحدث بعدها. في الكتب المدرسية التي استخدمتها في صغري، كان يُذكَر عصر الاستكشاف: كريستوف كولومبوس، غوتنبرغ، كوبرنيكوس…لا بد إذاً من فهم هذه الظاهرة من أجل دمج جميع المعايير المميزة فيها. هذا ما سعيت جاهداً إلى القيام به عبر اقراح منظور يسمح بجمع هذه المعايير المختلفة الفلسفية والحَدَثية أو المادية في الوقت عينه ضمن كتلة إجمالية ذات معنى. وهذا بالضبط ما يتماشى مع الاقتراح الذي يعتبر أن الحداثة هي حركة الخروج من الدين. هذا تعريف شمولي، فانطلاقاً منه، يمكننا ربط ظواهر لا علاقة أولية في ما بينها.
– ما الذي تعنيه على وجه التحديد من تلك الوضعية التي تعتبرها «خروجاً من الدين»؟
– الخروج من الدين لا يعني أن الناس باتوا لا يؤمنون بالله. فهم لم يكونوا أقوياء الإيمان به من قبل في كل الأحوال!… إن إحدى أولى المؤشرات الصارخة على الدخول في الحداثة بصفتها خروجاً من الدين هي الإصلاح البروتستانتي الذي وُلِدَ كرد فعل على ما عرف بالإصلاح الكاثوليكي. لقد عبر الإصلاحان عن نفسيهما بزيادة في الإيمان؛ بمعنى الواقع الذاتي المَعِيش والتحاق الأشخاص بالدين. لكن زيادة التحاق الأشخاص ليست هي السبب في تعزيز الدين في المعنى الذي أبتغيه، أي كأسلوب تنظيم جماعي. الخروج من الدين إذاً، هو خروج عن التنظيم الديني للعالم. لهذا السبب لم نفهم المجتمعات القديمة، حيث إنها كانت منظّمة دينيّاً وكانت تحدّد في الوقت نفسه نوع السلطة السائدة فيها، ونوع العلاقة بن الأفراد وشكل المجموعات… هذا البنيان الكامل هو الذي راح يتفكّك شيئاً فشيئاً في مجهود استغرق خمسة قرون وصولاً إلى عصرنا. بموازاة الإصلاح الديني، ثمة حدث يبرز على أنه معاصر تماماً: هو ظهور السياسة الحديثة الذي ولّد عى مدى قرن كامل مفهوم الدولة الحديث. يمكنك إذا أن ترى كيف أن مساراً سياسيّاً ومساراً دينيّاً يغيرّان معطيات الإيمان بشكل كلي…
– قلتَ، «مسار ديني»، و «مسار سياسي».. ثم ماذا بعد؟
– ثمة مسار علمي. انطلاقاً من هنا، برز نمط غيرّ الفكر الحديث بأكمله: العلم: كوبرنيكوس، كبلر، غاليليو… هذا ما عمّق معرفتنا بمؤسسة العلم التي بدورها غيرّت كلّيّاً فكرة المعرفة. وهنا نجد الكوجيتو الديكارتي. من هو ديكارت؟ هو من يستخلص النتائج الفلسفية للعلم الحديث، بناء عى أنه أمامنا طريق معرفة جديدة اسمها العلم. هذا هو الكوجيتو. لم ينشأ من عدم بل هو فكرة مستوحاة من الممارسة العلمية. ولا ينبغي أن ننسى نشأة نوع جديد كلّيّاً من الفكر عبر الثورة الإنكليزية: فكرة العقد الاجتماعي التي ستولّد الفردانية الحديثة. من الواضح إذاً كيف يمكننا أن نوصِّف، انطلاقاً من منظور فريد، سلسلة أحداث نظرية وعملية. يجب الابتعاد عن الخلافات العقيمة التي تسعى إلى تحديد نقطة انطاق واحدة (ديكارت، لوثر، …).
– بيغي يقول إن الحداثة بدأت عام 1880 ، فما الذي أنت قائِلهُ؟
– بيغي ليس على خطإ. فقد لاحظ أمراً صحيحاً جدّاً، في ذلك الوقت بدأت مرحلةٌ جديدةٌ قويةٌ من هذا المسار العام. هذه المرحلة الجديدة هي التي سينتج عنها مسار القرن العشرين حتى العام 1980 تقريباً. واليوم عدنا من جديد. لعله يوجد بيغي صغير في هذه اللحظة يكتب لنا كيف أن العالم الحديث يبدأ عام 1980 … يجب التفكير بالموضوع على أساس وجود مراحل ضمن مسار تراكمي ومتناقض وغير متجانس. أنا أحترس من الأشخاص الذين يحلّلون البيت إلى أجزائه، إذ ينبغي تجنب السذاجة التي بموجبها نعيد كل الموضوع إلى نقطة بداية مطلقة. إن المرحلة التي يشير إليها بيغي معبرّة كثيراً؛ فالعالم تغيرّ سنة 1880، هذا أكيد! وقد استغرقنا قرناً كاماً لفهم ما كان يحصل لنا، وها نحن عدنا أدراجنا اليوم، ما يعني أننا دوماً متأخرون. لا بد إذاً، من استخلاص الاستنتاجات والانكباب عى العمل.
– لو أردنا الحديث عن مراحل أشكال الحداثة في المسيحية، كيف ترى إلى تلك المراحل التي تقع ما بين ولادة المسيح وعصر الاستكشاف؟
– كثيرة هي هذه المراحل! المرحلة الأولى تحمل اسم عَلَم هو بولس الطرسوسي. فلولا هذا الأخير، ما كانت المسيحية لتوجد. أما المرحلة الثانية، فهي مرحلة القديس أغسطينوس، أي حقبة المسيحية الغربية التي جاءت مختلفة للغاية عن المسيحية قيد التطور المتمركزة في بيزنطة. فالقديس أغسطينوس هو من أنشأ نوعاً من الحساسية الحديثة في جوانب متعدّدة. عالمنا أغسطيني بامتياز. المسيحية الشرقية لن تكون أبداً أغسطينية. المَعْلَم الحاسم الآخر هو ما حصل في القرن الحادي عشر مع إصلاح غريغوريوس السابع، من إنشاء لكنيسةٍ جديدةٍ جِدُّ مختلفةٍ عما كنا عهدناه حتى حينه، ونشوء الثورة البابوية كما يصفها بعض المؤرخين. وقد ترافقت هذه المرحلة بحجة لاهوتية قوية، وهي القدرة الإلهية الكلية التي سيفكّر فيها الفلاسفة عى مدى قرون طويلة.
– بالنسبة إلى المسيحية الأصلية، أليس لله كلي القدرة في إيمانها ومعتقدها؟
– بلى، لكنها مشكلة استبصار. ما انعكاساتها المنطقية؟ ما معنى هذا المقترح؟ في نهاية القرن، لديكم اللاهوتي الذي أنشأ اللاهوت الكاثوليي كا نعرفه: أسقف كانتربري انسلم. فالقرن الحادي عشر الذي أقرح تسميته بـ «الانفراج الغربي الكبير» قاد المسيحية فكريّاً وعمليّاً في طريق مغاير تماماً. انطلاقاً من ذاك الوقت، أمامك خمسة قرون اختار مأى بالقلق وقد تولّد عنها الانقطاع في بداية القرن السادس عشر. أعتقد أنه بإمكاننا كتابة قصة متوقعة وبديهية عن هذا المسلك.