أنت لست حراً عندما تكون أمام التلفزة
آلى الفيلسوف اليوناني المعاصر كورنيليوس كاستورياديس على نفسه أن يظلّ طيلة حياته مفارقاً للإيديولوجيات الشائعة في القرن العشرين، ولا سيما الإيديولوجيا الماركسية الرسمية.دأب كاستورياديس على السير عكس التيار في الفكر والسياسة. إلا أنه بقي على عقيدته الانتقادية، وفي المقابل كان ناقداً جذرياً للرأسمالية الليبرالية ولديمقراطيتها الزائفة، أما موقفه من الإيديولوجيا فقد ظهر في خطابه الجذري ضد تحيزاتها سواء في الفكر الاشتراكي أو الفكر الليبرالي وكان له في كل ذلك مواقف راحت تشكّل مع الزمن تياراً نقدياً صارماً عابراً للحدود. هذا الحوار الذي أجراه معه دانيال ميرميه قبل وفاته سنة عام 1996، يتضمن رؤية إجمالية لأفكاره النقدية حيال الإيديولوجيات.
دانيال ميرميه: لقد تحدّثتَ كثيراً عن حركة ماي 68، التي سمّيتَها مع إدغار موران وكلود ليفور «الثغرة». اليوم، هذه الحقبة هي عصر ذهبيّ بالنسبة للشباب الذين يتحسرون على أنّهم لم يعيشوها. إذا أعدنا التفكير بتلك الحقبة، يصيبنا العمى. تلك التصرّفات الثوريّة والرومانسية، والمطلقة، والمذهبيّة، والفاقدة لأيّ أساس، كانت جاهلةً كليّاً على سبيل المثال بما كان يجري فعليّاً في الصين في عهد ماوتسي تونغ، هي أشياء كان بالإمكان معرفتها. ولكنّنا نفضّل أن نعتقد على أن نعرف.
كورنيليوس كاستورياديس: نعم، أنت محقٌّ من وجهةِ نظرٍ هي مهمّة جدّاً. لكنها ليست البتة مسألة معرفة. إنّها الهيمنة الكبرى للإيديولوجيا بالمعنى الدقيق، وأقول بالمعنى السيّء للعبارة.
مشكلة الماويّين لا تكمن في أنهم كانوا جاهلين، لقد مَذْهبوهم أو إنّهم قد تمذهبوا بأنفسهم. لماذا كانوا يقبلون بالمَذْهَبة؟ لماذا كانوا يتمذهبون بأنفسهم؟ لأنّهم كانوا بحاجة لأن يُذهبوا. كانوا بحاجة لأن يعتقدوا. لقد كان هذا الأمر هو الجُرْحَ الكبير للحركة الثوريّة طوال التاريخ.
دانيال ميرميه: ولكن الإنسان حيوان دينيّ. هذا ليس إطراءً ولكن…
كورنيليوس كاستورياديس: ليس إطراءً البتة. أرسطو الذي لا أتوقّف عن الاستشهاد به والذي أُجِلُّهُ جدّاً قال مرّة واحدةً شيئاً هو كبيرٌ حقّاً…حسناً لا يمكن أن نقول كذباً عندما يتعلّق الأمر بأرسطو، ولكن مع ذلك. عندما قال: الأنسانُ حيوان يرغب في المعرفة، هذا خطأ. الإنسان ليس حيواناً يرغب في المعرفة. الإنسان حيوان يرغب في الاعتقاد، يرغب في اليقين، ومن هنا سطوة الأديان، وسطوة الإيديولوجيّات السياسيّة. في الحركة العمّليّة في البداية، كان هنالك موقف نقديّ جدّاً. عندما تأخذ أوّلَ بيتَين من «العالميّة» التي هي نفسها نشيد الكومونة (كومونة باريس 1971)، خُذْ المقطع الثاني: «ليس هناك مُخلِّصٌ أعلى ولا الله (يخرج الدين)، ولا قيصر ولا الحاكِم (يخرج لينين)! ولكن هنالك تلك الحاجة إلى الاعتقاد. اليومَ، ما الذي يجعلنا أكثر تعقّلاً من ماي 1968؟ أعتقد أنّ النتيجة ربّا تكونُ في الوقت نفسه لـ: تَبعات أيّار/ مايو وللتطوّر في البلدان الشرقية (المعسكر الشرقي سابقاً أي العالم الثاني) ولتطوّر المجتمع بشكل عام هو أن الناس قد أصبحوا، على ما أعتقد، نقديّين أكثر. هذا أمرٌ مهمّ جدّاً. بالتأكيد هنالك شريحةٌ ما زالت تبحث عن الإيمان. العِلمولوجيا، الطوائف الدينيّة، أو الأصوليّة، هذا موجود في بلدان أخرى، لا عندنا، مطلقاً. ولكنّ الناس أصبحوا أكثر نقداً وأكثر ارتياباً. هذا ما يصدُّهم أيضاً عن الحراك.
