في نقد العلمانية المتشدّدة للغرب ضد الإسلام
تحت عنوان «العلمانية والدين في عصر العولمة» جرت محاورة بين عالمين أميركيين في علم الاجتماع هما مارك جورجنسماير وهو محاضر في جامعة كاليفورنيا ومدير مركز أورفاليا للدراسات الدولية والعالمية، وروبرت بيلاّ، المحاضر أيضاً في قسم علم الاجتماع في الجامعة نفسها، وأحد أبرز علماء الاجتماع المعاصرين في الولايات المتحدة الأميركية. تركّز النقاس بين هاتين الشخصيتين العلميّتين حول ضرورة إنتاج رؤية جديدة لمفهومَيّ الدين والعلمانية في ضوء التحولات الهائلة التي أحدثتها العولمة على القيم الدينية في الغرب. كما تطرّق النقاش إلى السؤال الكبير الذي يشغل علماء الاجتماع والمفكرين اليوم، ويتعلّق بمستقبل الأديان في العالم وفي أوروبا وأميركا بصفة خاصة.
روبرت بيلاّ: من هنا نعرج إلى موضوع آخر. وفي طريقنا إليه، علينا أن نستذكر ما قاله جورج برنارد شاو إن «المسيحية قد تكون ذات منفعة إذا ما جرّبناها».
لكن الهجوم على الكنيسة، أو على ما اصطلح غالباً على تسميته في أميركا الدين المؤسساتي، أصبح شائعاً جدّاً بين الأشخاص الذين لا يزالون ينظرون إلى أنفسهم على أنهم «روحانيون». قد لا أكون شخصاً متديّناً، أي أنني لا أرتاد الكنيسة، لكنني روحاني، بمعنى أنني أقرأ كتاباً عن البوذية الصينية أو ما شابه.
تلك إذاً طريقة أخرى لتجزئة المفهوم، وهو ليس ببعيد عن الدين في نظر أي عالم اجتماع. لكن في المقابل، يشير ذلك نوعاً ما إلى طبيعة مجتمعنا، بحيث أن أعيان الكنيسة أنفسهم غالباً ما هاجموا الجانب «المؤسساتي » للكنيسة باعتباره قمعيّاً. لكن كوني عالم اجتماع، أقول لك بأنه لولا الجانب المؤسساتي، ما كان هناك دين في وقت قصير، وهؤلاء الأشخاص الذين يملكون روحانية خاصة بهم ستزول معهم.
مارك جورجنسماير: لا دين مسيحيّاً، لكن كان هناك دين العلمانية بالطريقة التي تحدثت بها عنه للتوّ.
روبرت بيلاّ: أجل، ما كانت المسيحية لتكون سائدة، هذا أ مر لا شك فيه.
مارك جورجنسماير: كنت تتحدث عن تايلور. يميّز تايلور بشكل مثير للاهتمام بين ثلاثة أنواع من العلمانية: الانقسام بين الكنيسة والدولة، وتلاشي المعتقدات والممارسات في الثقافة الشعبية، ومن ثم البحث عن معنى وأخلاقية في الحياة العلمانية، وهو أمر يستميلك إلى أقصى حد وحيث تكمن مصالحك، بأسلوب دوركايمي فعلي، لأن هذا النوع من الدين هو دين المجموعة. لكن ما أريد الوصول إليه هو اختلافك البسيط مع تايلور حول مفهوم ما بعد زمن إميل دوركايم القائل أن نوع العلمانية هذا مختلف أو بعيد عن مفهوم دوركايم إلى حد ما. ما أقلقك ليس أن تايلور لا يفهم على ما يبدو دوركايم كما فهمته أنت فحسب، إنما أيضاً أنه لم يفكّر حتى في محاولة فهمه.
روبرت بيلاّ: السؤال هو ما إذا كان مجتمع لا وجود لأي شيء مهم مشترك فيه ممكناً. أعتبر، مرّة أخرى على أسس اجتماعية، بأن مثل هذا المجتمع مستحيل.
مارك جورجنسماير: حتىّ مجتمع مؤلف من فدرانيين تعبيريين جشعين، وأننايين، واستهلاكيين مثلنا.
روبرت بيلاّ: وحتى اليوم، مع أن الدول الأمم لا تزال حتماً مهمة إنما ليست بأي شكل من الأشكال المجتمع الأوحد المهم، ومع أننا نعمل بطرق شتى على المستوى العالمي، لا الوطني، ثمّة إجماع قيمي واسع الانتشار، إنما ليس مطلقاً ويتخلله شكوك وترددات، أو ما يسمّى بإجماع حقوق الإنسان، بأن أي مجتمع تنتهك فيه كرامة الفرد هو مجتمع سيئ وسيكون عرضة لجميع أنواع الانتقادات. يضم كل مجتمع أشخاصاً يؤمنون بشدّة بذلك. ففكرة أن الأرض مقدسة إلى حد ما وأن انتهاك مناخنا أمر خاطئ، وخاطئ جدّاً، وهو أمر يشبه الخطيئة وفق نظرية كالفين بعض الشيء، رؤية تتخطى أي أمة ويتشاطرها ملايين الأشخاص في أنحاء العالم.
