يجب على العقل أن يلتزم الصمت بإزاء القوانين الإلهية
المعروف أنّ المفكر الفرنسي الراحل كريستيان بونو حائز على شهادة الدكتوراه في حقل العرفان الإسلامي من جامعة «السوربون» الفرنسية، وله مؤلّفات فكرية في الإسلاميات، مثل: (التصوّف والعرفان الإسلامي)، و(الإلهيات في الآثار الفلسفية والعرفانية للإمام الخميني)، (تأليف وترجمة وتفسير القرآن الكريم باللغة الفرنسية) ولم يكتمل بعد. الحوار الذي أجراه معه الدكتور أمير عباس الصالحي تركَّز حول هذين البعدين معاً وإن كان المنطلق هو الوقوف على رؤيته حيال غربٍ آيلٍ الى الاضمحلال والتهافت.
o بالالتفات إلى المعرفة التي تمتلكونها عن الأعمال والآثار والمسار الفكري لهنري كوربان، ما هي النصيحة التي ترون أنه كان سيقدمها إلى المسلمين في مواجهة الفكر الغربي لو كان على قيد الحياة في مرحلتنا الراهنة؟
n كان هنري كوربان يؤكد دائماً في مقالاته وحواراته وكتاباته على وجوب عدم الانبهار بكل الإمكانات التقنية والفنية التي تأتي من الغرب، بحيث تحجب عنا الاهتمام بالمسائل العقلية. وأرى أن هذه هي المسألة الرئيسة والجوهرية؛ إذ إن القوة التقنية لدى الغرب قد أبهرت الثقافات الأخرى، الأمر الذي أوجد لديها حالة من الشعور بالعجز والوهن، بحيث أن الكثير من عقلاء سائر البلدان الأخرى بالنظر إلى التكنولوجيا الغربية قد غضُّوا الطرف عن المسائل العقلية، وركَّزوا كل اهتمامهم على المسائل الفنية والتقنية. إن هيمنة الغرب على سائر الثقافات بالإضافة إلى السيطرة العسكرية، تكمن في إبهارها بواسطة المسائل التقنية، في حين أن هذه القدرة التكنولوجية قد تحولت في الوقت الراهن إلى مشكلة كبرى. فلا يُستبعد أن تؤدي هذه الثقافة والحضارة إلى القضاء على نفسها، بل وقد تؤدي إلى تدمير البشرية بأسرها. هناك من يذهب حالياً إلى الاعتقاد بإمكانية التغلب على الأزمة الراهنة بواسطة التفوّق التكنولوجي والجيو هندسي. من ذلك أنهم على سبيل المثال يعتقدون حالياً ويقولون إن الكرة الأرضية تعاني حالياً من ارتفاع درجات الحرارة، ربما أمكن القيام بتفجيرات نووية هائلة تخرجها عن مدارها، مما يوجب ابتعادها عن الشمس، الأمر الذي يساعد بالتالي على تبريدها. وعليه ربما لم يصل البعض حتى الآن إلى إدراك أن هذه التكنولوجيا نفسها من شأنها أن تكون هي المنشأ في هذه الأزمة. وعلى هذا الأساس، فإن الرؤية الأهم التي يمكن استخلاصها من تفكير هنري كوربان بالنظر إلى هذا السؤال، هي أن المشكلة الرئيسة لدى الثقافات، ولا سيما منها الثقافات الشرقية تكمن في الانبهار بثقافة الغرب، وخصوصاً الثقافة الناظرة إلى البُعد التكنولوجي؛ إذ أنهم يتصورون أن الغرب قد امتاز في المسائل الفنية بواسطة المقدرة العقلية الكبيرة. في حين لا يوجد أي تلازم عقلي ومنطقي بين هذين الأمرين.