قال بريكليس في خطابه للأثينيّين: نحن الوحيدون الذين لا يصدّنا التبصُّر عن العمل». هذا رائع! وأضاف: «الآخرون، إمّا أنّهم لا يفكّرون وهم طائشون فيرتكبون تفاهات، وإمّا أنّهم من خلال تفكيرهم يصلون إلى عدم القيام بشيء لأنّهم يقولون لأنفسهم: هناك خطابٌ وهناك خطابٌ مضادٌّ. إنّنا نجتاز، حاليّاً، مرحلةً من الكبح، هذا أمرٌ مؤكّد. ولكن يجب أن نفهم أنّ الهِرَّ الذي لَذَعَهُ الماء الساخن يخشى الماء البارد. لقد ذاقوا كلّ هذا، فقالوا لأنفسهم: الخُطَب الكبيرة وكلّ ما تبقّى، وإن يكن!. فعليّاً لا يحتاج الأمر إلى خُطَب كبيرة، بل يحتاج إلى خُطَب حقيقيّة.
دانيال ميرميه: إنّ ما يُغْني فكركَ، هو نظرة المُحلِّلِ النفسيِّ إلى العالَم. ليس من المعتاد أن يمتلك المرء عدّة إضاءات. لقد أصدر راوول فانجم كتاباً عنوانه: نحن الذين لا حدَّ لرغباتنا.
كورنيليوس كاستورياديس: نحن الذين نهذي؟ آه، نعم! نحن الذين نهذي! (يقول ضاحكاً)..
دانيال ميرميه: ما رأيك بهذه الرغبة التي لا تُقهَر التي تجعل من التاريخ مستمرّاً؟
كورنيليوس كاستورياديس: لكن على كلّ حال، هنالك رغبة لا تُقهَر. أخيراً وأيضاً! (يسود الصمت) هنا حقّاً… هذا فصلٌ كبير. إذا نظرتَ إلى المجتمعات القديمة أو المجتمعات التقليديّة، لا وجود للرغبة التي لا تُقهَر. نحن لا نتكلّم هنا عن وجهة نظر التحليل النفسيّ. نتكلّم عن تلك الرغبة التي حوّلتها التنشئة الاجتماعيّة. وهذه المجتمعات هي مجتمعات التكرار. ففي العصر الحديث، هنالك تحرّرٌ بكلّ معاني الكلمة، تجاه الضغوط على تنشئة الأفراد اجتماعيّاً. نقول على سبيل المثال: «أنت تتخذ زوجةً من العشيرة الفلانيّة أو من العائلة الفلانيّة. ستكون لديك زوجةٌ في حياتك. إذا كان لديك اثنتان، أو رجلان، فسيكون ذلك في السرّ، وسيكون هنالك إثم. سيكون لديك وضعٌ اجتماعيّ، سيكون ذلك ولا شيءٌ آخرُ». ولكنّنا اليومَ دخلنا عصرَ اللامحدوديّة في كل المجالات وفي هذا نحن لدينا الرغبة في اللامتناهي. لكنّ هذا التحرّر هو بمعنًى فتحٌ عظيمٌ.
لا مجالَ للعودة إلى مجتمعات التكرار. ولكن يجب أيضاً أن نتعلّمَ وهذا موضوع كبير جدّاً أن نتعلّمَ وضعَ قيود ذاتيّة، فرديّاً وجماعيّاً. والمجتمع الرأسماليّ اليوم هو مجتمع يركض برأيي نحو الهاوية من كلّ وجهات النظر لأنّه مجتمع لا يُحسن وضع حدوداً ذاتيّة لنفسه. والمجتمع الحرّ حقّاً، هو المجتمع الذي يتمتّع بحكم مستقلّ، يجب أن يعرف كيف يضع لنفسه حدوداً ذاتيّة.
