حياة ألبرتو مانغويل المتخيلة.. العالم أجمل بين دفتي كتاب! 2/1

لا يمل الكاتب والمترجم والروائي الكندي الأرجنتيني ألبرتو مانغويل من الكتابة عن «الكتب والمكتبات وفعل القراءة». فشهرته الواسعة لم تأتِ من الروايات أو المقالات أو الترجمات التي أنجزها، وله في هذه الحقول مؤلفات عدة، بل أتت تحديدًا من شغفه بالكتاب؛ إذ تحول هذا الشغف، وعلى امتداد نحو نصف قرن، إلى مشروع معرفي وثقافي وجمالي تجلى في كتب عدة حول الكتاب، ومنها: «تاريخ القراءة» و«ذاكرة القراءة» و«المكتبة في الليل» و«يوميات القراءة».. وغيرها من المؤلفات المماثلة التي أظهرت قدرته على تقديم رؤى معمقة حول دور الكتب والقراءة في حياة الإنسان.
وعلى الرغم من هذه الشهرة التي حظي بها مانغويل ككاتب موسوعي ترجمت كتبه إلى لغات عدة، بينها اللغة العربية التي استقبلت معظم مؤلفاته، فإن مانغويل، المولود في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس عام 1948م، يَعُدّ نفسه «قارئًا» أكثر من كونه كاتبًا. فهو يعد القراءة «فنًّا وتجربة شخصية» تحمل الكثير من الأبعاد والتأثيرات في الفرد، ويسعى من خلال كتاباته إلى فهم هذه الأبعاد ومشاركة كل هذه التجارب مع الآخرين، وهو ما منح أعماله طابعًا «فريدًا ومميزًا»، وخوّله لأن يكون أحد أبرز الكتّاب؛ ذلك أن مؤلفاته تعد بمنزلة حوار مستمر ومتواصل مع السرديات الكلاسيكية في الأدب العالمي ومع تراث الأسلاف، وخصوصًا كتابه الأشهر «تاريخ القراءة»، الذي صدر عام 1996م، وتُرجمَ إلى أكثر من 35 لغة، ودخل لوائح الكتب الأكثر مبيعًا على مستوى العالم.

القراءة كطقس يومي

وإذا كان الناس يقرؤون للمتعة أو لتزجية الوقت أو لزيادة المعرفة أو لإنجاز بحث علمي معين، فإن القراءة لدى مانغويل تحول إلى هوس وعشق خاص، وطقس يومي، وهو ما يشرحه مانغويل في معظم كتبه، مستخدمًا عبارات عاطفية ووجدانية في علاقته بالكتب والمكتبات، تمامًا كما هو الحال لمواطنه ومعلمه الأول الشاعر والكاتب الأرجنتيني بورخيس الذي كان يتخيل أن «الفردوس» لا يمكن أن يكون إلا على شكل مكتبة كونية مذهلة. ومانغويل، بدوره، شيّد عالمًا متخيلًا حدوده «جدران مكتبة»، وأظهر في مؤلفاته كيف تضفي كلمات الكتب التناغم على العالم وتمنحنا «أمكنة آمنة قليلة، حقيقيةً كالورق ومنعشة كالحبر».