بعبارة أخرى، حتّى على المستوى العالمي، ثمّة معتقدات مشتركة لها تداعيات. برأيي، طالما هناك ما يكمن تسميته بالمجتمع العالمي، ستجد بعض المعتقدات العالمية، لأن هذين الأمرين متلازمان دوماً من الناحية الاجتماعية.
مارك جورجنسماير: معتقدات بمعنى قيم مشتركة أو حساسيات أخلاقية؟
روبرت بيلاّ: والمفاهيم المشتركة عن المقدس، أو القداسة، أو كرامة الفرد، أو حرمة الأرض. الأمر لا يقتصر فحسب على المعتقدات المعرفية، وإنما هناك بعد قيمي ديني وأخلاقي عميق.
مارك جورجنسماير: لكن كأنك تقول بأن أي نوع من الحساسية الأخلاقية المشتركة، بمعنى حس مشترك بمصدر معنى، له طابع ديني.
روبرت بيلاّ: إذن؟ هذا ما يسميه بول تيليش «بعد العمق»، الموجود في كل مضمار من مضامير الحياة.
مارك جورجنسماير: لكن على الصعيد الاجتماعي، يفترض ذلك وجود جماعيّة.
روبرت بيلاّ: بالطبع، هذا هو المغزى برمّته. لو لم يكن هناك جماعية، لانتهى الأمر بنا إلى حرب الجميع ضد الجميع بحسب مفهوم هوبز. تسير السياسة الأميركية حاليّاً في هذا الاتجاه على ما يبدو، أليس كذلك؟
مارك جورجنسماير: صحيح. وهل تظن بأن الدولة الأمة بقي لديها ما يكفي من طابع الجماعية لعرض هذا النوع من القيم المشتركة..
روبرت بيلاّ: الأمر متغير جداً. من اللافت كيف لا تزال الولايات المتحدة تتمتع بحسّ قوي من الهوية الوطنية، في حين أن هذا الحس ضعيف في معظم البلدان الأوروبية. تشهد اليابان، التي أمضيت فيها فترة كبيرة من حياتي وأنا أدرس، نهضة لقومية من نوع محدد، قومية غير عنيفة، غير عسكرية، وإنما شبيهة إلى حد كبير بما حدث في ثلاثينات القرن الماضي.
مارك جورجنسماير: أتساءل ما إذا كان الاتّحاد الأوروبي في أوروبا لا يعبّ بطريقة ما عن هوية مشتركة…
روبرت بيلاّ: صحيح
مارك جورجنسماير: لا سيما في ما يتعلق بـ….. لنأخذ على سبيل المثال الخلاف الذي أحدثته الرسومات الكاريكاتورية في الدنمارك.
روبرت بيلاّ: أعتقد أن الاتحاد الأوروبي هو جهد جزئي للتعالي فوق ما يعرف اليوم بقومية منزوعة الشرعية كانت السبب في نشوب حروب مروّعة. مع ذلك لا يزال يناضل. من ثم شهدنا ظهور ولاءات إقليمية، كما في الويلز واسكتلندا وهذا البلد وذاك. كذلك يوجد في إسبانيا ولاءات إقليمية. ما هي المنطقة التي تشكل برشلونة..
مارك جورجنسماير: كتالونيا
روبرت بيلاّ: الكاتالونيون والباسكيون. يريد أن يحظى بعض من ينتمون إلى هذين الشعبين بدولتهم الخاصة، بينما يود آخرون أن تكون ألاسكا دولتهم الخاصة.
مارك جورجنسماير: يعتقد بعضنا بأنّه ربما يجب أن تكون كاليفورنيا دولته الخاصة وأن الشعوب الأخرى لا أهمية لها.
روبرت بيلاّ: نعم ولا سيما كاليفورنيا الشمالية التي لا تبالي بوجود كاليفورنيا الجنوبية.
مارك جورجنسماير: اسمح لي، أنا صرت أنتمي إلى جنوب كاليفورنيا. ولكنني أعتقد بأن كاليفورنيا شبيهة جدّاً بألاسكا من حيث شخصيتي. ما رأيك بالعلمانية المتشدّدة؟ فلنأخذ على سبيل المثال قضية الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية وهذا النوع من الشعور القوي الذي يعترينا من أجل الدفاع عن حرية التعبير، فمضايقة المسلمين أمر مُدان. ففي تركيا، قامت تظاهرات في الشوارع.