دانيال ميرميه: وضعُ حدودٍ يعني المنعَ. كيف يجري المنع؟
كورنيليوس كاستورياديس: لا، ليس هو المنع بالمعنى الرادع. ولكنّه أن نعرف أنّ هنالك أموراً لا يمكن القيام بها أو لا يمكن حتّى محاولة القيام بها أو لا تنبغي الرغبة فيها . على سبيل المثال البيئة. نحن نعيش على هذا الكوكب الذي نحن بصدد تدميره، وعندما ألفظُ هذه العبارة أفكّر بالعجائب، أفكّر ببحر إيجة، أفكّر بالجبال المكسوّة بالثلج، أفكّر بمنظر المحيط الهادئ من زاويةٍ في أستراليا، أفكر ب بالي، بالهند، بالريف الفرنسيّ الذي نحن بصدد تصحيره. العديد من العجائب هي في طريقها إلى الزوال. أفكِّر أنّه كان علينا أن نكون بُستانيّي هذا الكوكب. يجب أن نزرعه. أن نزرعه كما هو ومن أجل نفسه. وأن نجد حياتنا، مكاننا بالنسبة إليه. إنها مهَمّة ضخمة. وهذا يمكنه أن يمتصّ جزءاً كبيراً من أو قات فراغ الناس، المتحرِّرين من عمل أحمق، منتج، متكرّر، إلخ… لكنّ هذا بالطبع، بعيدٌ جدّاً لا عن النظام الحاليّ وحسب ولكن عن التخيّل المهيمن حاليّاً. التخيّلُ في عصرنا، هو تخيّلُ التمدّد اللامحدود، هو تراكم الحقير من المتاع… جهاز تلفزةٍ في كلّ غرفة، حاسوب صغير في كلّ غرفة، إنّه هذا ما يجب تدميره. النظام يستند إلى هذا التخيّل الموجود هنا والذي يعمل.
دانيال ميرميه: إنّ ما تتكلّم عنه هنا، من دون توقّف، هو الحريّة؟
كورنيليوس كاستورياديس: نعم.
دانيال ميرميه: خلف هذا، توجد الحريّة؟
كورنيليوس كاستورياديس: نعم.
دانيال ميرميه: الحريّة صعبة؟
كورنيليوس كاستورياديس: آه نعم! الحريّة صعبة جدّاً.
دانيال ميرميه: الديمقراطيّة صعبة؟
كورنيليوس كاستورياديس: الديمقراطيّة صعبة لأنّها حريّة، والحريّة صعبة لأنّها ديمقراطيّة، نعم بشكل مطلق، لأنّ اللامبالاة سهلة، الإنسان حيوان كسول، هذا ما قالوه. هنا أيضاً أعود إلى أسلافي، هنالك عبارة رائعة ل ثوسيديدس: يجب أن نختار الراحة أو أن نكون أحراراً. أعتقد أنّ بريكلاس هو الذي قال هذه العبارة للأثينيّين: إن كنتم تريدون أن تكونوا أحراراً، يجب أن تعملوا. أنت لا يمكنك أن ترتاح. لا يمكنك أن تجلس أمام التلفزة. أنت لست حراً عندما تكون أمام التلفزة. أنت تظنّ أنّك حرٌّ وأنت تُغيُِّ قنوات التلفزة كالأبله، لستَ حرّاً، هذه حريّة مزيّفة. ليس حمارُ بوريدان وحده الذي يختار بين كومتَين من التبن. الحريّة، هي النشاط. والحريّة هي النشاط الذي يضع لنفسه حدوداً ذاتيّةً بالوقت نفسه، أي أن يعرف أنّ بإمكانه أن يفعل كلّ شيء ولكن يجب ألاً يفعل كلّ شيء. تلك هي المشكلة الكبيرة، بالنسبة لي، هي مشكلة الديمقراطيّة والفرديّة.
دانيال ميرميه: الحريّة، هي الحدود؟ التفلسف، هو إقامة الحدود؟
كورنيليوس كاستورياديس: لا، الحريّة، هي النشاط والنشاط الذي يعرف فرضَ حدوده الخاصّة. التفلسف، هو التفكير. هو التفكير الذي يعترف بأنّ هنالك أشياء لا نعرفها وبأنّنا لن نعرفها أبداً…