o هل يمكن الاعتقاد بالنسبة المفهومية بين الاستغراب النقدي وفلسفة العرفان الإسلامي؟ وبعبارة أخرى: إذا افترضنا وجود مثل هذه النسبة، فما هي مقدمات ولوازم وضرورات الاستغراب على أساس الفلسفة والعرفان الإسلامي؟
n نحن نؤكد في الغالب على الفلسفة الإسلامية لأنها تحظى بمزيد من الاعتبار بالنظر إلى اشتمالها على الميتافيزيقا. وبعبارة أخرى، وبالنظر إلى هذا السؤال: يجب علينا أن نبدأ من المسائل الميتافيزيقية. إن الفلسفة الإسلامية الناظرة إلى فلسفة صدر المتألهين تمثِّل نوعاً من التفكير المنبثق من القرآن الكريم. هي الفلسفة الأرسطية التي تطوّرت في العالم الإسلامي. كما أن العرفان في حقل التحليل والإثبات بطبيعة الحال يرتبط بدوره بالمسائل الفلسفية، نعلم أن العرفاء لم يعملوا على توظيف الأسلوب الاستدلالي، ولكن حيث يجب الاستناد في النقد إلى الاستدلال، يمكن للعرفان لا محالة أن يلهمنا بعض المسائل، ومن هنا يتبلور نقدنا بالكامل على أساس سلسلة ممن الاستدلالات الفلسفية. من ذلك مثلاً ما إذا كان يمكن للعقل الصناعي أن يكون لديه ردود فعل أو تجاوب إيماني أو عرفاني، نعتقد بأنه ليس هناك شيء مادي أعم من أن يكون طبيعياً أو صناعياً، بل وحتى المخ لديه تعقل من عنده أو من الآخر. وهو في الحقيقة لا يدرك شيئاً، كما أن العين لا ترى شيئاً. فالإنسان يرى بواسطة العين، وهذه النقطة تمثل جزءاً من الأسس والقواعد الميتافيزيقية التي يمكن أن تخضع للبحث والتحليل. النموذج الآخر ناظر إلى الاختلاف بين آيات القرآن والروايات. نعلم أن الوحي والرواية بمنزلة الإرشاد للعقل كي يعمل على إبداء الرأي والحكم من خلال النظر إلى تلك المفاهيم. ومن هذه الناحية تكون للروايات حيثية إرشادية. وبعبارة أخرى: إن الروايات من شأنها أن تكون إرشادية، أو تقوم بدور تمهيدي لإقامة الاستدلال العقلاني على ما إذا كان ينبغي علينا القيام بفعل ما أو عدم القيام به. وعليه، يكون لها حيثية تنظيمية وليست تقويمية؛ بمعنى أنها قد لا تكون مستدلة في نفسها، بل يجب الاستدلال لصالحها، وأخذها بوصفها تمهيداً للاستدلال. وبطبيعة الحال فإن بعضها تأسيسي، ولكن سيكون لها بالنظر إلى المسائل المعرفية حيثية إرشادية، بمعنى الإرشاد إلى مسألة يجب أن تفهم، وبمنزلة إرشاد للعقل. إن المسائل الإرشادية بطبيعة الحال يجب أن تقوم بدورها على المسائل المعرفية. ومن ناحية أخرى قد لا تتوفر في بعض الموارد إمكانية لفهم أسباب بعض الآيات والروايات؛ من ذلك مثلاً قد لا يمكن فهم سبب عدد ركعات الصلاة اليومية. وطبقاً للقانون نكون ملزمين برعاية هذا النوع من الموارد. وبعبارة أخرى: حيث تم وضعها على هذه الشاكلة، نكون مكلفين برعايتها. ولكننا نعلم أن كل قانون أعم من أن يكون بشريا أو إلهيا قد وضع بالنظر إلى المسائل والمصالح والمنافع، وهناك دليل على مثل هذا الوضع أيضاً؛ بيد أن هذه الأدلة قد تكون، أو لا تكون، في متناول الإنسان. فهل يجب على العقل أن يلتزم الصمت بإزاء هذه القوانين؟ أجل، هذا هو الوضع حتى بالنسبة إلى مفكر قومي مثل ديكارت الذي يشكك في مجمل المسائل المعرفية.
o هل يمكن الوصول إلى طريق وآليات ونصائح للاستغراب النقدي على أساس تعاليم القرآن الكريم؟
n من الممكن للتعاليم القرآنية أن تقدم لنا العون بوصفها ملهمة أو بوصفها من الفرضيات. بيد أننا للوصول إلى الهدف المنشود في هذا السؤال نحتاج إلى استدلال عقلي. إن الأرضية في هذه الغاية ليست موقفاً كلامياً. ونحن نسعى إلى بحث هذه المسألة، وهي: هل الفرضيات التي نفترضها في هذا الاتجاه صحيحة أم خاطئة؟ من ذلك مثلاً: هل تم فهم القضايا القرآنية في ضوء أسس صحيحة؟ وهل فهمنا جميع أرضيَّاتها وأبعادها أم اقتصرنا على مجرد فهم المعنى الظاهري للقضية؟ وما إلى ذلك من الأسئلة الأخرى. والنقطة الهامة هي أن المسألة المفروضة في هذا الاتجاه برمّتها لا تشمل جميع المسائل الكلامية التي نروم الدفاع عنها، وإنما نروم البحث في الفرضية الصحيحة من الخاطئة فقط، والنظر في هذا الموضع إنما يمكن بلوغ هذا الهدف من خلال الاستدلال العقلي.