روبرت بيلاّ: للأسف، إن الشعور المعادي للإسلام في أوروبا مماثل تماماً للردّ الذي جاء على الهجرة الضخمة التي شهدناها في الولايات المتحدة الأميركية. يشير خوسيه كازانوفا، أستاذ علم الاجتماع في جامعة جورج تاون، الذي كتب بإسهاب عن الدين السياسي في العالم الحديث، إلى أنّ ما يدّعيه الأوروبي نحو الإسلام يلتقي بشكل كبير مع ما صدر عن الأميركيين بشأن الكاثوليك في أواخر القرن التَاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بأنه بعيد كلّ البعد عن الديمقراطية، وأن ولاءه لقوى خارجية، وأنه يقوّض قيمنا، وأنه أمر سيء. وبالتالي، فإنّ تناول هذه المقدسات في الإسلام، والاستهزاء بها، يعدّ نوعاً من السخرية، إذا جاز التعبير. أعتقد بأن حرية التعبير أمر أساسي للغاية في أي مجتمع ديمقراطي. ولن أقول بأنهم يجب ثنيهم عن القيام بذلك،إ نما يبدو لي بأن الدافع وراء القيام بذلك ليس محبذاً على الإطلاق.
مارك جورجنسماير: لقد كان الدافع السخرية من المسلمين إذن.
روبرت بيلاّ: صحيح.
مارك جورجنسماير: ألم يتخلّل ذلك أيضاً انطباع، كما حدث مع الكاثوليك، «بأنهم متدينون ونحن لا»، أي هذا النوع من تفوّق القيم الثقافية العلمانية التي…
روبرت بيلاّ: ليسوا «متدينين » فحسب، وإنما «يهدمون ثقافتنا». حتى لو كنتَ شخصاً متديّناً غير مسلم، قد يخطر ببالك بأنهم يهدمون تراثنا المسيحي، أو يهدمون الثقافة الغربية، أو أي شيء. وكما قلت سابقاً، اعتقد العديد من المسيحيين، منذ زمن وجيز، ليس في أوروبا فحسب، وإنما في هذه البلاد أيضاً، بأن اليهود كانوا «يهدمون» الحضارة الغربية وكانوا يشكلون خطراً حقيقيّاً. لذلك، فإن هذه الحملة المناهضة للمسلمين قديمة العهد وقد مررنا بها من قبل.
مارك جورجنسماير: لكن إذا ما التفتّ إلى الجانب الآخر، ستجد الجهاديين المتطرفين الذين يرون الأمر عينه بالضبط في ما يخيّل إليهم أنه تهديد من الغرب العلماني.
روبرت بيلاّ: نعم صحيح.
مارك جورجنسماير: هم يعتقدون أن هذه العلمانية قد ظهرت من أجل تدمير كل ما هو جيد وذي قيمة وعفّة في ثقافتهم.
روبرت بيلاّ: أجل. مع ذلك، إنّه لمن السخرية، أن يقتل الجهاديون، لا سيما القاعدة وتوابعها، من المسلمين أكثر بكثير من غير المسلمين. فهم يكنّون الكراهية للشيعة بوجه خاص، وهم الذين فجّروا تلك المساجد في العراق، الأمر الذي كاد أن يتسبب بنشوب حرب أهلية، وتسببوا بمقتل آلاف الأشخاص من كلا الجانبين. أما بالنسبة إلى المتدينين الفعليين، فكراهيتهم موجّهة بشكل أساسي نحو إخوانهم المسلمين. إنهم يكرهون الأنظمة التي تتواجد في السلطة في منطقة الشرق الأوسط. يكرهون النظام السعودي، ويكرهون النظام المصري.
مارك جورجنسماير: العدو القريب والعدو البعيد.
روبرت بيلاّ: تعتبر أميركا سيئة لأنها في المقام الأول تدعم هذه الجماعات التي تكنّ لها الكراهية في بلدها.
مارك جورجنسماير: ولكنها ليست سيئة لأنها العدو البعيد الذي يدعم العدو القريب فحسب، كما قلتَ، وإنما لأنها دولة علمانية، أي أنها مناهضة للدين باعتبارها عدوة الدين.
روبرت بيلاّ: نعم.
مارك جورجنسماير: عندما أجريت مقابلة مع (أبو حليمة)، أحد المتورطين في تفجير مركز التجارة العالمي في العام 1993، سألته عن المسيحية، وفي حال كانت أميركا أمّة مسيحية، فهل من شأن ذلك أن يزيد الأمر سوءاً أم بالعكس؟ فأجاب لا بالعكس، فعلى الأقل سيكون لديها بعض القيم. فمشكلة أميركا اليوم بالنسبة إليه أنها كانت مناهضة للدين. وهو بطبيعة الحال كان يقصد الإسلام بوجه خاص. ولكنه ضمناً، كان يضمر كراهية شديدة لمن يناهضون الدين، هذه الكراهية التي كانت لتضعف بعض الشيء لو كانت أميركا أمة مسيحية.
روبرت بيلاّ: المفارقة بالطبع هي أن أميركا أقرب إلى كونها دولة مسيحية من أي بلد أوروبي. حاول فقط مهاجمة المسيحية وإطلاق حملة سياسية، وسترى كم هي فعّالة في هذا البلد. لذا أعتقد بأنه لم يفهم أميركا بالشكل الجيد. بالطبع، من وجهة نظر مسلم متشدد، المسيحيون هم أهل كتاب، ولا يجب التعرّض لهم.