ألبرتو مانغويل

ويبدو أن تعلق مانغويل بالقراءة والكتب يعود إلى فترة مراهقته وصباه حينما كان يقرأ الكتب لبورخيس (1899- 1986م) الذي فقد بصره عندما تقدم به العمر، فكان يستعين بأشخاص آخرين كي يقرؤوا له بصوت عالٍ. وكان مانغويل من بين قرائه المتطوعين في ستينيات القرن الماضي، وأصدر كتابًا عن هذه التجربة بعنوان: «مع بورخس»، مبينًا تأثيرات تلك العلاقة المبكرة مع أحد أبرز الكتاب على شخصيته وخياراته في الحياة.
في كتاب «حياة متخيلة» الصادر حديثًا عن دار الساقي بترجمة مالك سلمان، سنتعرف عبر 207 صفحات إلى المزيد من آراء وطروحات وأفكار مانغويل عبر حوار طويل أجرته معه الناقدة والصحافية السويسرية، المقيمة في ألمانيا، سيغلندة غايزل التي تصحب القارئ في رحلة «استثنائية» تنجح خلالها في رسم «بورتريه»، شخصي ومهني، تعجّ بالتفاصيل عن طفولة مانغويل، وعلاقته بوالديه وإخوته، وتأثير مربيته الألمانية إيلين فيه، وتجربته النادرة في إدارة المكتبة الوطنية في الأرجنتين، وتكوينه الفكري، ومكتبتِه التي ضمّت أربعين ألف كتاب أنشأها في منزل قديم ببلدة فرنسية، قبل أن يضطر إلى تفكيكها ووضع محتوياتها في المخازن إلى أن عثر على عرض من البرتغال بضم هذه الكتب في مكتبة عمومية بالعاصمة لشبونة. ويتحدث كذلك عن تأثير اللغات في الخيال، والأدب بوصفه وسيلةً علاجية، ومحطات إقامته التي توزعت بين الأرجنتين وكندا وفرنسا والولايات المتحدة، وقضايا العرقية والديمقراطية… وغير ذلك من المواضيع التي تأتي بمنزلة سيرة ذاتية لمانغويل.

المربية إيلين

يتحدث مانغويل في الكتاب عن طفولته التي قضاها وحيدًا من دون أصدقاء، فهو الطفل الأكبر الذي بقي بعيدًا من إخوته معظم الوقت: «لم أكن على احتكاك مع أي أطفال. لا أعرف لماذا لم يعرّفوني إلى أطفال آخرين لألعب معهم؟». ويصف ظروف تلك المرحلة العمرية الحساسة من حياته بأنها «فريدة»، فقد عاش تقريبًا بلا رعاية أب أو عطف أم، بل على يد مربيته إيلين حتى سن الثامنة.
وفي نوع من المكاشفة الجريئة، يعترف مانغويل بأن والدته بدت أنانية في سلوكها، ولا تعنى إلا بحياتها الاجتماعية، وحفلاتها التي تفضلها على كل اهتمام بأطفالها، أما والده فلم يكن أحسن حالًا، بل كان يعيش حياة مزدوجة مقسمًا بين عائلتين، فقد كان متزوجًا من امرأة أخرى غير والدته، ولم يكن يعبأ باحتياجات أطفاله ولا يعرف عن تفاصيل حياتهم إلا القليل.
ومع هذا الإقرار بعدم اكتراث أبويه به، فإن مانغويل يعترف، في الآن ذاته، بفضل مربيته الألمانية إيلين عليه، التي كان تخاطبه بالألمانية والإنجليزية، ويستعيد، في الكتاب، سنوات حياته المبكرة معها بنوع من الوفاء والتوقير: لم أنشأ في كنف والدي، بل على يدي مربيتي إيلين.. قرأنا معًا مقاطع من الإبريق المكسور، وحفظت بعض قصائد غوته وهاينه. كانت تقرأ لي حكايا الأخوين غريم، و«أليس في بلاد العجائب»، وقصصًا من «ألف ليلة وليلة». ويستدرك، هنا، قائلًا: «لم تكن إيلين تمنعني من قراءة أي شيء، فهي لم تقل قط هذا ليس لك، هذا أدب مكتوب للبالغين»، في إشارة إلى أن قصص ألف ليلة وليلة تضم حكايات لم تكن مناسبة له، آنذاك، وهو طفل.
ويستذكر مانغويل تلك اللحظات التي استطاع فيها القراءة وفك الحروف وهو في الرابعة: «شعرت بأنني ساحر؛ إذ يمكنني تحويل بقع الحبر إلى كلمات. ولم أعد بحاجة لانتظار إيلين لتقرأ لي كي أستمر في اكتشاف الحكاية». ويشير مانغويل إلى سلبية وحيدة لدى إيلين وهي أنها كانت تفتقر إلى أي حس «للفكاهة أو النكتة»، قائلًا: إنهما عندما كانا يتابعان، مثلًا، أفلام تشارلي شابلن و«لوريل وهاردي»، فإن إيلين لم تكن تشاركه الضحك، بل تحاول مناقشة المشاهد الكوميدية الخفيفة بالأسئلة والاستفسارات الجادة.


الكاتب : إبراهيم عبدي

  

بتاريخ : 24/07/2024